اصول
اصول 3 (از «مسأله اجتماع الأمر و النهی» تا پایان کتاب)
اصول الفقه مع تعلیق الزارعی السبزواری
[المقصد الثانی : الملازمات العقلیّه]
[الباب الثانی : غیرالمستقلّات العقلیّه]
المسأله الرابعه : اجتماع الأمر و النهی
تحریر محلّ النزاع
واختلف الأصولیّون من القدیم فی أنّه هل یجوز اجتماع الأمر والنهی فی واحد أو لا یجوز (1)؟
ذهب إلی الجواز أغلب الأشاعره (2) ، وجمله من أصحابنا ، أوّلهم الفضل بن شاذان علی ما هو المعروف عنه (3) ، وعلیه جماعه من محقّقی المتأخّرین (4). وذهب إلی الامتناع أکثر المعتزله (5) ، وأکثر أصحابنا (6).
[شماره صفحه واقعی : 320]
ص: 821
وکأنّ المسأله – فیما یبدو من عنوانها – من الأبحاث التافهه (1) ؛ إذ لا یمکن أن نتصوّر النزاع فی إمکان اجتماع الأمر والنهی فی واحد حتی لو قلنا بعدم امتناع التکلیف بالمحال ، کما تقوله الأشاعره ؛ لأنّ التکلیف هنا نفسه محال ، وهو الأمر والنهی بشیء واحد. وامتناع ذلک من أوضح الواضحات ، وهو محلّ وفاق بین الجمیع.
إذن ، فکیف صحّ هذا النزاع من القوم؟! وما معناه؟
والجواب أنّ التعبیر باجتماع الأمر والنهی من خداع العناوین ، فلا بدّ من توضیح مقصودهم من البحث بتوضیح الکلمات الوارده فی هذا العنوان ، وهی کلمه «الاجتماع ، الواحد ، الجواز». ثمّ ینبغی أن نبحث أیضا عن قید آخر لتصحیح النزاع ، وهو قید «المندوحه» الذی أضافه بعض المؤلّفین (2) ، وهو علی حقّ. وعلیه نقول :
1. «الاجتماع» والمقصود منه هو الالتقاء الاتفاقیّ بین المأمور به والمنهیّ عنه فی شیء واحد. ولا یفرض ذلک إلاّ حیث یفرض تعلّق الأمر بعنوان ، وتعلّق النهی بعنوان آخر لا ربط له بالعنوان الأوّل ، ولکن قد یتّفق نادرا أن یلتقی العنوانان فی شیء واحد ویجتمعا فیه ، وحینئذ یجتمع – أی یلتقی – الأمر والنهی.
ولکن هذا الاجتماع والالتقاء بین العنوانین علی نحوین :
أ – أن یکون اجتماعا موردیّا ، یعنی أن لا یکون هنا فعل واحد مطابقا لکلّ من العنوانین ، بل یکون هنا فعلان تقارنا وتجاورا فی وقت واحد ، أحدهما یکون مطابقا لعنوان الواجب ، وثانیهما مطابقا لعنوان المحرّم ، مثل النظر إلی الأجنبیّه فی أثناء الصلاه ، فلا النظر هو مطابق عنوان الصلاه ولا الصلاه مطابق عنوان النظر إلی الأجنبیّه ، ولا هما ینطبقان علی فعل واحد ؛ فإنّ مثل هذا الاجتماع الموردیّ لم یقل أحد بامتناعه ، ولیس هو داخلا فی مسأله الاجتماع هذه ، فلو جمع المکلّف بینهما بأن نظر إلی الأجنبیّه فی أثناء
[شماره صفحه واقعی : 321]
ص: 822
الصلاه فقد عصی وأطاع فی آن واحد ، ولا تفسد صلاته.
ب – أن یکون اجتماعا حقیقیّا ، وإن کان ذلک فی النظر العرفیّ ، وفی بادئ الرأی – یعنی أنّه فعل واحد یکون مطابقا لکلّ من العنوانین ، کالمثال المعروف «الصلاه فی المکان المغصوب» ، فإنّ مثل هذا المثال هو محلّ النزاع فی مسألتنا ، المفروض فیه أنّه لا ربط لعنوان الصلاه المأمور به بعنوان الغصب المنهیّ عنه ؛ ولکن قد یتّفق للمکلّف صدفه أن یجمع بینهما بأن یصلّی فی مکان مغصوب ، فیلتقی العنوان المأمور به – وهو الصلاه – مع العنوان المنهیّ عنه – وهو الغصب – ، وذلک فی الصلاه المأتیّ بها فی مکان مغصوب ، فیکون هذا الفعل الواحد مطابقا لعنوان الصلاه ولعنوان الغصب معا. وحینئذ إذا اتّفق ذلک للمکلّف فإنّه یکون هذا الفعل الواحد داخلا فیما هو مأمور به من جهه ، فیقتضی أن یکون المکلّف مطیعا للأمر ممتثلا ، وداخلا فیما هو منهیّ عنه من جهه أخری ، فیقتضی أن یکون المکلّف عاصیا به مخالفا.
2. «الواحد» والمقصود منه الفعل الواحد باعتبار أنّ له وجودا واحدا یکون ملتقی ومجمعا للعنوانین فی مقابل المتعدّد بحسب الوجود ، کالنظر إلی الأجنبیّه والصلاه ، فإنّ وجود أحدهما غیر وجود الآخر ، فإنّ الاجتماع فی مثل هذا یسمّی «الاجتماع الموردیّ» کما تقدّم.
والفعل الواحد بما له من الوجود الواحد إذا کان ملتقی للعنوانین ، فإنّ التقاء العناوین فیه لا یخلو من حالتین : إحداهما : أن یکون الالتقاء بسبب ماهیّته الشخصیّه. وثانیتهما : أن یکون الالتقاء بسبب ماهیّته الکلّیه ، کأن یکون الکلّی نفسه مجمعا للعنوانین ، کالکون الکلّی الذی ینطبق علیه أنّه صلاه وغصب.
وعلیه ، فالمقصود من الواحد فی المقام الواحد فی الوجود (1) ، فلا معنی لتخصیص النزاع بالواحد الشخصیّ (2).
وبما ذکرنا یظهر خروج الواحد بالجنس عن محلّ الکلام ؛ والمراد به ما إذا کان
[شماره صفحه واقعی : 322]
ص: 823
المأمور به والمنهیّ عنه متغایرین وجودا ، ولکنّهما یدخلان تحت ماهیّه واحده ، کالسجود لله والسجود للصنم ، فإنّهما واحد بالجنس باعتبار أنّ کلاّ منهما داخل تحت عنوان السجود ، ولا شکّ فی خروج ذلک عن محلّ النزاع.
3. «الجواز» والمقصود منه الجواز العقلیّ – أی الإمکان المقابل للامتناع – وهو واضح ؛ ویصحّ أن یراد منه الجواز العقلیّ المقابل للقبح العقلیّ ، وهو قد یرجع إلی الأوّل باعتبار أنّ القبیح ممتنع علی الله (تعالی).
والجواز له معان أخر ، کالجواز المقابل للوجوب والحرمه الشرعیّین ، والجواز بمعنی الاحتمال ؛ وکلّها غیر مراده قطعا.
إذا عرفت تفسیر هذه الکلمات الثلاث الوارده فی عنوان المسأله یتّضح لک جیّدا تحریر النزاع فیها ، فإنّ حاصل النزاع فی المسأله یکون أنّه فی مورد التقاء عنوانی المأمور به ، والمنهیّ عنه فی واحد وجودا هل یجوز اجتماع الأمر والنهی؟
ومعنی ذلک : أنّه هل یصحّ أن یبقی الأمر متعلّقا بذلک العنوان المنطبق علی ذلک الواحد ، ویبقی النهی کذلک متعلّقا بالعنوان المنطبق علی ذلک الواحد ، فیکون المکلّف مطیعا وعاصیا معا فی الفعل الواحد ، أو أنّه یمتنع ذلک ولا یجوز ، فیکون ذلک المجتمع للعنوانین إمّا مأمورا به فقط ، أم منهیّا عنه فقط ، أی إنّه إمّا أن یبقی الأمر علی فعلیّته فقط ، فیکون المکلّف مطیعا لا غیر ، أو یبقی النهی علی فعلیّته فقط ، فیکون المکلّف عاصیا لا غیر.
والقائل بالجواز لا بدّ أن یستند فی قوله إلی أحد رأیین :
1. أن یری أنّ العنوان بنفسه هو متعلّق التکلیف ، ولا یسری الحکم إلی المعنون ، فانطباق عنوانین علی فعل واحد لا یلزم منه أن یکون ذلک الواحد متعلّقا للحکمین ، فلا یمتنع الاجتماع – أی اجتماع عنوان المأمور به مع عنوان المنهیّ عنه فی واحد – ؛ لأنّه لا یلزم منه اجتماع نفس الأمر والنهی فی واحد.
2. أن یری أنّ المعنون – علی تقدیر تسلیم أنّه هو متعلّق الحکم حقیقه لا العنوان – ، یکون متعدّدا واقعا ، إذا تعدّد العنوان ؛ لأنّ تعدّد العنوان یوجب تعدّد المعنون بالنظر الدقیق الفلسفیّ ، ففی الحقیقه – وإن کان فعل واحد فی ظاهر الحال صار مطابقا للعنوانین – هناک
[شماره صفحه واقعی : 323]
ص: 824
معنونان کلّ واحد منهما مطابق لأحد العنوانین ، فیرجع اجتماع الوجوب والحرمه بالدقّه العقلیّه إلی الاجتماع الموردیّ الذی قلنا : إنّه لا بأس فیه من الاجتماع.
وعلی هذا ، فلیس هناک واحد بحسب الوجود یکون مجمعا بین العنوانین فی الحقیقه ، بل ما هو مأمور به فی وجوده غیر ما هو منهیّ عنه فی وجوده. ولا تلزم سرایه الأمر إلی ما تعلّق به النهی ، ولا سرایه النهی إلی ما تعلّق به الأمر ، فیکون المکلّف فی جمعه بین العنوانین مطیعا وعاصیا فی آن واحد ، کالناظر إلی الأجنبیّه فی أثناء الصلاه.
وبهذا یتّضح معنی القول بجواز اجتماع الأمر والنهی ، وفی الحقیقه لیس هو قولا باجتماع الأمر والنهی فی واحد ، بل إمّا أنّه یرجع إلی القول باجتماع عنوان المأمور به والمنهیّ عنه فی واحد دون أن یکون هناک اجتماع بین الأمر والنهی ، وإمّا أن یرجع إلی القول بالاجتماع الموردیّ فقط ، فلا یکون اجتماع بین الأمر والنهی ، ولا بین المأمور به والمنهیّ عنه.
وأمّا القائل بالامتناع : فلا بدّ أن یذهب إلی أنّ الحکم یسری من العنوان إلی المعنون وأنّ تعدّد العنوان لا یوجب تعدّد المعنون ؛ فإنّه لا یمکن حینئذ بقاء الأمر والنهی معا وتوجّههما متعلّقین بذلک المعنون الواحد بحسب الوجود ؛ لأنّه یلزم اجتماع نفس الأمر والنهی فی واحد ، وهو مستحیل ، فإمّا أن یبقی الأمر ولا نهی ، أو یبقی النهی ولا أمر.
ولقد أحسن صاحب المعالم فی تحریر النزاع ؛ إذ عبّر بکلمه «التوجّه» بدلا عن کلمه «الاجتماع» فقال : «الحقّ امتناع توجّه الأمر والنهی إلی شیء واحد …» (1).
المسأله من الملازمات العقلیّه غیر المستقلّه
المسأله من الملازمات العقلیّه غیر المستقلّه(2)
ومن التقریر المتقدّم لبیان محلّ النزاع یظهر کیف أنّ المسأله هذه ینبغی أن تدخل فی
[شماره صفحه واقعی : 324]
ص: 825
الملازمات العقلیّه غیر المستقلّه ، فإنّ معنی القول بالامتناع هو تنقیح صغری الکبری العقلیّه القائله بامتناع اجتماع الأمر والنهی فی شیء واحد حقیقیّ.
توضیح ذلک أنّه إذا قلنا بأنّ الحکم یسری من العنوان إلی المعنون ، وأنّ تعدّد العنوان لا یوجب تعدّد المعنون ؛ فإنّه یتنقّح عندنا موضوع اجتماع الأمر والنهی فی واحد الثابتین شرعا ، فیقال علی نهج القیاس الاستثنائیّ هکذا : «إذا التقی عنوان المأمور به والمنهیّ عنه فی واحد بسوء الاختیار ، فإن بقی الأمر والنهی فعلیّین معا ، فقد اجتمع الأمر والنهی فی واحد». وهذه هی الصغری.
ومستند هذه الملازمه فی الصغری هو سرایه الحکم من العنوان إلی المعنون ، وأنّ تعدّد العنوان لا یوجب تعدّد المعنون. وإنّما تفرض هذه الملازمه حیث یفرض ثبوت الأمر والنهی شرعا بعنوانیهما.
ثمّ نقول : «ولکنّه یستحیل اجتماع الأمر والنهی فی واحد». وهذه هی الکبری. وهذه الکبری عقلیّه تثبت فی غیر هذه المسأله.
وهذا القیاس استثنائیّ قد استثنی فیه نقیض التالی ، فیثبت به نقیض المقدّم ، وهو عدم بقاء الأمر والنهی فعلیّین معا.
وأمّا بناء علی الجواز : فیخرج هذا المورد من مورد الالتقاء عن أن یکون صغری لتلک الکبری العقلیّه.
ولا یجب فی کون المسأله أصولیّه من المستقلاّت العقلیّه وغیرها أن تقع صغری للکبری العقلیّه علی تقدیر جمیع الأقوال ، بل یکفی أن تقع صغری علی أحد الأقوال فقط ، فإنّ هذا شأن جمیع المسائل الأصولیّه المتقدّمه اللفظیّه والعقلیّه ، ألا تری أنّ المباحث اللفظیّه کلّها لتنقیح صغری أصاله الظهور ، مع أنّ المسأله لا تقع صغری لأصاله الظهور علی جمیع الأقوال فیها ، کمسأله دلاله صیغه «افعل» علی الوجوب ، فإنّه علی القول بالاشتراک اللفظیّ أو المعنویّ لا یبقی لها ظهور فی الوجوب أو غیره.
ولا وجه لتوهّم کون هذه المسأله فقهیّه ، أو کلامیّه ، أو أصولیّه لفظیّه ، وهو واضح بعد ما قدّمناه من شرح تحریر النزاع ، وبعد ما ذکرناه سابقا فی أوّل هذا الجزء من مناط کون
[شماره صفحه واقعی : 325]
ص: 826
المسأله الأصولیّه من باب غیر المستقلاّت العقلیّه (1).
مناقشه الکفایه فی تحریر النزاع
وبعد ما حرّرناه من بیان النزاع فی المسأله یتّضح ابتناء القول بالجواز فیها علی أحد رأیین : إمّا القول بأنّ متعلّق الأحکام هی نفس العنوانات دون معنوناتها ، وإمّا القول بأنّ تعدّد العنوان یستدعی تعدّد المعنون (2).
فتکون مسأله تعدّد المعنون بتعدّد العنوان وعدم تعدّده حیثیّه تعلیلیّه فی مسألتنا ومن المبادئ التصدیقیّه لها علی أحد احتمالین ، لا أنّها هی نفس محلّ النزاع فی الباب ، فإنّ البحث هنا لیس إلاّ عن نفس الجواز وعدمه ، کما عبّر بذلک کلّ من بحث عن هذه المسأله من القدیم.
ومن هنا تتجلّی المناقشه فیما أفاده فی کفایه الأصول من رجوع محلّ البحث هنا إلی البحث عن استدعاء تعدّد العنوان لتعدّد المعنون وعدمه (3) ، فإنّه فرق عظیم بین ما هو محلّ النزاع وبین ما یبتنی علیه النزاع فی أحد احتمالین ؛ فلا وجه للخلط بینهما وإرجاع أحدهما إلی الآخر ، وإن کان فی هذه المسأله لا بدّ للأصولیّ من البحث عن أنّ تعدّد العنوان هل یوجب تعدّد المعنون؟ باعتبار أنّ هذا البحث لیس ممّا یذکر فی موضع آخر.
قید المندوحه
ذکرنا فیما سبق أنّ بعضهم قیّد النزاع هنا بأن تکون هناک مندوحه فی مقام الامتثال (4).
ومعنی «المندوحه» أن یکون المکلّف متمکّنا من امتثال الأمر فی مورد آخر غیر مورد الاجتماع.
[شماره صفحه واقعی : 326]
ص: 827
ونظر إلی ذلک کلّ من قیّد موضع النزاع بما إذا کان الجمع بین العنوانین بسوء اختیار المکلّف.
وإنّما قیّد بها موضع النزاع للاتّفاق بین الطرفین علی عدم جواز الاجتماع فی صوره عدم وجود المندوحه ، وذلک فیما إذا انحصر امتثال الأمر فی مورد الاجتماع ، لا بسوء اختیار المکلّف.
والسرّ واضح ؛ فإنّه عند الانحصار تستحیل فعلیّه التکلیفین ؛ لاستحاله امتثالهما معا ؛ لأنّه إن فعل ما هو مأمور به فقد عصی النهی ، وإن ترکه فقد عصی الأمر ، فیقع التزاحم حینئذ بین الأمر والنهی.
وظاهر أنّ اعتبار قید المندوحه لازم لما ذکرناه ؛ إذ لیس النزاع جهتیّا – کما ذهب إلیه صاحب الکفایه (1) – ، أی من جهه کفایه تعدّد العنوان فی تعدّد المعنون وعدمه وإن لم یجز الاجتماع من جهه أخری ، حتّی لا نحتاج إلی هذا القید ، بل النزاع – کما تقدّم (2) – هو فی جواز الاجتماع وعدمه من أیّه جهه فرضت ولیس جهتیّا. وعلیه ، فما دام النزاع غیر واقع فی عدم الجواز فی صوره عدم المندوحه فهذه الصوره لا تدخل فی محلّ النزاع فی مسألتنا.
فوجب – إذن – تقیید عنوان المسأله بقید المندوحه کما صنع بعضهم (3).
الفرق بین بابی التعارض و التزاحم و مسأله الاجتماع
من المسائل العویصه مشکله التفرقه بین باب التعارض وباب التزاحم ، ثمّ بینهما وبین مسأله الاجتماع. ولا بدّ من بیان فرق بینها لتنکشف جیّدا حقیقه النزاع فی مسألتنا «مسأله الاجتماع».
وجه الإشکال فی التفرقه أنّه لا شبهه فی أنّ من موارد التعارض بین الدلیلین ما إذا کان
[شماره صفحه واقعی : 327]
ص: 828
بین دلیلی الأمر والنهی عموم وخصوص من وجه ، وذلک من أجل العموم من وجه بین متعلّقی الأمر والنهی – أی العموم من وجه الذی یقع بین عنوان المأمور به ، وعنوان المنهیّ عنه – ، بینما أنّ التزاحم بین الوجوب والحرمه من موارده أیضا العموم من وجه بین الأمر والنهی من هذه الجهه. وکذلک مسأله الاجتماع موردها منحصر فیما إذا کان بین عنوانی المأمور به والمنهیّ عنه عموم من وجه.
فیتّضح أنّه مورد واحد – وهو مورد العموم من وجه بین متعلّقی الأمر والنهی – یصحّ أن یکون موردا للتعارض وباب التزاحم ومسأله الاجتماع ، فما المائز والفارق؟
فنقول : إنّ العموم من وجه إنّما یفرض بین متعلّقی الأمر والنهی فیما إذا کان العنوانان یلتقیان فی فعل واحد ، سواء کان العنوان بالنسبه إلی الفعل من قبیل العنوان ومعنونه ، أو من قبیل الکلّی ، وفرده (1) ؛ وهذا بدیهیّ ، ولکنّ العنوان المأخوذ فی متعلّق الخطاب من
[شماره صفحه واقعی : 328]
ص: 829
جهه عمومه علی نحوین :
1. أن یکون ملحوظا فی الخطاب ، فانیا فی مصادیقه علی وجه یسع جمیع الأفراد بما لها من الکثرات والممیّزات ، فیکون شاملا فی سعته لموضع الالتقاء مع العنوان المحکوم بالحکم الآخر ، فیعدّ فی حکم المتعرّض لحکم خصوص موضع الالتقاء ، ولو من جهه کون موضع الالتقاء متوقّع الحدوث علی وجه یکون من شأنه أن ینبّه علیه المتکلّم فی خطابه ، فیکون أخذ العنوان علی وجه یسع جمیع الأفراد بما لها من الکثرات والممیّزات لهذا الغرض من التنبیه ونحوه. ولا نضایقک أن تسمّی مثل هذا العموم «العموم الاستغراقیّ» ، کما صنع بعضهم (1).
والمقصود أنّ العنوان إذا أخذ فی الخطاب علی وجه یسع جمیع الأفراد بما لها من الکثرات والممیّزات ، یکون فی حکم المتعرّض لحکم کلّ فرد من أفراده ، فیکون نافیا بالدلاله الالتزامیّه لکلّ حکم مناف لحکمه.
2. أن یکون العنوان ملحوظا فی الخطاب ، فانیا فی مطلق الوجود المضاف إلی طبیعه العنوان من دون ملاحظه کونه علی وجه یسع جمیع الأفراد – أی لم تلحظ فیه الکثرات والممیّزات فی مقام الأمر بوجود الطبیعه ، ولا فی مقام النهی عن وجود الطبیعه الأخری – ، فیکون المطلوب فی الأمر والمنهیّ عنه فی النهی صرف وجود الطبیعه. ولیسمّ مثل هذا العموم «العموم البدلیّ» ، کما صنع بعضهم (2).
فإن کان العنوان مأخوذا فی الخطاب علی النحو الأوّل فإنّ موضع الالتقاء یکون العامّ حجّه فیه ، کسائر الأفراد الأخری ، بمعنی أن یکون متعرّضا بالدلاله الالتزامیّه لنفی أیّ حکم آخر ، مناف لحکم العامّ بالنسبه إلی الأفراد وخصوصیّات المصادیق.
وفی هذه الصوره لا بدّ أن یقع التعارض بین دلیلی الأمر والنهی فی مقام الجعل والتشریع ؛ لأنّهما یتکاذبان بالنسبه إلی موضع الالتقاء من جهه الدلاله الالتزامیّه فی کلّ منهما علی نفی الحکم الآخر بالنسبه إلی موضع الالتقاء.
[شماره صفحه واقعی : 329]
ص: 830
والتحقیق أنّ التعارض بین العامّین من وجه إنّما یقع بسبب دلاله کلّ منهما بالدلاله الالتزامیّه علی انتفاء حکم الآخر ، ومن أجلها یتکاذبان ، وإلاّ فالدلالتان المطابقیّتان بأنفسهما فی العامّین من وجه لا یتکاذبان ، فلا تتعارضان ما لم یلزم من ثبوت مدلول إحداهما نفی مدلول الأخری ، فلیس التنافی بین المدلولین المطابقیّین إلاّ تنافیا بالعرض لا بالذات.
ومن هنا یعلم أنّ هذا الفرض – وهو فرض کون العنوان مأخوذا فی الخطاب علی النحو الأوّل – ینحصر فی کونه موردا للتعارض بین الدلیلین ، ولا تصل النوبه إلی فرض التزاحم بین الحکمین فیه ، ولا إلی النزاع فی جواز اجتماع الأمر والنهی وعدمه ؛ لأنّ مقتضی القاعده فی باب التعارض هو تساقط الدلیلین عن حجّیتهما بالنسبه إلی مورد الالتقاء ، فلا یجوز فیه الوجوب ولا الحرمه. ولا یفرض التزاحم ، أو مسأله النزاع فی جواز الاجتماع إلاّ حیث یفرض شمول الدلیلین لمورد الالتقاء وبقاء حجّیتهما بالنسبه إلیه ، أی إنّه لم یکن تعارض بین الدلیلین فی مقام الجعل والتشریع.
وإن کان العنوان مأخوذا علی النحو الثانی ، فهو مورد التزاحم ، أو مسأله الاجتماع ، ولا یقع بین الدلیلین تعارض حینئذ. وذلک مثل قوله : «صلّ» ، وقوله : «لا تغصب» ، باعتبار أنّه لم یلحظ فی کلّ من خطاب الأمر والنهی الکثرات والممیّزات علی وجه یسع العنوان جمیع الأفراد ، وإن کان نفس العنوان فی حدّ ذاته وإطلاقه شاملا لجمیع الأفراد ؛ فإنّه فی مثله یکون الأمر متعلّقا بصرف وجود الطبیعه للصلاه ، وامتثاله یکون بفعل أیّ فرد من الأفراد ، فلم یکن ظاهرا فی وجوب الصلاه حتی فی مورد الغصب علی وجه یکون دالاّ بالدلاله الالتزامیّه علی انتفاء حکم آخر فی هذا المورد لیکون نافیا لحرمه الغصب فی المورد. وکذلک النهی یکون متعلّقا بصرف طبیعه الغصب ، فلم یکن ظاهرا فی حرمه الغصب حتّی فی مورد الصلاه علی وجه یکون دالاّ بالدلاله الالتزامیّه علی انتفاء حکم آخر فی هذا المورد ؛ لیکون نافیا لوجوب الصلاه.
وفی مثل هذین الدلیلین – إذا کانا علی هذا النحو – یکون کلّ منهما أجنبیّا فی عموم عنوان متعلّق الحکم فیه عن عنوان متعلّق الحکم الآخر – أی إنّه غیر متعرّض بدلالته
[شماره صفحه واقعی : 330]
ص: 831
الالتزامیّه لنفی الحکم الآخر – ، فلا یتکاذبان فی مقام الجعل والتشریع ، فلا یقع التعارض بینهما ، إذ لا دلاله التزامیّه لکلّ منهما علی نفی الحکم الآخر فی مورد الالتقاء ، ولا تعارض بین الدلالتین المطابقیّتین بما هما ؛ لأنّ المفروض أنّ المدلول المطابقیّ من کلّ منهما هو الحکم المتعلّق بعنوان أجنبیّ فی نفسه عن العنوان المتعلّق للحکم الآخر.
وحینئذ إذا صادف أن ابتلی المکلّف بجمعهما علی نحو الاتّفاق فحاله لا یخلو عن أحد أمرین : إمّا أن تکون له مندوحه من الجمع بینهما ، ولکنّه هو الذی جمع بینهما بسوء اختیاره وتصرّفه ، وإمّا أن لا تکون له مندوحه من الجمع بینهما.
فإن کان الأوّل فإنّ المکلّف حینئذ یکون قادرا علی امتثال کلّ من التکلیفین ، فیصلّی ویترک الغصب ، وقد یصلّی ویغصب فی فعل آخر. فإذا جمع بینهما بسوء اختیاره بأن صلّی فی مکان مغصوب ، فهنا یقع النزاع فی جواز الاجتماع بین الأمر والنهی ، فإن قلنا بالجواز کان مطیعا وعاصیا فی آن واحد ، وإن قلنا بعدم الجواز فإنّه : إمّا أن یکون مطیعا لا غیر إذا رجّحنا جانب الأمر ، أو عاصیا لا غیر إذا رجّحنا جانب النهی ؛ لأنّه حینئذ یقع التزاحم بین التکلیفین فیرجع فیه إلی أقوی الملاکین.
وإن کان الثانی فإنّه لا محاله یقع التزاحم بین التکلیفین الفعلیّین ؛ لأنّه – حسب الفرض – لا معارضه بین الدلیلین فی مقام الجعل والإنشاء بل المنافاه وقعت من عدم قدره المکلّف علی التفریق بین الامتثالین ، فیدور الأمر حینئذ بین امتثال الأمر وبین امتثال النهی ؛ إذ لا یمکنه امتثالهما معا من جهه عدم المندوحه.
هذا هو الحقّ الذی ینبغی أن یعوّل علیه فی سرّ التفریق بین بابی التعارض والتزاحم ، وبینهما وبین مسأله الاجتماع فی مورد العموم من وجه بین متعلّقی الخطابین – خطاب الوجوب والحرمه – ، ولعلّه یمکن استفادته من مطاوی کلماتهم وإن کانت عباراتهم تضیق عن التصریح بذلک ، بل اختلفت کلمات أعلام أساتذتنا رحمهم الله فی وجه التفریق.
فقد ذهب صاحب الکفایه إلی «أنّه لا یکون المورد من باب الاجتماع إلاّ إذا أحرز فی کلّ واحد من متعلّقی الإیجاب والتحریم مناط حکمه مطلقا ، حتّی فی مورد التصادق والاجتماع ، وأمّا إذا لم یحرز مناط کلّ من الحکمین فی مورد التصادق مع العلم بمناط أحد
[شماره صفحه واقعی : 331]
ص: 832
الحکمین بلا تعیین فالمورد یکون من باب التعارض ؛ للعلم الإجمالیّ حینئذ بکذب أحد الدلیلین الموجب للتنافی بینهما عرضا (1)».
هذا خلاصه رأیه رحمه الله ، فجعل إحراز مناط الحکمین فی مورد الاجتماع وعدمه هو المناط فی التفرقه بین مسأله الاجتماع وباب التعارض ، بینما أنّ المناط عندنا فی التفرقه بینهما هو دلاله الدلیلین بالدلاله الالتزامیّه علی نفی الحکم الآخر وعدمها ، فمع هذه الدلاله یحصل التکاذب بین الدلیلین ، فیتعارضان ، وبدونها لا تعارض ، فیدخل المورد فی مسأله الاجتماع.
ویمکن دعوی التلازم بین المسلکین فی الجمله ؛ لأنّه مع تکاذب الدلیلین من ناحیه دلالتهما الالتزامیّه لا یحرز وجود مناط الحکمین فی مورد الاجتماع ، کما أنّه مع عدم تکاذبهما یمکن إحراز وجود المناط لکلّ من الحکمین فی مورد الاجتماع ، بل لا بدّ من إحراز مناط الحکمین بمقتضی إطلاق الدلیلین فی مدلولهما المطابقیّ.
وأمّا شیخنا النائینیّ : فقد ذهب إلی «أنّ مناط دخول المورد فی باب التعارض أن تکون الحیثیّتان فی العامّین من وجه حیثیّتین تعلیلیّتین ؛ لأنّه حینئذ یتعلّق الحکم فی کلّ منهما بنفس ما یتعلّق به الآخر ، فیتکاذبان ، وأمّا إذا کانتا تقییدیّتین : فلا یقع التعارض بینهما ، ویدخلان حینئذ فی مسأله الاجتماع مع المندوحه ، وفی باب التزاحم مع عدم المندوحه (2)».
ونحن نقول : فی الحیثیّتین التقییدیّتین إذا کان بین الدلالتین تکاذب من أجل دلالتهما الالتزامیّه علی نفی الحکم الآخر – علی نحو ما فصّلناه – فإنّ التعارض بینهما لا محاله واقع ، ولا تصل النوبه فی هذا المورد للدخول فی مسأله الاجتماع.
ولنا مناقشه معه فی صوره الحیثیه التعلیلیّه ، یطول شرحها ، ولا یهمّ التعرّض لها الآن ، وفیما ذکرناه الکفایه ، وفوق الکفایه للطالب المبتدئ.
[شماره صفحه واقعی : 332]
ص: 833
الحقّ فی المسأله
بعد ما قدّمنا – من توضیح تحریر النزاع وبیان موضع النزاع – نقول : إنّ الحقّ فی المسأله هو «الجواز». وقد ذهب إلی ذلک جمع من المحقّقین المتأخّرین (1).
وسندنا یبتنی علی توضیح واختیار ثلاثه أمور مترتّبه :
أوّلا : أنّ متعلّق التکلیف – سواء کان أمرا أو نهیا – لیس هو المعنون (2) ، أی الفرد الخارجیّ للعنوان بما له من الوجود الخارجیّ ؛ فإنّه یستحیل ذلک ، بل متعلّق التکلیف دائما وأبدا هو العنوان ، علی ما سیأتی توضیحه (3).
واعتبر ذلک بالشوق ، فإنّ الشوق یستحیل أن یتعلّق بالمعنون ؛ لأنّه إمّا أن یتعلّق به حال عدمه أو حال وجوده ، وکلّ منهما لا یکون ؛ أمّا الأوّل : فیلزم تقوّم الموجود بالمعدوم ، وتحقّق المعدوم بما هو معدوم – لأنّ المشتاق إلیه له نوع من التحقّق بالشوق إلیه – وهو محال واضح ؛ وأمّا الثانی : فلأنّه یکون الاشتیاق إلیه تحصیلا للحاصل وهو محال ؛ فإذن لا یتعلّق الشوق بالمعنون لا حال وجوده ، ولا حال عدمه.
مضافا إلی أنّ الشوق من الأمور النفسیّه ، ولا یعقل أن یتشخّص ما فی النفس بدون متعلّق ما ، کجمیع الأمور النفسیّه ، کالعلم ، والخیال ، والوهم ، والإراده ، ونحوها ، ولا یعقل أن یتشخّص بما هو خارج عن أفق النفس من الأمور العینیّه ؛ فلا بدّ أن یتشخّص بالشیء المشتاق إلیه بما له من الوجود العنوانیّ الفرضیّ ، وهو المشتاق إلیه أوّلا وبالذات ، وهو الموجود بوجود الشوق ، لا بوجود آخر وراء الشوق ، ولکن لمّا کان یؤخذ العنوان بما هو حاک ومرآه عمّا فی الخارج – أی عن المعنون – فإنّ المعنون یکون مشتاقا إلیه ثانیا و
[شماره صفحه واقعی : 333]
ص: 834
بالعرض ، نظیر العلم ؛ فإنّه لا یعقل أن یتشخّص بالأمر الخارجیّ ، والمعلوم بالذات دائما وأبدا هو العنوان الموجود بوجود العلم ، ولکن بما هو حاک ومرآه عن المعنون.
وأمّا المعنون لذلک العنوان فهو معلوم بالعرض باعتبار فناء العنوان فیه.
وفی الحقیقه إنّما یتعلّق الشوق بشیء إذا کان له جهه وجدان وجهه فقدان ، فلا یتعلّق بالمعدوم من جمیع الجهات ، ولا بالموجود من جمیع الجهات. وجهه الوجدان فی المشتاق إلیه هو العنوان الموجود بوجود الشوق فی أفق النفس باعتبار ما له من وجود عنوانیّ فرضیّ. وجهه الفقدان فی المشتاق إلیه هو عدمه الحقیقیّ فی الخارج ، ومعنی الشوق إلیه هو الرغبه فی إخراجه من حدّ الفرض والتقدیر إلی حدّ الفعلیّه والتحقیق.
وإذا کان الشوق علی هذا النحو ، فکذلک حال الطلب والبعث بلا فرق ، فیکون حقیقه طلب الشیء هو تعلّقه بالعنوان لإخراجه من حدّ الفرض والتقدیر إلی حدّ الفعلیّه والتحقیق (1).
ثانیا : أنّا لمّا قلنا بأنّ متعلّق التکلیف هو العنوان لا المعنون لا نعنی أنّ العنوان بما له من الوجود الذهنیّ یکون متعلّقا للطلب ؛ فإنّ ذلک باطل بالضروره ؛ لأنّ مثار الآثار ومتعلّق الغرض والذی تترتّب علیه المصلحه والمفسده هو المعنون لا العنوان ؛ بل نعنی أنّ المتعلّق هو العنوان حال وجوده الذهنیّ ، لا أنّه بما له من الوجود الذهنیّ أو هو مفهوم ، ومعنی تعلّقه بالعنوان حال وجوده الذهنیّ أنّه یتعلّق به نفسه باعتبار أنّه مرآه عن المعنون وفان فیه ، فتکون التخلیه فیه عن الوجود الذهنیّ عین التحلیه به.
ثالثا : أنّا إذ نقول : «إنّ المتعلّق للتکلیف هو العنوان بما هو مرآه عن المعنون ، وفان فیه» لا نعنی أنّ المتعلّق الحقیقیّ للتکلیف هو المعنون ، وأنّ التکلیف یسری من العنوان إلی المعنون باعتبار فنائه فیه – کما قیل (2) – ، فإنّ ذلک باطل بالضروره أیضا ؛ لما تقدّم أنّ المعنون یستحیل أن یکون متعلّقا للتکلیف بأیّ حال من الأحوال ، وهو محال حتّی لو کان بتوسّط العنوان ، فإنّ توسّط العنوان لا یخرجه عن استحاله تعلّق التکلیف به ؛ بل نعنی
[شماره صفحه واقعی : 334]
ص: 835
ونقول : إنّ الصحیح أنّ متعلّق التکلیف هو العنوان بما هو مرآه وفان فی المعنون علی أن یکون فناؤه فی المعنون هو المصحّح لتعلّق التکلیف به فقط ؛ إذ إنّ الغرض إنّما یقوم بالمعنون المفنیّ فیه ، لا أنّ الفناء یجعل التکلیف ساریا إلی المعنون ومتعلّقا به. وفرق کبیر بین ما هو مصحّح لتعلّق التکلیف بشیء ، وبین ما هو بنفسه متعلّق التکلیف. وعدم التفرقه بینهما هو الذی أوهم القائلین بأنّ التکلیف یسری إلی المعنون باعتبار فناء العنوان فیه ، ولا یزال هذا الخلط بین ما هو بالذات وما هو بالعرض مثار کثیر من الاشتباهات التی تقع فی علمی الأصول والفلسفه. والفناء والآلیّه فی الملاحظه هو الذی یوقع الاشتباه والخلط ، فیعطی ما للعنوان للمعنون وبالعکس.
وإذا عسر علیک تفهّم ما نرمی إلیه فاعتبر ذلک فی مثال الحرف حینما نحکم علیه بأنّه لا یخبر عنه ؛ فإنّ عنوان الحرف ومفهومه اسم یخبر عنه ، کیف وقد أخبر بأنّه لا یخبر عنه؟ ولکن إنّما صحّ الإخبار عنه بذلک فباعتبار فنائه فی المعنون ؛ لأنّه هو الذی له هذه الخاصیّه ، ویقوم به الغرض من الحکم ، ومع ذلک لا یجعل ذلک کون المعنون – وهو الحرف الحقیقیّ – موضوعا للحکم حقیقه أوّلا وبالذات ؛ فإنّ الحرف الحقیقیّ یستحیل أن یکون موضوعا للحکم وطرفا للنسبه بأیّ حال من الأحوال ولو بتوسّط شیء ، کیف وحقیقته النسبه والربط ، وخاصّته أنّه لا یخبر عنه؟. وعلیه ، فالمخبر عنه أوّلا وبالذات هو عنوان الحرف ، لکن لا بما هو مفهوم موجود فی الذهن ؛ فإنّه بهذا الاعتبار یخبر عنه ، بل بما هو فان فی المعنون وحاک عنه ، فالمصحّح للإخبار عنه بأنّه لا یخبر عنه هو فناؤه فی معنونه ، فیکون الحرف الحقیقیّ المعنون مخبرا عنه ثانیا وبالعرض ، وإن کان الغرض من الحکم إنّما یقوم بالمفنیّ فیه ، وهو الحرف الحقیقیّ.
وعلی هذا یتّضح جلیّا کیف أنّ دعوی سرایه الحکم أوّلا وبالذات من العنوان إلی المعنون منشؤها الغفله [عن التفرقه] بین ما هو المصحّح للحکم علی موضوع باعتبار قیام الغرض بذلک المصحّح ، فیجعل الموضوع عنوانا حاکیا عنه ، وبین ما هو الموضوع للحکم القائم به الغرض ، فالمصحّح للحکم شیء والمحکوم علیه والمجعول موضوعا شیء آخر. ومن العجیب أن یصدر مثل هذه الغفله من بعض أهل الفنّ فی المعقول.
[شماره صفحه واقعی : 335]
ص: 836
نعم ، إذا کان القائل بالسرایه یقصد أنّ العنوان یؤخذ فانیا فی المعنون ، وحاکیا عنه ، وأنّ الغرض إنّما یقوم بالمعنون فذلک حقّ ونحن نقول به ، ولکن ذلک لا ینفعه فی الغرض الذی یهدف إلیه ؛ لأنّا نقول بذلک من دون أن نجعل متعلّق التکلیف نفس المعنون ، وإنّما یکون متعلّقا له ثانیا وبالعرض ، کالمعلوم بالعرض – کما أشرنا إلیه فیما سبق – ، فإنّ العلم إنّما یتعلّق بالمعلوم بالذات ، ویتقوّم به ، ولیس هو إلاّ العنوان الموجود بوجود علمیّ ، ولکن باعتبار فنائه فی معنونه یقال للمعنون : «إنّه معلوم» ، ولکنّه فی الحقیقه هو معلوم بالعرض لا بالذات ، وهذا الفناء هو الذی یخیّل الناظر أنّ المتعلّق الحقیقیّ للعلم هو المعنون ، ولقد أحسنوا فی تعریف العلم بأنّه «حصول صوره الشیء لدی العقل ، لا حصول نفس الشیء» ، فالمعلوم بالذات هو الصوره ، والمعلوم بالعرض نفس الشیء الذی حصلت صورته لدی العقل.
وإذا ثبت ما تقدّم ، واتّضح ما رمینا إلیه – من أنّ متعلّق التکلیف أوّلا وبالذات هو العنوان وأنّ المعنون متعلّق له بالعرض – یتّضح لک الحقّ جلیّا فی مسألتنا «مسأله اجتماع الأمر والنهی» ، وهو أنّ الحقّ جواز الاجتماع.
ومعنی جواز الاجتماع أنّه لا مانع من أن یتعلّق الإیجاب بعنوان ، ویتعلّق التحریم بعنوان آخر ، وإذا جمع المکلّف بینهما صدفه بسوء اختیاره فإنّ ذلک لا یجعل الفعل الواحد المعنون لکلّ من العنوانین متعلّقا للإیجاب والتحریم إلاّ بالعرض ، ولیس ذلک بمحال ؛ فإنّ المحال إنّما هو أن یکون الشیء الواحد بذاته متعلّقا للإیجاب والتحریم.
وعلیه ، فیصحّ أن یقع الفعل الواحد امتثالا للأمر من جهه باعتبار انطباق العنوان المأمور به علیه ، وعصیانا للنهی من جهه أخری باعتبار انطباق عنوان المنهیّ عنه علیه. ولا محذور فی ذلک ما دام أنّ ذلک الفعل الواحد لیس بنفسه وبذاته متعلّقا للأمر وللنهی لیکون ذلک محالا ، بل العنوانان الفانیان هما المتعلّقان للأمر والنهی ، غایه الأمر أنّ تطبیق العنوان المأمور به علی هذا الفعل یکون هو الداعی إلی إتیان الفعل ، ولا فرق بین فرد وفرد فی انطباق العنوان علیه ، فالفرد الذی ینطبق علیه العنوان المنهیّ عنه کالفرد الخالی من ذلک فی کون کلّ منهما ینطبق علیه العنوان المأمور به بلا جهه خلل فی الانطباق.
[شماره صفحه واقعی : 336]
ص: 837
ولا فرق فی ذلک بین أن یکون تعدّد العنوان موجبا لتعدّد المعنون ، أو لم یکن ما دام أنّ المعنون لیس هو متعلّق التکلیف بالذات.
نعم ، لو کان العنوان مأخوذا فی المأمور به والمنهیّ عنه علی وجه یسع جمیع الأفراد حتّی موضع الاجتماع – وهو الفرد الذی ینطبق علیه العنوانان – ، ولو کان ذلک من جهه إطلاق الدلیل ؛ فإنّه حینئذ تکون لکلّ من الدلیلین الدلاله الالتزامیّه علی نفی حکم الآخر (1) فی موضع الالتقاء ، فیتکاذبان ، وعلیه ، یقع التعارض بینهما ویخرج المورد عن مسأله الاجتماع کما سبق بیان ذلک مفصّلا.
کما أنّه لو کانت القدره علی الفعل مأخوذه فی متعلّق الأمر علی وجه یکون الواجب هو العنوان المقدور بما هو مقدور فإنّ عنوان المأمور به حینئذ لا یسع ولا یعمّ الفرد غیر المقدور ، فلا ینطبق عنوان المأمور به بما هو مأمور به علی موضع الاجتماع ، ولا یکون هذا الفرد غیر المقدور شرعا من أفراد الطبیعه بما هی مأمور بها.
بخلاف ما إذا کانت القدره مصحّحه فقط لتعلّق التکلیف بالعنوان ، فإنّ عنوان المأمور به یکون مقدورا علیه ولو بالقدره علی فرد واحد من أفراده ؛ ولهذا قلنا : إنّه لو انحصر تطبیق المأمور به فی خصوص موضع الاجتماع – کما فی مورد عدم المندوحه – یقع التزاحم بین الحکمین فی موضع الاجتماع ؛ لأنّه لا یصحّ تطبیق المأمور به علی هذا الفرد – وهو موضع الاجتماع – إلاّ إذا لم یکن النهی فعلیّا ، کما لا یصحّ تطبیق عنوان المنهیّ عنه علیه إلاّ إذا لم یکن الأمر فعلیّا ، فلا بدّ من رفع الید عن فعلیّه أحد الحکمین ، وتقدیم الأهمّ منهما.
ولقد ذهب بعض أعلام أساتذتنا (2) إلی أنّ القدره مأخوذه فی متعلّق التکلیف ، باعتبار أنّ الخطاب بالتکلیف نفسه یقتضی ذلک ؛ لأنّ الأمر إنّما هو لتحریک المکلّف نحو الفعل علی أن یصدر منه بالاختیار ، وهذا نفسه یقتضی کون متعلّقه مقدورا ؛ لامتناع جعل الداعی نحو الممتنع وإن کان الامتناع من ناحیه شرعیّه.
ولکنّنا لم نتحقّق صحّه هذه الدعوی ؛ لأنّ صحّه التکلیف بطبیعه الفعل لا تتوقّف علی أکثر
[شماره صفحه واقعی : 337]
ص: 838
من القدره علی صرف وجود الطبیعه ولو بالقدره علی فرد من أفرادها ، فالعقل هو الذی یحکم بلزوم القدره فی متعلّق التکلیف ، وذلک لا یقتضی القدره علی کلّ فرد من أفراد الطبیعه إلاّ إذا قلنا بأنّ التکلیف یتعلّق بالأفراد أوّلا وبالذات ، وقد تقدّم توضیح فساد هذا الوهم (1).
تعدّد العنوان لا یوجب تعدّد المعنون
بعد ما تقدّم من البیان من أنّ التکلیف إنّما یتعلّق بالعنوان بما هو مرآه عن أفراده لا بنفس الأفراد ، فإنّ القول بالجواز لا یتوقّف علی القول بأنّ تعدّد العنوان یوجب تعدّد المعنون – کما أشرنا إلیه فیما سبق – ؛ لأنّه سواء کان المعنون متعدّدا بتعدّد العنوان أو غیر متعدّد ، فإنّ ذلک لا یرتبط بمسألتنا نفیا وإثباتا ما دام أنّ المعنون لیس متعلّقا للتکلیف أبدا. وعلی کلّ حال فالحقّ هو الجواز ، تعدّد المعنون أو لم یتعدّد.
ولو سلّمنا جدلا بأنّ التکلیف یتعلّق بالمعنون باعتبار سرایه التکلیف من العنوان إلی المعنون – کما هو المعروف – ، فإنّ الحقّ أنّه لا یجب تعدّد المعنون بتعدّد العنوان ، فقد یتعدّد وقد لا یتعدّد ، فلیس هناک قاعده عامّه تقضی بأن نحکم بأنّ تعدّد العنوان یوجب تعدّد المعنون ، کما تکلّف بتنقیحها بعض أعاظم مشایخنا (2) ، وکأنّ نظره الشریف یرمی إلی أنّ العامّین من وجه یمتنع صدقهما علی شیء واحد من جهه واحده ، وإلاّ لما کانا عامّین من وجه ، فلا بدّ أن یفرض هناک جهتان موجودتان فی المجمع : إحداهما : هو الواجب ، وثانیتهما : هو المحرّم ، فیکون الترکیب بین الحیثیّتین ترکیبا انضمامیّا لا اتّحادیّا ، إلاّ إذا کانت الحیثیّتان المفروضتان تعلیلیّتین لا تقییدیّتین ؛ فإنّ الواجب والمحرّم علی هذا الفرض یکونان شیئا واحدا وهو ذات المحیّث بهاتین الحیثیّتین. وحینئذ یقع التعارض بین دلیلی العامّین ، ویخرج المورد عن مسألتنا.
وفی هذا التقریر ما لا یخفی علی الفطن.
أمّا أوّلا : فإنّ العنوان بالنسبه إلی معنونه تاره یکون منتزعا منه باعتبار ضمّ حیثیّه زائده
[شماره صفحه واقعی : 338]
ص: 839
علی الذات ، مباینه لها ماهیه ووجودا ، کالأبیض بالقیاس إلی الجسم ، فإنّ صدق الأبیض علیه باعتبار عرض (1) صفه البیاض علیه الخارجه عن مقام ذاته ؛ وأخری یکون منتزعا منه باعتبار نفس ذاته بلا ضمّ حیثیّه زائده علی الذات ، کالأبیض بالقیاس إلی نفس البیاض ؛ فإنّ نفس البیاض ذاته بذاته منشأ لانتزاع الأبیض منه بلا حاجه إلی ضمّ بیاض آخر إلیه ؛ لأنّه بنفس ذاته أبیض لا ببیاض آخر. ومثل ذلک صفات الکمال لذات واجب الوجود ؛ فإنّها منتزعه من مقام نفس الذات لا بضمّ حیثیّه أخری زائده علی الذات.
وعلیه ، فلا یجب فی کلّ عنوان منتزع أن یکون انتزاعه من الذات باعتبار ضمّ حیثیّه زائده علی الذات.
وأمّا ثانیا : فإنّ العنوان لا یجب فیه أن یکون کاشفا عن حقیقه متأصّله علی وجه یکون انطباق العنوان أو مبدئه علیه من باب انطباق الکلّی علی فرده ، بل من العناوین ما هو مجعول ومعتبر لدی العقل لصرف الحکایه والکشف عن المعنون ، من دون أن یکون بإزائه فی الخارج حقیقه متأصّله ، مثل عنوان «العدم» و «الممتنع» ، بل مثل عنوان «الحرف» و «النسبه» ؛ فإنّه لا یجب فی مثله فرض حیثیّه متأصّله ینتزع منها العنوان. ومثل هذا العنوان المعتبر قد یکون عامّا یصحّ انطباقه علی حقائق متعدّده ، من دون أن یکون بإزائه حیثیّه واقعیه غیر تلک الحقائق المتأصّله. ولعلّ عنوان الغصب من هذا الباب فی انطباقه علی الصلاه – التی تتألّف من حقائق متباینه – وعلی غیرها من سائر التصرّفات ، فکلّ تصرّف فی مال الغیر بدون رضاه غصب مهما کانت حقیقه ذلک التصرّف ، ومن أیّه مقوله کانت.
ثمره المسأله
من الواضح ظهور ثمره النزاع فیما إذا کان المأمور به عباده ؛ فإنّه بناء علی القول بالامتناع ، وترجیح جانب النهی – کما هو المعروف – تقع العباده فاسده مع العلم بالحرمه ، والعمد بالجمع بین المأمور به والمنهیّ عنه – کما هو المفروض فی المسأله – ؛ لأنّه لا أمر مع ترجیح جانب النهی ، ولیس هناک فی ذات المأتیّ به ما یصلح للتقرّب به مع فرض
[شماره صفحه واقعی : 339]
ص: 840
النهی الفعلیّ ؛ لامتناع التقرّب بالمبعّد وإن کان ذات المأتیّ به مشتملا علی المصلحه الذاتیّه ، وقلنا بکفایه قصد المصلحه الذاتیّه فی صحّه العباده.
نعم ، إذا وقع الجمع بین المأمور به والمنهیّ عنه عن جهل بالحرمه قصورا لا تقصیرا أو عن نسیان وکان قد أتی بالفعل علی وجه القربه فالمشهور أنّ العباده تقع صحیحه (1) ؛ ولعلّ الوجه فیه هو القول بکفایه رجحانها الذاتیّ واشتمالها علی المصلحه الذاتیّه فی التقرّب بها مع قصد ذلک وإن لم یکن الأمر فعلیّا.
وقیل (2) : إنّه لا یبقی مصحّح فی هذه الصوره للعباده ، فتقع فاسده ؛ نظرا إلی أنّ دلیلی الوجوب والحرمه علی القول بالامتناع یصبحان متعارضین ، وإن لم یکونا فی حدّ أنفسهما متعارضین ، فإذا قدّم جانب النهی فکما لا یبقی أمر کذلک لا یحرز وجود المقتضی له وهو المصلحه الذاتیّه فی المجمع ؛ إذ تخصیص دلیل الأمر بما عدا المجمع یجوز أن یکون لوجود المانع فی المجمع عن شمول الأمر له ، ویجوز أن یکون لانتفاء المقتضی للأمر فلا یحرز وجود المقتضی.
هذا بناء علی الامتناع وتقدیم جانب النهی ، وأمّا بناء علی الامتناع وتقدیم جانب الأمر فلا شبهه فی وقوع العباده صحیحه ؛ إذ لا نهی حتّی یمنع من صحّتها ، لا سیّما إذا قلنا بتعارض الدلیلین ؛ بناء علی الامتناع ؛ فإنّه لا یحرز معه المفسده الذاتیّه فی المجمع.
وکذلک الحقّ هو صحّه العباده إذا قلنا بالجواز ؛ فإنّه کما جاز توجّه الأمر والنهی إلی عنوانین مختلفین مع التقائهما فی المجمع فقلنا بجواز الاجتماع فی مقام التشریع ، فکذلک نقول : لا مانع من الاجتماع فی مقام الامتثال أیضا – کما أشرنا إلیه فی تحریر محلّ النزاع (3) – ، حتّی لو کان المعنون للعنوانین واحدا وجودا ، ولم یوجب تعدّد العنوان تعدّده ؛
[شماره صفحه واقعی : 340]
ص: 841
لما عرفت سابقا (1) من أنّ المعنون لا یقع بنفسه متعلّقا للتکلیف ، لا قبل وجوده ولا بعد وجوده ، وإنّما یکون الداعی إلی إتیان الفعل هو تطبیق العنوان المأمور به علیه الذی لیس بمنهیّ عنه ، لا أنّ الداعی إلی إتیانه تعلّق الأمر به ذاته ، فیکون المکلّف فی فعل واحد بالجمع بین عنوانی الأمر والنهی مطیعا للأمر من جهه انطباق العنوان المأمور به [علیه] ، وعاصیا من جهه انطباق العنوان المنهیّ عنه [علیه] ، نظیر الاجتماع الموردیّ ، کما تقدّم توضیحه فی تحریر محلّ النزاع (2).
وقیل : إنّ الثمره فی مسألتنا هو إجراء أحکام المتعارضین علی دلیلی الأمر والنهی بناء علی الامتناع ، وإجراء أحکام التزاحم بینهما بناء علی الجواز (3).
ولکن إجراء أحکام التزاحم بینهما بناء علی الجواز إنّما یلزم إذا کان القائل بالجواز إنّما یقول بالجواز فی مقام الجعل والإنشاء ، دون مقام الامتثال ، بل یمتنع الاجتماع فی مقام الامتثال ، وحینئذ لا محاله یقع التزاحم بین الأمر والنهی.
أمّا : إذا قلنا بالجواز فی مقام الامتثال أیضا – کما أوضحناه – فلا موجب للتزاحم بین الحکمین ، مع وجود المندوحه ، بل یکون مطیعا عاصیا فی فعل واحد ، کالاجتماع الموردیّ بلا فرق ؛ إذ لا دوران حینئذ بین امتثال الأمر ، وامتثال النهی.
اجتماع الأمر و النهی مع عدم المندوحه
تقدّم الکلام کلّه فی اجتماع الأمر والنهی فیما إذا کانت هناک مندوحه من الجمع بین المأمور به والمنهیّ عنه ، وقد جمع المکلّف بینهما فی فعل واحد بسوء اختیاره. ویلحق به ما کان الجمع بینهما عن غفله أو جهل. وقد ذهبنا إلی جواز الاجتماع فی مقامی الجعل والامتثال.
[شماره صفحه واقعی : 341]
ص: 842
وبقی الکلام فی اجتماعهما مع عدم المندوحه ، وذلک بأن یکون المکلّف مضطرّا إلی هذا الجمع بینهما. والاضطرار علی نحوین :
الأوّل : أن یکون بدون سبق اختیار للمکلّف فی الجمع ، کمن اضطرّ لإنقاذ غریق إلی التصرّف فی أرض مغصوبه ، فیکون تصرّفه فی الأرض واجبا من جهه إنقاذ الغریق ، وحراما من جهه التصرّف فی المغصوب.
فإنّه فی هذا الفرض لا بدّ أن یقع التزاحم بین الواجب والحرام فی مقام الامتثال ؛ إذ لا مندوحه للمکلّف حسب الفرض ، فلا بدّ فی مقام إطاعه الأمر بإنقاذ الغریق من الجمع ؛ لانحصار امتثال الواجب فی هذا الفرد المحرّم ، فیدور الأمر بین أن یعصی الأمر أو یعصی النهی. وفی مثله یرجع إلی أقوی الملاکین ، فإن کان ملاک الأمر أقوی – کما فی المثال المذکور – قدّم جانب الأمر ، ویسقط النهی عن الفعلیّه ، وإن کان ملاک النهی أقوی قدّم جانب النهی ، کمن انحصر عنده إنقاذ حیوان محترم من الهلکه بهلاک إنسان.
تنبیه :
ممّا یلحق بهذا الباب ویتفرّع علیه ما لو اضطرّ إلی ارتکاب فعل محرّم لا بسوء اختیاره ، ثمّ اضطرّ إلی الإتیان بالعباده علی وجه یکون ذلک الفعل المحرّم مصداقا لتلک العباده ، بمعنی أنّه اضطرّ إلی الإتیان بالعباده مجتمعه مع فعل الحرام الذی قد اضطرّ إلیه. ومثاله المحبوس فی مکان مغصوب ، فیضیّق علیه وقت الصلاه ، ولا یسعه الإتیان بها خارج المکان المغصوب. فهل فی هذا الفرض یجب علیه الإتیان بالعباده وتقع صحیحه ، أو لا؟
نقول : لا ینبغی الشکّ فی أنّ عبادته علی هذا التقدیر تقع صحیحه ؛ لأنّه مع الاضطرار إلی الفعل الحرام لا تبقی فعلیّه للنهی ؛ لاشتراط القدره فی التکلیف ، فالأمر لا مزاحم لفعلیّته ، فیجب علیه أداء الصلاه ، ولا بدّ أن تقع حینئذ صحیحه.
نعم ، یستثنی من ذلک ما لو کان دلیل الأمر ودلیل النهی متعارضین بأنفسهما من أوّل الأمر ، وقد رجّحنا جانب النهی بأحد مرجّحات باب التعارض ؛ فإنّه فی هذه الصوره لا وجه لوقوع العباده صحیحه ؛ لأنّ العباده لا تقع صحیحه إلاّ إذا قصد بها امتثال الأمر الفعلیّ بها
[شماره صفحه واقعی : 342]
ص: 843
– إن کان – أو قصد بها الرجحان الذاتیّ قربه إلی الله (تعالی). والمفروض أنّه هنا لا أمر فعلیّ ؛ لعدم شمول دلیله بما هو حجّه لمورد الاجتماع ؛ لأنّ المفروض تقدیم جانب النهی.
وقیل : «إنّ النهی إذا زالت فعلیّته من جهه الاضطرار ، لم یبق مانع من التمسّک بعموم الأمر». وهذه (1) غفله ظاهره ، فإنّ دلیل الأمر بما هو حجّه لا یکون شاملا لمورد الاجتماع ، لمکان التعارض بین الدلیلین وتقدیم دلیل النهی ، فإذا اضطرّ المکلّف إلی فعل المنهیّ عنه لا یلزم منه أن یعود دلیل الأمر حجّه فی مورد الاجتماع مرّه ثانیه. وإنّما یتصوّر أن یعود الأمر فعلیّا إذا کان تقدیم النهی من باب التزاحم ، فإذا زال التزاحم عاد الأمر فعلیّا.
وأمّا الرجحان الذاتیّ : فإنّه بعد فرض التعارض بین الدلیلین وتقدیم جانب النهی لا یکون الرجحان محرزا فی مورد الاجتماع ؛ لأنّ عدم شمول دلیل الأمر بما هو حجّه لمورد الاجتماع یحتمل فیه وجهان : وجود المانع مع بقاء الملاک ، وانتفاء المقتضی وهو الملاک ، فلا یحرز وجود الملاک حتّی یصحّ قصده متقرّبا به إلی الله (تعالی).
الثانی : أن یکون الاضطرار بسوء الاختیار ، کمن دخل منزلا مغصوبا متعمّدا ، فبادر إلی الخروج تخلّصا من استمرار الغصب ، فإنّ هذا التصرّف فی المنزل فی الخروج لا شکّ فی أنّه تصرّف غصبیّ أیضا ، وهو مضطرّ إلی ارتکابه للتخلّص من استمرار فعل الحرام ، وکان اضطراره إلیه بمحض اختیاره ، إذ دخل المنزل غاصبا باختیاره.
وتعرف هذه المسأله فی لسان المتأخّرین بمسأله «التوسّط فی المغصوب» ، والکلام یقع فیها من ناحیتین :
1. فی حرمه هذا التصرّف الخروجیّ أو وجوبه.
2. فی صحّه الصلاه المأتیّ بها حال الخروج.
حرمه الخروج من المغصوب أو وجوبه
أمّا الناحیه الأولی : فقد تعدّدت الأقوال فیها ، فقیل بحرمه التصرّف الخروجیّ فقط (2).
[شماره صفحه واقعی : 343]
ص: 844
وقیل بوجوبه فقط ، ولکن یعاقب فاعله (1). وقیل بوجوبه فقط ، ولا یعاقب فاعله (2). وقیل بحرمته ووجوبه معا (3). وقیل : لا هذا ولا ذاک ، ومع ذلک یعاقب علیه (4).
فینبغی أن نبحث عن وجه القول بالحرمه ، وعن وجه القول بالوجوب ؛ لیتّضح الحقّ فی المسأله ، وهو القول الأوّل.
أمّا وجه الحرمه : فمبنیّ علی أنّ التصرّف بالغصب ، بأیّ نحو من أنحاء التصرّف – دخولا ، وبقاء ، وخروجا – محرّم من أوّل الأمر قبل الابتلاء بالدخول ، فهو قبل أن یدخل منهیّ عن کلّ تصرّف فی المغصوب ، حتّی هذا التصرّف الخروجیّ ؛ لأنّه کان متمکّنا من ترکه بترک الدخول.
ومن یقول بعدم حرمته فإنّه یقول به ؛ لأنّه یجد أنّ هذا المقدار من التصرّف مضطرّ إلیه ، سواء خرج الغاصب أو بقی ، فیمتنع علیه ترکه ، ومع فرض امتناع ترکه کیف یبقی علی صفه الحرمه؟!
ولکنّا نقول له : إنّ هذا الامتناع هو الذی أوقع نفسه فیه بسوء اختیاره ، وکان متمکّنا من ترکه بترک الدخول ، والامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار ، فهو مخاطب من أوّل الأمر بترک التصرّف حتّی یخرج ، فالخروج فی نفسه – بما هو تصرّف – داخل من أوّل الأمر فی أفراد العنوان المنهیّ عنه ، أی إنّ العنوان المنهیّ عنه – وهو التصرّف بمال الغیر بدون رضاه – یسع فی عمومه کلّ تصرّف متمکّن من ترکه حتّی الخروج ، وامتناع ترک هذا التصرّف بسوء اختیاره لا یخرجه عن عموم العنوان. ونحن لا نقول – کما سبق (5) – : إنّ المعنون بنفسه هو متعلّق الخطاب ، حتّی یقال لنا : إنّه یمتنع تعلّق الخطاب بالممتنع ترکه ، وإن کان الامتناع بسوء الاختیار.
[شماره صفحه واقعی : 344]
ص: 845
وأمّا وجه الوجوب : فقد قیل : «إنّ الخروج واجب نفسیّ ، باعتبار أنّ الخروج معنون بعنوان التخلّص عن الحرام ، والتخلّص عن الحرام فی نفسه عنوان حسن عقلا ، وواجب شرعا». وقد نسب هذا الوجه إلی الشیخ الأعظم الأنصاریّ قدس سره علی ما یظهر من تقریرات درسه (1).
وقیل : «إنّ الخروج واجب غیریّ – کما یظهر من بعض التعبیرات فی تقریرات الشیخ أیضا (2) – باعتبار أنّه مقدّمه للتخلّص من الحرام ، وهو الغصب الزائد الذی کان یتحقّق لو لم یخرج».
والحقّ أنّه لیس بواجب نفسیّ ؛ ولا غیریّ.
أمّا : أنّه لیس بواجب نفسیّ ؛ فلأنّه :
أوّلا : أنّ التخلّص عن الشیء بأیّ معنی فرض عنوان مقابل لعنوان الابتلاء به ، بدیل له ، لا یجتمعان ، وهما من قبیل الملکه وعدمها. وهذا واضح.
وحینئذ نقول له : ما مرادک من التخلّص الذی حکمت علیه بأنّه عنوان حسن؟ إن کان المراد به التخلّص من أصل الغصب فهو بالخروج – أی الحرکات الخروجیّه – مبتلی بالغصب ، لا أنّه متخلّص منه ؛ لأنّه تصرّف بالمغصوب. وإن کان المراد به التخلّص من الغصب الزائد الذی یقع لو لم یخرج فهو لا ینطبق علی الحرکات الخروجیّه ؛ وذلک لأنّ التخلّص لمّا کان مقابلا للابتلاء بدیلا له – کما قدّمنا – فالزمان الذی یصلح أن یکون زمانا للابتلاء لا بدّ أن یکون هو الذی یصدق علیه عنوان التخلّص ، مع أنّ زمان الحرکات الخروجیّه سابق علی زمان الغصب الزائد علیها لو لم یخرج ، فهو فی حال الحرکات الخروجیّه لا مبتلی بالغصب الزائد ، ولا متخلّص منه ، بل الغاصب مبتلی بالغصب من حین
[شماره صفحه واقعی : 345]
ص: 846
دخوله إلی حین خروجه ، وبعد خروجه یصدق علیه أنّه متخلّص من الغصب.
وثانیا : أنّ التخلّص لو کان عنوانا یصدق علی الخروج ، فلا ینبغی أن یراد من الخروج نفس الحرکات الخروجیّه ، بل علی تقدیره ینبغی أن یراد منه ما تکون الحرکات الخروجیّه مقدّمه له أو بمنزله المقدّمه ؛ فلا ینطبق – إذن – عنوان التخلّص علی التصرّف بالمغصوب المحرّم ، کما یرید أن یحقّقه هذا القائل.
والسرّ واضح ؛ فإنّ الخروج یقابل الدخول ، ولمّا کان الدخول عنوانا للکون داخل الدار المسبوق بالعدم فلا بدّ أن یکون الخروج بمقتضی المقابله عنوانا للکون خارج الدار المسبوق بالعدم ، أمّا نفس التصرّف بالمغصوب بالحرکات الخروجیّه التی منها یکون الخروج فهو مقدّمه أو شبه المقدّمه للخروج لا نفسه.
وثالثا : لو سلّمنا أنّ التخلّص عنوان ینطبق علی الحرکات الخروجیّه فلا نسلّم بوجوبه النفسیّ ؛ لأنّ التخلّص عن الحرام لیس هو إلاّ عباره أخری عن ترک الحرام ، وترک الحرام لیس واجبا نفسیّا علی وجه یکون ذا مصلحه نفسیّه فی مقابل المفسده النفسیّه فی الفعل. نعم ، هو مطلوب بتبع النهی عن الفعل ، وقد تقدّم ذلک فی مبحث النواهی فی الجزء الأوّل (1) وفی مسأله الضدّ فی الجزء الثانی (2) ، فکما أنّ الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضدّه العامّ – أی نقیضه وهو الترک – کذلک أنّ النهی عن الشیء لا یقتضی الأمر بضدّه العام – أی نقیضه وهو الترک -. ولذا قلنا فی مبحث النواهی : «إنّ تفسیر النهی بطلب الترک – کما وقع للقوم (3) – لیس فی محلّه ، وإنّما هو تفسیر للشیء بلازم المعنی العقلیّ ، فإنّ مقتضی الزجر عن الفعل طلب ترکه عقلا ، لا علی أن یکون الترک ذا مصلحه نفسیّه فی مقابل مفسده الفعل ؛ وکذلک فی الأمر ، فإنّ مقتضی الدعوه إلی الفعل الزجر عن ترکه عقلا لا علی أن یکون الترک ذا مفسده نفسیّه فی مقابل مصلحه الفعل ، بل لیس فی النهی إلاّ مفسده الفعل ،
[شماره صفحه واقعی : 346]
ص: 847
ولیس فی الأمر إلاّ مصلحه الفعل.
وأمّا : أنّ الخروج لیس بواجب غیریّ ؛ فلأنّه :
أوّلا : قد تقدّم أنّ مقدّمه الواجب لیست بواجبه (1) علی تقدیر القول بأنّ التخلّص واجب نفسیّ.
وثانیا : أنّ الخروج – الذی هو عباره عن الحرکات الخروجیّه فی مقصود هذا القائل – لیس مقدّمه لنفس التخلّص عن الحرام ، بل علی التحقیق إنّما هو مقدّمه للکون فی خارج الدار ، والکون فی خارج الدار ملازم لعنوان التخلّص عن الحرام لا نفسه ، ولا یلزم من فرض وجوب التخلّص فرض وجوب ملازمه ، فإنّ الملازمین لا یجب أن یشترکا فی الحکم – کما تقدّم فی مسأله الضدّ (2) -. وإذا لم یجب الکون خارج الدار کیف تجب مقدّمته؟!
وثالثا : لو سلّمنا أنّ التخلّص واجب نفسیّ ، وأنّه نفس الکون خارج الدار فتکون الحرکات الخروجیّه مقدّمه له ، وأنّ مقدّمه الواجب واجبه – لو سلّمنا کلّ ذلک – ، فإنّ مقدّمه الواجب إنّما تکون واجبه حیث لا مانع من ذلک ، کما لو کانت محرّمه فی نفسها ، کرکوب المرکب الحرام فی طریق الحجّ ؛ فإنّه لا یقع علی صفه الوجوب وإن توصّل به إلی الواجب. وهنا الحرکات الخروجیّه تقع علی صفه الحرمه – کما قدّمنا – باعتبار أنّها من أفراد الحرام ، وهو التصرّف بالمغصوب ، فلا تقع علی صفه الوجوب من باب المقدّمه.
فإن قلت : إنّ المقدّمه المحرّمه إنّما لا تقع علی صفه الوجوب حیث لا تکون منحصره ، وأمّا مع انحصار التوصّل بها إلی الواجب فإنّه یقع التزاحم بین حرمتها ووجوب ذیها ؛ لأنّ الأمر یدور حینئذ بین امتثال الوجوب وبین امتثال الحرمه ، فلو کان الوجوب أهمّ قدّم علی حرمه المقدّمه فتسقط حرمتها. وهنا الأمر کذلک ؛ فإنّ المقدّمه منحصره ، والواجب – وهو ترک الغصب الزائد – أهمّ.
قلت : هذا صحیح لو کان الدوران لم یقع بسوء اختیار المکلّف ؛ فإنّه حینئذ یکون
[شماره صفحه واقعی : 347]
ص: 848
الدوران فی مقام التشریع. وأمّا لو کان الدوران واقعا بسوء اختیار المکلّف – کما هو مفروض فی المقام – ، فإنّ المولی فی مقام التشریع قد استوفی غرضه من أوّل الأمر بالنهی عن الغصب مطلقا ، ولا دوران فیه حتّی یقال : «یقبح من المولی تفویت غرضه الأهمّ». وإنّما الدوران وقع فی مقام استیفاء الغرض استیفاء خارجیّا بسبب سوء اختیار المکلّف بعد فرض أنّ المولی من أوّل الأمر – قبل أن یدخل المکلّف فی المحلّ المغصوب – قد استوفی کلّ غرضه فی مقام التشریع ؛ إذ نهی عن کلّ تصرّف بالمغصوب ، فلیس هناک تزاحم فی مقام التشریع ؛ فالمکلّف یجب علیه أن یترک الغصب الزائد بالخروج عن المغصوب ، ونفس الحرکات الخروجیّه تکون أیضا محرّمه یستحقّ علیها العقاب ؛ لأنّها من أفراد ما هو منهیّ عنه ، وقد وقع فی هذا المحذور والدوران بسوء اختیاره.
صحّه الصلاه حال الخروج
وأمّا الناحیه الثانیه : وهی صحّه الصلاه حال الخروج ؛ فإنّها تبتنی علی اختیار أحد الأقوال فی الناحیه الأولی.
فإن قلنا بأنّ الخروج یقع علی صفه الوجوب فقط ؛ فإنّه لا مانع من الإتیان بالصلاه حالته ، سواء ضاق وقتها أم لم یضق ، ولکن بشرط ألاّ یستلزم أداء الصلاه تصرّفا زائدا علی الحرکات الخروجیّه ، فإنّ هذا التصرّف الزائد حینئذ یقع محرّما منهیّا عنه.
فإذا استلزم أداء الصلاه تصرّفا زائدا فإن کان الوقت ضیقا فلا بدّ أن یؤدّی الصلاه حال الخروج ، ولا بدّ أن یقتصر منها علی أقلّ الواجب ، فیصلّی إیماء بدل الرکوع والسجود. وإن کان الوقت متّسعا لأدائها بعد الخروج وجب أن ینتظر بها إلی ما بعد الخروج.
وإن قلنا بوقوع الخروج علی صفه الحرمه فإنّه مع سعه الوقت لا بدّ أن یؤدّیها بعد الخروج ، سواء استلزمت تصرّفا زائدا أم لم تستلزم ، ومع ضیق الوقت یقع التزاحم بین الحرام الغصبیّ والصلاه الواجبه ، والصلاه لا تترک بحال ، فیجب أداؤها مع ترک ما یستلزم منها تصرّفا زائدا ، فیصلّی إیماء للرکوع والسجود ویقرأ ماشیا ، فیترک الاطمئنان الواجب وهکذا.
[شماره صفحه واقعی : 348]
ص: 849
وإن قلنا بعدم وقوع الخروج علی صفه الحرمه ولا صفه الوجوب فلا مانع من أداء الصلاه حال الخروج إذا لم تستلزم تصرّفا زائدا حتّی مع سعه الوقت علی النحو الذی تقدّم.
تمرینات «40»
التمرین الأوّل
1. ما هو محلّ النزاع فی مسأله اجتماع الأمر والنهی؟
2. ما هی الأقوال فی المقام؟
3. ما المراد من کلمه «الاجتماع» فی محلّ النزاع؟
4. ما المراد من کلمه «الواحد» فی المقام؟ وهل الواحد الشخصی والواحد بالجنس یدخلان فی محلّ النزاع؟
5. ما المقصود من کلمه «الجواز» فی المقام؟
6. کیف تدخل المسأله فی الملازمات العقلیّه غیر المستقلّه؟
7. ما هی مسأله تعدّد المعنون بتعدّد العنوان وعدمه؟ وهل تعدّده یوجب تعدّد المعنون؟
8. بیّن ما أفاد المحقّق الخراسانی رحمه الله فی محلّ النزاع وما فیه.
9. ما المراد من قید «المندوحه» فی المقام؟ وهل هو معتبر أم لا؟
10. ما الفرق بین باب التعارض والتزاحم ، وبینهما وبین مسأله الاجتماع؟ بیّنه تفصیلا.
11. ما هو مختار المصنّف رحمه الله فی مسأله الاجتماع؟ وما دلیله علیه؟
12. ما هی ثمره النزاع فی مسأله الاجتماع؟
13. ما هی الأقوال فی مسأله «الخروج من المغصوب»؟ وما وجه القول بالوجوب ووجه القول بالحرمه؟ وما هو الحق؟
14. کیف دفع القول بأنّ الخروج من المغصوب واجب غیریّ.
15. هل الصلاه حال الخروج صحیحه أم لا؟
التمرین الثانی
1. هل مسأله «الاجتماع» من المسائل الأصولیّه التی تدخل فی باب الملازمات العقلیّه غیر مستقلّه أم لا؟ بیّن أقوال العلماء وما فیها.
[شماره صفحه واقعی : 349]
ص: 850
المسأله الخامسه : دلاله النهی علی الفساد
تحریر محلّ النزاع
هذه المسأله من أمّهات المسائل الأصولیّه التی بحثت من القدیم. ولأجل تحریر محلّ النزاع فیها وتوضیحه ، علینا أن نشرح الألفاظ الوارده فی عنوانها ، وهی کلمه الدلاله ، النهی ، الفساد.
ولا بدّ من ذکر المراد من الشیء المنهیّ عنه أیضا ؛ لأنّه مدلول علیه بکلمه «النهی» ؛ إذ النهی لا بدّ له من متعلّق. إذن ینبغی البحث عن أربعه أمور :
1. الدلاله ، فإنّ ظاهر اللفظه یعطی أنّ المراد منها الدلاله اللفظیّه ، ولعلّه لأجل هذا الظهور البدویّ أدرج بعضهم هذه المسأله فی مباحث الألفاظ (1) ، ولکنّ المعروف أنّ مرادهم منها ما یؤدّی إلیه لفظ «الاقتضاء» ، حسبما یفهم من بحثهم المسأله وجمله من الأقوال فیها ، لا سیّما المتأخّرون من الأصولیّین.
وعلیه ، فیکون المراد من الدلاله خصوص الدلاله العقلیّه (2) ؛ وحینئذ یکون المقصود من النزاع «البحث عن اقتضاء طبیعه النهی عن الشیء فساد المنهیّ عنه عقلا» ، ومن هنا یعلم أنّه لا یشترط فی النهی أن یکون مستفادا من دلیل لفظیّ. وفی الحقیقه یکون النزاع هنا عن ثبوت الملازمه العقلیّه بین النهی عن الشیء وفساده ، أو عن الممانعه والمنافره عقلا بین النهی عن الشیء وصحّته ، ولا فرق بین التعبیرین.
ولأجل هذا أدرجنا نحن هذه المسأله فی قسم الملازمات العقلیّه.
نعم ، قد یدّعی بعضهم (3) أنّ هذه الملازمه – علی تقدیر ثبوتها – من نوع الملازمات البیّنه بالمعنی الأخصّ. وحینئذ یکون اللفظ الدالّ بالمطابقه علی النهی دالاّ بالدلاله الالتزامیّه
[شماره صفحه واقعی : 350]
ص: 851
علی فساد المنهیّ عنه ، فیصحّ أن یراد من الدلاله ما هو أعمّ من الدلاله اللفظیّه والعقلیّه.
ونحن نقول : هذا صحیح علی هذا القول ، ولا بأس بتعمیم الدلاله إلی اللفظیّه والعقلیّه فی العنوان حینئذ ، ولکنّ النزاع مع هذا القائل أیضا یقع فی الملازمه العقلیّه قبل فرض الدلاله اللفظیّه الالتزامیّه ، فالبحث معه أیضا یرجع إلی البحث عن الاقتضاء العقلیّ. فالأولی أن یراد من الدلاله فی العنوان الاقتضاء العقلیّ ؛ فإنّه یجمع جمیع الأقوال والاحتمالات ، لا سیّما أنّ البحث یشمل کلّ نهی وإن لم یکن مستفادا من دلیل لفظیّ.
والعباره تکون أکثر استقامه لو عبّر عن عنوان المسأله بما عبّر به صاحب الکفایه قدس سره بقوله : «اقتضاء النهی الفساد» (1) ، فأبدل کلمه «الدلاله» بکلمه «الاقتضاء» ، ولکن نحن عبّرنا بما جرت علیه عاده القدماء فی عنوان المسأله متابعه لهم.
2. النهی ، إنّ کلمه «النهی» ظاهره – کما تقدّم فی الجزء الأوّل (2) – فی خصوص الحرمه ، وقلنا هناک : «إنّ الظهور لیس من جهه الوضع بل بمقتضی حکم العقل» ، أمّا نفس الکلمه من جهه الوضع فهی تشمل النهی التحریمیّ والنهی التنزیهیّ – أی الکراهه – ، ولعلّ کلمه «النهی» فی مثل عنوان المسأله لیس فیها ما یقتضی عقلا ظهورها فی الحرمه ، فلا بأس من تعمیم النهی فی العنوان لکلّ من القسمین بعد أن کان النزاع قد وقع فی کلّ منهما (3).
وکذلک کلمه «النهی» – بإطلاقها – ظاهره فی خصوص الحرمه النفسیّه دون الغیریّه ، ولکنّ النزاع أیضا وقع فی کلّ منهما ؛ فإذن ینبغی تعمیم کلمه «النهی» فی العنوان للتحریمیّ والتنزیهیّ ، وللنفسیّ والغیریّ ، کما صنع صاحب الکفایه قدس سره (4).
وشیخنا النائینیّ قدس سره جزم باختصاص النهی فی عنوان المسأله بخصوص التحریمیّ النفسیّ (5) ؛ لأنّه یجزم بأنّ التنزیهیّ لا یقتضی الفساد ، وکذا الغیریّ.
[شماره صفحه واقعی : 351]
ص: 852
والذی ینبغی أن یقال له : أنّ الاختیار شیء وعموم النزاع فی المسأله شیء آخر ، فإنّ اختیارکم بأنّ النهی التنزیهیّ والغیریّ لا یقتضیان الفساد لیس معناه اتّفاق الکلّ علی ذلک ، حتّی یکون النزاع فی المسأله مختصّا بما عداهما ، والمفروض أنّ هناک من یقول بأنّ النهی التنزیهیّ والغیریّ یقتضیان الفساد. فتعمیم کلمه «النهی» فی العنوان هو الأولی.
3. الفساد : إنّ الفساد کلمه ظاهره المعنی ، والمراد منها ما یقابل الصحّه (1) تقابل العدم والملکه علی الأصحّ (2) ، لا تقابل النقیضین ، ولا تقابل الضدّین. وعلیه ، فما له قابلیّه أن یکون صحیحا یصحّ أن یتّصف بالفساد ، وما لیس له ذلک لا یصحّ وصفه بالفساد.
وصحّه کلّ شیء بحسبه ، فمعنی صحّه العباده مطابقتها لما هو المأمور به من جهه تمام أجزائها ، وجمیع ما هو معتبر فیها (3) ، ومعنی فسادها عدم مطابقتها له من جهه نقصان فیها. ولازم عدم مطابقتها لما هو مأمور به عدم سقوط الأمر ، وعدم سقوط الأداء والقضاء.
ومعنی صحّه المعامله مطابقتها لما هو المعتبر فیها من أجزاء وشرائط ونحوها ، ومعنی فسادها عدم مطابقتها لما هو معتبر فیها. ولازم عدم مطابقتها عدم ترتّب أثرها المرغوب فیه علیها من نحو : النقل ، والانتقال فی عقد البیع والإجاره ، ومن نحو : العلقه الزوجیّه فی عقد النکاح … وهکذا.
[شماره صفحه واقعی : 352]
ص: 853
4. متعلّق النهی ، لا شکّ فی أنّ متعلّق النهی – هنا – یجب أن یکون ممّا یصحّ أن یتّصف بالصّحّه والفساد لیصحّ النزاع فیه ، وإلاّ فلا معنی لأن یقال – مثلا – : إنّ النهی عن شرب الخمر یقتضی الفساد أو لا یقتضی.
وعلیه ، فلیس کلّ ما هو متعلّق للنهی یقع موضعا للنزاع فی هذه المسأله ، بل خصوص ما یقبل وصفی الصحّه والفساد. وهذا واضح.
ثمّ إنّ متعلّق النهی یعمّ العباده والمعامله اللتین یصحّ وصفهما بالفساد ، فلا اختصاص للمسأله بالعباده ، کما ربّما ینسب إلی بعضهم (1).
وإذا اتّضح المقصود من الکلمات التی وردت فی العنوان یتّضح المقصود من النزاع ومحلّه هنا ؛ فإنّه یرجع إلی النزاع فی الملازمه العقلیّه بین النهی عن الشیء وفساده ، فمن یقول بالاقتضاء فإنّما یقول بأنّ النهی یستلزم عقلا فساد متعلّقه ، وقد یقول مع ذلک بأنّ اللفظ الدالّ علی النهی دالّ علی فساد المنهیّ عنه بالدلاله الالتزامیّه. ومن یقول بعدمه إنّما یقول بأنّ النهی عن الشیء لا یستلزم عقلا فساده.
أو فقل : إنّ النزاع هنا یرجع إلی النزاع فی وجود الممانعه والمنافره عقلا بین کون الشیء صحیحا وبین کونه منهیّا عنه ، أی إنّه هل هناک ممانعه من الجمع بین صحّه الشیء والنهی عنه أو لا؟
ولأجل هذا تدخل هذه المسأله فی بحث الملازمات العقلیّه ، کما صنعنا.
ولمّا کان البحث یختلف اختلافا کثیرا فی کلّ واحده من العباده والمعامله عقدوا البحث فی موضعین : العباده ، والمعامله ، فینبغی البحث عن کلّ منهما مستقلاّ فی مبحثین :
المبحث الأوّل : النهی عن العباده
المقصود من العباده التی هی محلّ النزاع فی المقام العباده بالمعنی الأخصّ – أی خصوص ما یشترط فی صحّتها قصد القربه – ، أو فقل : هی خصوص الوظیفه التی شرعها الله (تعالی) لأجل التقرّب بها إلیه.
[شماره صفحه واقعی : 353]
ص: 854
ولا یشمل النزاع العباده بالمعنی الأعمّ ، مثل غسل الثوب من النجاسه ؛ لأنّه – وإن صحّ أن یقع عباده متقرّبا به إلی الله (تعالی) – لا یتوقّف حصول أثره المرغوب فیه – وهو زوال النجاسه – علی وقوعه قربیّا ، فلو فرض وقوعه منهیّا عنه کالغسل بالماء المغصوب فإنّه یقع به الامتثال ، ویسقط الأمر به ، فلا یتصوّر وقوعه فاسدا من أجل تعلّق النهی به.
نعم ، إذا وقع محرّما منهیّا عنه فإنّه لا یقع عباده متقرّبا به إلی الله (تعالی) ؛ فإذا قصد من الفساد هذا المعنی فلا بأس فی أن یقال : «إنّ النهی عن العباده بالمعنی الأعمّ یقتضی الفساد» ؛ فإنّ من یدّعی الممانعه بین الصحّه والنهی یمکن أن یدّعی الممانعه بین وقوع غسل الثوب صحیحا – أی عباده متقرّبا به إلی الله (تعالی) – وبین النهی عنه.
ولیس معنی العباده هنا أنّها ما کانت متعلّقه للأمر فعلا ؛ لأنّه مع فرض تعلّق النهی بها فعلا لا یعقل فرض تعلّق الأمر بها أیضا ، ولیس ذلک ک- «باب اجتماع الأمر والنهی» الذی فرض فیه تعلّق النهی بعنوان غیر العنوان الذی تعلّق به الأمر ؛ فإنّه إن جاز هناک اجتماع الأمر والنهی فلا یجوز هنا ؛ لعدم تعدّد العنوان ، وإنّما العنوان الذی تعلّق به الأمر هو نفسه صار متعلّقا للنهی.
وعلی هذا ، فلا بدّ أن یراد بالعباده المنهیّ عنها ما کانت طبیعتها متعلّقه للأمر ، وإن لم تکن شامله – بما هی مأمور بها – لما هو متعلّق النهی ، أو ما کانت من شأنها أن یتقرّب بها لو تعلّق بها أمر.
وبعباره أخری جامعه أن یقال : إنّ المقصود بالعباده هنا هی الوظیفه التی لو شرعها الشارع لشرعها لأجل التعبّد بها وإن لم یتعلّق بها أمر فعلیّ لخصوصیّه المورد.
ثمّ إنّ النهی عن العباده یتصوّر علی أنحاء :
أحدها : أن یتعلّق النهی بأصل العباده ، کالنهی عن صوم العیدین ، وصوم الوصال ، وصلاه الحائض والنفساء.
وثانیها : أن یتعلّق بجزئها ، کالنهی عن قراءه سوره من سور العزائم فی الصلاه.
وثالثها : أن یتعلّق بشرطها أو بشرط جزئها ، کالنهی عن الصلاه باللباس المغصوب ،
[شماره صفحه واقعی : 354]
ص: 855
أو المتنجّس.
ورابعها : أن یتعلّق بوصف ملازم لها أو لجزئها ، کالنهی عن الجهر بالقراءه فی موضع الإخفات ، والنهی عن الإخفات فی موضع الجهر (1).
والحقّ أنّ النهی عن العباده یقتضی الفساد ، سواء کان نهیا عن أصلها ، أو جزئها ، أو شرطها ، أو وصفها ؛ للتمانع الظاهر بین العباده التی یراد بها التقرّب إلی الله (تعالی) ومرضاته ، وبین النهی عنها المبعّد عصیانه عن الله (تعالی) ، والمثیر لسخطه ، فیستحیل التقرّب بالمبعّد ، والرضا بما یسخطه ، ویستحیل أیضا التقرّب بما یشتمل علی المبعّد المبغوض المسخط له ، أو بما هو مقیّد بالمبعّد ، أو بما هو موصوف بالمبعّد (2).
ومن الواضح أنّ المقصود من القرب والبعد من المولی القرب والبعد المعنویّان ، وهما یشبهان القرب والبعد المکانیّین ، فکما یستحیل التقرّب المکانی بما هو مبعّد مکانا کذلک یستحیل التقرّب المعنویّ بما هو مبعّد معنی.
ونحن إذ نقول ذلک فی النهی عن الجزء والشرط والوصف ، نقول به ، لا لأجل أنّ النهی عن هذه الامور یسری إلی أصل العباده ، وأنّ ذلک واسطه فی الثبوت ، (3) أو واسطه فی العروض – کما قیل (4) – ، ولا لأجل أنّ جزء العباده وشرطها عباده ، فإذا فسد الجزء والشرط استلزم فسادهما فساد المرکّب والمشروط (5) ، بل نحن لا نستند فی قولنا فی الجزء والشرط والوصف إلی ذلک ؛ لأنّه لا حاجه إلی مثل هذه التعلیلات ، ولا تصل النوبه إلیها بعد ما قلناه من أنّه یستحیل التقرّب بما یشتمل علی المبعّد ، أو بما هو مقیّد أو موصوف بالمبعّد ، کما یستحیل التقرّب بنفس المبعّد بلا فرق.
[شماره صفحه واقعی : 355]
ص: 856
علی أنّ فی هذه التعلیلات من المناقشه ما لا یسعه هذا المختصر ، ولا حاجه إلی مناقشتها بعد ما ذکرناه. هذا کلّه فی النهی النفسیّ.
أمّا النهی الغیریّ المقدّمیّ : فحکمه حکم النفسیّ بلا فرق ، کما أشرنا إلی ذلک فیما تقدّم (1) ؛ فإنّه أشرنا هناک إلی الوجه الذی ذکره بعض أعاظم مشایخنا قدس سرهم (2) للفرق بینهما بأنّ النهی الغیریّ لا یکشف عن وجود مفسده وحزازه فی المنهیّ عنه ، فیبقی المنهیّ عنه علی ما کان علیه من المصلحه الذاتیّه بلا مزاحم لها من مفسده للنهی ، فیمکن التقرّب به بقصد تلک المصلحه الذاتیّه المفروضه ، بخلاف النهی النفسیّ الکاشف عن المفسده والحزازه فی المنهیّ عنه ، المانعه من التقرّب به.
وقد ناقشناه هناک بأنّ التقرّب والابتعاد لیسا یدوران مدار المصلحه والمفسده الذاتیّتین حتّی یتمّ هذا الکلام ، بل – کما ذکرناه هناک – أنّ الفعل المبعّد عن المولی فی حال کونه مبعّدا لا یعقل أن یکون متقرّبا به إلیه ، کالتقرّب والابتعاد المکانیّین ، والنهی وإن کان غیریّا یوجب البعد ومبغوضیّه المنهیّ عنه وإن لم یشتمل علی مفسده نفسیّه.
ویبقی الکلام فی النهی التنزیهیّ – أی الکراهه – ، فالحقّ أیضا أنّه یقتضی الفساد ، کالنهی التحریمیّ ، لنفس التعلیل السابق من استحاله التقرّب بما هو مبعّد بلا فرق ، غایه الأمر أنّ مرتبه البعد فی التحریمیّ أشدّ وأکثر منها فی التنزیهیّ ، کاختلاف مرتبه القرب فی موافقه الأمر الوجوبیّ والاستحبابیّ. وهذا الفرق لا یوجب تفاوتا فی استحاله التقرّب بالمبعّد. ولأجل هذا حمل الأصحاب الکراهه فی العباده علی أقلّیّه الثواب مع ثبوت صحّتها شرعا لو أتی بها المکلّف ، لا الکراهه الحکمیّه الشرعیّه ، ومعنی حمل الکراهه علی أقلّیّه الثواب أنّ النهی الوارد فیها یکون مسوقا لبیان هذا المعنی ، وبداعی الإرشاد إلی أقلّیّه الثواب ، ولیس مسوقا لبیان الحکم التکلیفیّ المقابل للأحکام الأربعه الباقیه بداعی الزجر عن الفعل والردع عنه.
وعلیه ، فلو أحرز بدلیل خاصّ أنّ النهی بداعی الزجر التنزیهیّ ، ولم یحرز من
[شماره صفحه واقعی : 356]
ص: 857
دلیل خاصّ صحّه العباده المکروهه فلا محاله لا نقول بصحّه العباده المنهیّ عنها بالنهی التنزیهیّ.
هذا فیما إذا کان النهی التنزیهیّ عن نفس عنوان العباده ، أو جزئها ، أو شرطها ، أو وصفها ؛ أمّا : لو کان النهی عن عنوان آخر غیر عنوان المأمور به ، کما لو کان بین المنهیّ عنه والمأمور به عموم وخصوص من وجه ؛ فإنّ هذا المورد یدخل فی باب الاجتماع ، وقد قلنا هناک بجواز الاجتماع فی الأمر والنهی التحریمیّ ، فضلا عن الأمر والنهی التنزیهیّ ، ولیس هو من باب النهی عن العباده إلاّ إذا ذهبنا إلی امتناع الاجتماع فیدخل فی مسألتنا.
تنبیه
إنّ النهی الذی هو موضع النزاع – والذی قلنا باقتضائه الفساد فی العباده – هو النهی بالمعنی الظاهر من مادّته وصیغته – أعنی ما یتضمّن حکما تحریمیّا أو تنزیهیّا – بأن یکون إنشاؤه بداعی الردع والزجر.
أمّا : النهی بداع آخر ، کداعی بیان أقلّیّه الثواب ، أو داعی الإرشاد إلی مانعیّه الشیء ، مثل النهی عن لبس جلد المیته فی الصلاه ، أو نحو ذلک من الدواعی فإنّه لیس موضع النزاع فی مسألتنا ، ولا یقتضی الفساد بما هو نهی ، إلاّ أن یتضمّن اعتبار شیء فی المأمور به ، فمع فقد ذلک الشیء لا ینطبق المأتیّ به علی المأمور به ، فیقع فاسدا ، کالنهی بداعی الإرشاد إلی مانعیّه شیء ، فیستفاد منه أنّ عدم ذلک الشیء یکون شرطا فی المأمور به. ولکن هذا شیء آخر لا یرتبط بمسألتنا ، فإنّ هذا یجری حتّی فی الواجبات التوصّلیه ، فإنّ فقد أحد شروطها یوجب فسادها.
المبحث الثانی : النهی عن المعامله
إنّ النهی فی المعامله علی نحوین – کالنهی عن العباده – ؛ فإنّه تاره یکون النهی بداعی بیان مانعیّه الشیء المنهیّ عنه ، أو بداع آخر مشابه له ، وأخری یکون بداعی الردع والزجر من أجل مبغوضیّه ما تعلّق به النهی ، ووجود الحزازه فیه.
[شماره صفحه واقعی : 357]
ص: 858
فإن کان الأوّل فهو خارج عن مسألتنا – کما تقدّم فی التنبیه السابق – ؛ إذ لا شکّ فی أنّه لو کان النهی بداعی الإرشاد إلی مانعیّه الشیء فی المعامله فإنّه یکود دالاّ علی فسادها عند الإخلال ؛ لدلاله النهی علی اعتبار عدم المانع فیها ، فتخلّفه تخلّف للشرط المعتبر فی صحّتها. وهذا لا ینبغی أن یختلف فیه اثنان.
وإن کان الثانی فإنّ النهی إمّا أن یکون عن ذات السبب – أی عن العقد الإنشائی – ، أو فقل : عن التسبیب به لإیجاد المعامله ، کالنهی عن البیع وقت النداء لصلاه الجمعه فی قوله (تعالی) : (إِذا نُودِیَ لِلصَّلاهِ مِنْ یَوْمِ الْجُمُعَهِ فَاسْعَوْا إِلی ذِکْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَیْعَ …) (1) ؛ وإمّا أن یکون عن ذات المسبّب – أی عن نفس وجود المعامله – کالنهی عن بیع الآبق وبیع المصحف.
فإن کان النهی علی النحو الأوّل – أی عن ذات السبب – ، فالمعروف أنّه لا یدلّ علی فساد المعامله (2) ؛ إذ لم تثبت المنافاه لا عقلا ولا عرفا بین مبغوضیّه العقد والتسبیب به ، وبین إمضاء الشارع له بعد أن کان العقد مستوفیا لجمیع الشروط المعتبره فیه ، بل ثبت خلافها ، کحرمه الظهار التی لم تناف ترتّب الأثر علیه من الفراق.
وإن کان النهی علی النحو الثانی – أی عن المسبّب – ، فقد ذهب جماعه من العلماء (3) إلی أنّ النهی فی هذا القسم یقتضی الفساد.
وأقصی ما یمکن تعلیل ذلک بما ذکره بعض أعاظم مشایخنا (4) من أنّ صحّه کلّ معامله مشروطه بأن یکون العاقد مسلّطا علی المعامله فی حکم الشارع ، غیر محجور علیه من قبله من التصرّف فی العین التی تجری علیها المعامله. ونفس النهی عن المسبّب یکون معجّزا مولویا للمکلّف عن الفعل ، ورافعا لسلطنته علیه ، فیختلّ به ذلک الشرط المعتبر فی
[شماره صفحه واقعی : 358]
ص: 859
صحّه المعامله ، فلا محاله یترتّب علی ذلک فسادها.
هذا غایه ما یمکن أن یقال فی بیان اقتضاء النهی عن المسبّب لفساد المعامله ، ولکنّ التحقیق أن یقال :
إنّ استناد الفساد إلی النهی إنّما یصحّ أن یفرض ویتنازع فیه فیما إذا کان العقد بشرائطه موجودا حتّی بشرائط المتعاقدین ، وشرائط العوضین ، وأنّه لیس فی البین إلاّ المبغوضیّه الصرفه المستفاده من النهی. وحینئذ یقع البحث فی أنّ هذه المبغوضیّه هل تنافی صحّه المعامله أو لا تنافیها؟
أمّا : إذا کان النهی دالاّ علی اعتبار شیء فی المتعاقدین والعوضین أو العقد ، مثل النهی عن أن یبیع السفیه ، والمجنون ، والصغیر الدالّ علی اعتبار [الرشد و] العقل والبلوغ فی البائع ، وکالنهی عن بیع الخمر ، والمیته ، والآبق ، ونحوها الدالّ علی اعتبار إباحه المبیع والتمکّن من التصرّف منه ، وکالنهی عن العقد بغیر العربیّه – مثلا – الدالّ علی اعتبارها فی العقد ، فإنّ هذا النهی فی کلّ ذلک لا شکّ فی کونه دالاّ علی فساد المعامله ؛ لأنّ هذا النهی فی الحقیقه یرجع إلی القسم الأوّل الذی ذکرناه ، وهو ما کان النهی بداعی الإرشاد إلی اعتبار شیء فی المعامله ، وقد تقدّم أنّ هذا لیس موضع الکلام من منافاه نفس النهی بداعی الردع والزجر لصحّه المعامله.
فالعمده هو الکلام فی هذه المنافاه ، ولیس من دلیل علیها حتّی تثبت الملازمه بین النهی وفساد المعامله ؛ وکون النهی عن المسبّب یکون معجّزا مولویّا للمکلّف عن الفعل ، ورافعا لسلطنته علیه ، فإنّ معنی ذلک أنّ النهی فی المعامله شأنه أن یدلّ علی اختلال شرط فی المعامله بارتکاب المنهیّ عنه ، وهذا لا کلام لنا فیه.
وفی هذا القدر من البحث فی هذه المسأله الکفایه ، وفّقنا الله (تعالی) لمراضیه.
[شماره صفحه واقعی : 359]
ص: 860
تمرینات «41»
1. ما هو محلّ النزاع فی مسأله «دلاله النهی علی الفساد»؟
2. ما المراد من «الدلاله» فی محلّ النزاع؟
3. ما المراد من کلمه «النهی» فی المقام؟
4. ما هو رأی المحقّق الخراسانی والمحقّق النائینی فی المراد من کلمه «النهی» فی المقام؟
5. ما المراد من کلمه «الفساد» فی المقام؟
6. ما المراد من الشیء المنهیّ عنه؟
7. کیف تدخل هذه المسأله فی بحث الملازمات العقلیّه؟
8. ما المراد من العباده التی هی محلّ النزاع؟
9. اذکر أنحاء تعلّق النهی بالعباده ، ومثّل لکلّ منها.
10. هل النهی عن العباده یقتضی فسادها أم لا؟
11. ما هو رأی المحقّق النائینی فی النهی عن العباده؟
12. هل النهی التنزیهی یقتضی الفساد؟ ما الدلیل علیه؟
13. هل النهی عن المعامله یقتضی الفساد أم لا؟
[شماره صفحه واقعی : 360]
ص: 861
المقصد الثالث : مباحث الحجّه
اشاره
[شماره صفحه واقعی : 361]
ص: 862
[شماره صفحه واقعی : 362]
ص: 863
بسم الله الرّحمن الرّحیم
تمهید
اشاره
إنّ مقصودنا من هذا البحث – وهو «مباحث الحجّه» – تنقیح ما یصلح أن یکون دلیلا وحجّه علی الأحکام الشرعیّه ، لنتوصّل إلی الواقع من أحکام الله (تعالی).
فإن أصبنا بالدلیل ذلک الواقع – کما أردنا – فذلک هو الغایه القصوی والمقصد الأعلی ، وإن أخطأناه ، فنحن نکون معذورین غیر معاقبین فی مخالفه الواقع.
والسرّ فی کوننا معذورین عند الخطأ هو أنّنا قد بذلنا جهدنا وقصاری وسعنا فی البحث عن الطرق الموصله إلی الواقع من أحکام الله (تعالی) ، حتی ثبت لدینا – علی سبیل القطع – أنّ هذا الدلیل المعیّن – کخبر الواحد مثلا – قد ارتضاه الشارع لنا طریقا إلی أحکامه ، وجعله حجّه علیها ، فالخطأ الذی نقع فیه إنّما جاء من [قبل] الدلیل – الذی نصبه وارتضاه لنا – لا من قبلنا.
وسیأتی (1) بیان [أنّه] کیف نکون معذورین؟ وکیف یصحّ وقوع الخطأ فی الدلیل المنصوب حجّه ، مع أنّ الشارع هو الذی نصبه وجعله حجّه؟
ولا شکّ فی أنّ هذا المقصد هو غایه الغایات من مباحث علم أصول الفقه ، وهو العمده فیها ؛ لأنّه هو الذی یحصّل کبریات مسائل المقصدین السابقین (الأوّل والثانی) ، فإنّه لمّا کان یبحث فی المقصد الأوّل عن تشخیص صغریات الظواهر اللفظیّه (2) ، فإنّه فی هذا
[شماره صفحه واقعی : 363]
ص: 864
المقصد یبحث عن حجّیّه مطلق الظواهر اللفظیّه بنحو العموم ، فتتألّف الصغری من نتیجه المقصد الأوّل ، والکبری من نتیجه هذا المقصد ؛ لیستنتج من ذلک الحکم الشرعیّ ، فیقال – مثلا – :
صیغه «افعل» ظاهره فی الوجوب
(الصغری)
وکلّ ظاهر حجّه
(الکبری)
فینتج : صیغه «افعل» حجّه فی الوجوب
(النتیجه)
فإذا وردت صیغه «افعل» فی آیه أو حدیث استنتج (1) من ذلک وجوب متعلّقها.
وهکذا یقال فی المقصد الثانی ؛ إذ یبحث فیه عن تشخیص صغریات أحکام العقل (2) ، وفی هذا المقصد یبحث عن حجّیّه حکم العقل ، فتتألّف منهما صغری وکبری. (3)
وقد أوضحنا کلّ ذلک فی تمهید المقصدین. فراجع. (4)
[شماره صفحه واقعی : 364]
ص: 865
وعلیه ، فلا بدّ أن نستقصی فی بحثنا عن کلّ ما قیل أو یمکن أن یقال باعتباره وحجّیّته ؛ لنستوفی البحث ، ولنعذر عند الله (تعالی) فی اتّباع ما یصحّ اتّباعه ، وطرح ما لا یثبت اعتباره.
وینبغی لنا أیضا – من باب التمهید والمقدّمه – أن نبحث عن موضوع هذا المقصد ، وعن معنی الحجّیّه ، وخصائصها ، والمناط فیها ، وکیفیّه اعتبارها ، وما یتعلّق بذلک ، فنضع المقدّمه فی عدّه مباحث ، کما نضع المقصد فی عدّه أبواب :
تمرینات «42»
التمرین الأوّل :
1. ما المقصود من البحث عن المقصد الثالث «مباحث الحجّه»؟
2. ما السرّ فی کوننا معذورین عند الخطأ؟
3. کیف یستنتج الحکم الشرعی من نتیجه المقصد الأوّل ، ونتیجه المقصد الثالث؟ اذکر مثالا.
التمرین الثانی :
1. ما هو رأی المحقّق العراقیّ فی مناط کون المسأله أصولیّه؟
2. کیف یستنتج الحکم الشرعی من نتیجه المقصد الثانی ونتیجه هذا المقصد؟ اذکر مثالا.
[شماره صفحه واقعی : 365]
ص: 866
المقدّمه
اشاره
وفیها مباحث :
1. موضوع المقصد الثالث
اشاره
من التمهید المتقدّم فی بیان المقصود من «مباحث الحجّه» یتبیّن لنا أنّ الموضوع لهذا المقصد – الذی یبحث فیه عن لواحق ذلک الموضوع ومحمولاته – هو «کلّ شیء یصلح أن یدّعی ثبوت الحکم الشرعیّ به ، لیکون دلیلا وحجّه علیه».
فإن استطعنا فی هذا المقصد أن نثبت بدلیل قطعیّ (1) أنّ هذا الطریق – مثلا – حجّه أخذنا به ورجعنا إلیه لإثبات الأحکام الشرعیّه ، وإلاّ طرحناه وأهملناه ، (2) وبصریح العباره نقول :
إنّ الموضوع لهذا المقصد فی الحقیقه هو «ذات الدلیل» بما هو فی نفسه ، لا بما هو دلیل.
وأمّا محمولاته ولواحقه – التی نفحصها ونبحث عنها لإثباتها له – فهی کون ذلک الشیء دلیلا وحجّه ، فإمّا أن نثبت ذلک أو ننفیه.
ولا یصحّ أن نجعل موضوعه «الدلیل بما هو دلیل» ، أو «الحجّه بما هی حجّه» ،
[شماره صفحه واقعی : 366]
ص: 867
أی بصفه کونه دلیلا وحجّه ، کما نسب ذلک إلی المحقّق القمّی رحمه الله فی قوانینه ؛ إذ جعل موضوع علم الأصول الأدلّه الأربعه بما هی أدلّه (1).
ولو کان الأمر کما ذهب إلیه رحمه الله ، لوجب أن تخرج مسائل هذا المقصد کلّها عن علم الأصول ؛ لأنّها تکون حینئذ من مبادئه التصوّریّه ، لا من مسائله. وذلک واضح ؛ لأنّ البحث عن حجّیّه الدلیل یکون بحثا عن أصل وجود الموضوع وثبوته الذی هو مفاد «کان» التامّه ، لا بحثا عن لواحق الموضوع الذی هو مفاد «کان» الناقصه. والمعروف عند أهل الفنّ أنّ البحث عن وجود الموضوع – أیّ موضوع کان ، سواء کان موضوع العلم أو موضوع أحد أبوابه ومسائله – معدود من مبادئ العلم التصوّریّه ، لا من مسائله.
ولکن هنا ملاحظه (2) ینبغی التنبیه علیها فی هذا الصدد ، (3) وهی : أنّ تخصیص موضوع علم الأصول بالأدلّه الأربعه – کما فعل الکثیر من مؤلّفینا (4) – یستدعی أن یلتزموا بأنّ الموضوع هو الدلیل بما هو دلیل ، کما فعل صاحب القوانین ؛ وذلک لأنّ هؤلاء لمّا خصّصوا الموضوع بهذه الأربعه فإنّما خصّصوه بها ؛ لأنّها معلومه الحجّیّه عندهم ، فلا بدّ أنّهم لاحظوها موضوعا للعلم بما هی أدلّه ، لا بما هی هی ، وإلاّ لجعلوا الموضوع شاملا لها ولغیرها ممّا هو غیر معتبر عندهم ، کالقیاس ، والاستحسان ، ونحوهما ، وما کان وجه لتخصیصه بالأدلّه الأربعه.
وحینئذ لا مخرج لهم من الإشکال المتقدّم ، وهو لزوم خروج عمده مسائل علم الأصول عنه.
وعلی هذا ، فیتّضح أنّ مناقشه صاحب الفصول (5) لصاحب القوانین لیست فی محلّها ؛ لأنّ دعواه هذه لا بدّ من الالتزام بها بعد الالتزام بأنّ الموضوع خصوص الأدلّه الأربعه ، وإن لزم علیه إشکال خروج أهمّ المسائل عنه.
[شماره صفحه واقعی : 367]
ص: 868
ولو کان الموضوع هی الأدلّه بما هی هی – کما ذهب إلیه صاحب الفصول – لما کان معنی لتخصیصه بخصوص الأربعه ، ولوجب تعمیمه لکلّ ما یصلح أن یبحث عن دلیلیّته ، وإن ثبت بعد البحث أنّه لیس بدلیل.
والخلاصه أنّه إمّا أن نخصّص الموضوع بالأدلّه الأربعه فیجب أن نلتزم بما التزم به صاحب القوانین ، فتخرج مباحث هذا المقصد الثالث عن علم الأصول ، وإمّا أن نعمّم الموضوع – کما هو الصحیح – لکلّ ما یصلح أن یدّعی أنّه دلیل فلا یختصّ بالأربعه ، وحینئذ یصحّ أن نلتزم بما التزم به صاحب الفصول ، وتدخل مباحث هذا المقصد فی مسائل العلم.
فالالتزام بأنّ الموضوع هی [الأدلّه] الأربعه فقط ، ثمّ الالتزام بأنّها بما هی هی ، لا یجتمعان. (1)
وهذا (2) أحد الشواهد علی تعمیم موضوع علم الأصول لغیر الأدلّه الأربعه ، وهو الذی نرید إثباته هنا. وقد سبقت الإشاره إلی ذلک. (3)
والنتیجه أنّ الموضوع – الذی یبحث عنه فی هذا المقصد – هو «کلّ شیء یصلح أن یدّعی أنّه دلیل وحجّه» ، فیعمّ البحث کلّ ما [یصلح أن] یقال : إنّه حجّه ، فیدخل فیه البحث عن حجّیّه خبر الواحد ، والظواهر ، والشهره ، والإجماع المنقول ، والقیاس ، والاستحسان ، ونحو ذلک ، بالإضافه إلی البحث عن أصل الکتاب ، والسنّه ، والإجماع ، والعقل.
فما ثبت أنّه حجّه من هذه الأمور أخذنا به ، وما لم یثبت طرحناه.
کما یدخل فیه أیضا البحث عن مسأله التعادل والتراجیح ؛ لأنّ البحث فیها – فی الحقیقه – عن تعیین ما هو حجّه ودلیل من بین المتعارضین ، فتکون المسأله من مسائل مباحث الحجّه.
[شماره صفحه واقعی : 368]
ص: 869
ونحن جعلناها فی الجزء الأوّل خاتمه لعلم الأصول (1) ؛ اتّباعا لمنهج القوم ، ورأینا الآن العدول عن ذلک ؛ رعایه لواقعها ، وللاختصار.
تمرینات «43»
1. ما هو موضوع المقصد الثالث؟
2. لم لا یصحّ أن یجعل موضوع هذا المقصد الدلیل بما هو دلیل ، أو الحجّه بما هی حجّه؟
3. ما الفرق بین مفاد «کان» التامّه ، و «کان» الناقصه؟
4. ما هو رأی صاحب الفصول فی موضوع علم الأصول؟
5. ما الدلیل علی تعمیم موضوع علم الأصول لغیر الأدلّه الأربعه؟
6. کیف تدخل مسأله التعادل والتراجیح فی مباحث الحجّه؟
[شماره صفحه واقعی : 369]
ص: 870
2. معنی الحجّه
اشاره
1. الحجّه لغه : کلّ شیء یصلح أن یحتجّ به علی الغیر. (1)
وذلک بأن یکون به الظفر علی الغیر عند الخصومه معه. والظفر علی الغیر علی نحوین : إمّا بإسکاته وقطع عذره وإبطاله ، وإمّا بأن یلجئه إلی [قبول] عذر صاحب الحجّه ، فتکون الحجّه معذّره له لدی الغیر.
2. وأمّا الحجّه فی الاصطلاح العلمیّ فلها معنیان أو اصطلاحان :
أ : ما عند المناطقه. ومعناها : «کلّ ما یتألّف من قضایا تنتج مطلوبا» ، أی مجموع القضایا المترابطه التی یتوصّل بتألیفها وترابطها إلی العلم بالمجهول ، سواء کان فی مقام الخصومه مع أحد أم لم یکن. وقد یطلقون الحجّه أیضا علی نفس «الحدّ الأوسط» فی القیاس. (2)
ب : ما عند الأصولیّین. ومعناها عندهم حسب تتبّع استعمالها : «کلّ شیء یثبت متعلّقه ولا یبلغ درجه القطع» ، أی لا یکون سببا للقطع بمتعلّقه ، وإلاّ فمع القطع یکون القطع هو الحجّه ، ولکن هو حجّه بمعناها اللغویّ. أو قل بتعبیر آخر : «الحجّه : کلّ شیء یکشف عن شیء آخر ، ویحکی عنه علی وجه یکون مثبتا له».
ونعنی بکونه مثبتا له : أنّ إثباته له یکون بحسب الجعل من الشارع لا بحسب ذاته. ویکون معنی «إثباته له» حینئذ أنّه یثبت الحکم الفعلیّ فی حقّ المکلّف بعنوان أنّه (3) هو الواقع. وإنّما یصحّ ذلک ویکون مثبتا له بضمیمه الدلیل علی اعتبار ذلک الشیء الکاشف الحاکی ، وعلی أنّه حجّه من قبل الشارع.
وسیأتی إن شاء الله (تعالی) تحقیق معنی الجعل للحجیّه ، و [أنّه] کیف یثبت
[شماره صفحه واقعی : 370]
ص: 871
الحکم بالحجّه؟ (1)
وعلی هذا ، فالحجّه بهذا الاصطلاح لا تشمل القطع – أی : إنّ القطع لا یسمّی حجّه بهذا المعنی ، بل بالمعنی اللغویّ ؛ لأنّ طریقیّه القطع – کما سیأتی (2) – ذاتیّه غیر مجعوله من قبل أحد.
وتکون الحجّه بهذا المعنی الأصولیّ مرادفه لکلمه «الأماره» ، کما أنّ کلمه «الدلیل» ، وکلمه «الطریق» تستعملان فی هذا المعنی ، فتکونان مرادفتین لکلمه «الأماره» ، و «الحجّه» ، أو کالمرادفتین.
وعلیه ، فلک أن تقول فی عنوان هذا المقصد بدل کلمه «مباحث الحجّه» : مباحث الأمارات ، (3) أو مباحث الأدلّه ، (4) أو مباحث الطرق. (5) وکلّها یؤدّی معنی واحدا. (6)
وممّا ینبغی التنبیه علیه فی هذا الصدد أنّ استعمال کلمه «الحجّه» فی المعنی الذی تؤدّیه کلمه «الأماره» مأخوذ من المعنی اللغویّ (7) من باب تسمیه الخاصّ باسم العامّ ؛ نظرا إلی أنّ الأماره ممّا یصحّ أن یحتجّ المکلّف بها إذا عمل بها وصادفت مخالفه الواقع ، فتکون معذّره له ، کما أنّها ممّا یصحّ أن یحتجّ بها المولی علی المکلّف إذا لم یعمل بها ، ووقع فی مخالفه الحکم الواقعیّ ، فیستحقّ العقاب علی المخالفه.
[شماره صفحه واقعی : 371]
ص: 872
تمرینات «3»
التمرین الأوّل :
1. ما هو معنی الحجّه لغه؟
2. ما هو معنی الحجّه عند المناطقه؟
3. ما هو معنی الحجّه عند الأصولیّین؟
التمرین الثانی :
1. ما الفرق بین المرادف وبین کالمرادف فی عباره المصنّف؟
2. اذکر أقوال العلماء فی عنوان المقصد الثالث؟
[شماره صفحه واقعی : 372]
ص: 873
3. مدلول کلمه «الأماره» و «الظنّ المعتبر»
بعد أن قلنا : إنّ الأماره مرادفه لکلمه «الحجّه» باصطلاح الأصولیّین ، ینبغی أن ننقل الکلام إلی کلمه «الأماره» لنتسقّط بعض استعمالاتها ، کما سنستعملها بدل کلمه «الحجّه» فی المباحث الآتیه ، فنقول :
إنّه کثیرا ما یجری علی ألسنه الأصولیّین إطلاق کلمه «الأماره» علی معنی ما تؤدّیه کلمه «الظنّ» ، ویقصدون من الظنّ «الظنّ المعتبر» ، أی الذی اعتبره الشارع ، وجعله حجّه ، ویوهم ذلک أنّ الأماره والظنّ المعتبر لفظان مترادفان یؤدّیان معنی واحدا ، مع أنّهما لیسا کذلک.
وفی الحقیقه أنّ هذا تسامح فی التعبیر منهم علی نحو المجاز فی الاستعمال ، لا أنّه وضع آخر لکلمه «الأماره». وإنّما مدلول الأماره الحقیقی (1) هو کلّ شیء اعتبره الشارع لأجل أنّه یکون سببا للظنّ ، کخبر الواحد والظواهر.
والمجاز هنا إمّا من جهه إطلاق السبب علی مسبّبه فیسمّی الظنّ المسبّب «أماره» ؛ وإمّا من جهه إطلاق المسبّب علی سببه فتسمّی الأماره – التی هی سبب للظنّ – : «ظنّا» ، فیقولون : «الظنّ المعتبر» ، و «الظنّ الخاصّ» ، والاعتبار والخصوصیّه إنّما هما لسبب الظنّ.
ومنشأ هذا التسامح فی الإطلاق هو أنّ السرّ فی اعتبار الأماره وجعلها حجّه وطریقا هو إفادتها للظنّ دائما أو علی الأغلب ، ویقولون للثانی – الذی یفید الظنّ علی الأغلب – : «الظنّ النوعیّ» علی ما سیأتی بیانه.
4. الظنّ النوعیّ
ومعنی «الظنّ النوعیّ» : أنّ الأماره تکون من شأنها أن تفید الظنّ عند غالب الناس ونوعهم. واعتبارها عند الشارع إنّما یکون من هذه الجهه ، فلا یضرّ فی اعتبارها وحجیّتها ألاّ یحصل منها ظنّ فعلیّ للشخص الذی قامت عنده الأماره ، بل تکون حجّه عند
[شماره صفحه واقعی : 373]
ص: 874
هذا الشخص أیضا حیث إنّ دلیل اعتبارها دلّ علی أنّ الشارع إنّما اعتبرها حجّه ورضی بها طریقا ؛ لأنّ من شأنها أن تفید الظنّ ، وإن لم یحصل الظنّ الفعلیّ منها لدی بعض الأشخاص.
ثمّ لا یخفی علیک أنّا قد نعبّر فیما یأتی تبعا للأصولیّین فنقول : «الظنّ الخاصّ» ، أو «الظنّ المعتبر» ، أو «الظنّ الحجّه» ، وأمثال هذه التعبیرات ، والمقصود منها دائما سبب الظنّ – أعنی الأماره المعتبره وإن لم تفد ظنّا فعلیّا – ، فلا یشتبه علیک الحال.
5. الأماره و الأصل العملیّ
واصطلاح الأماره لا یشمل «الأصل العملیّ» ، کالبراءه ، والاحتیاط ، والتخییر ، والاستصحاب ، بل هذه الأصول تقع فی جانب والأماره فی جانب آخر مقابل له ، فإنّ المکلّف إنّما یرجع إلی الأصول إذا افتقد الأماره ، أی إذا لم تقم عنده الحجّه علی الحکم الشرعیّ الواقعیّ علی ما سیأتی توضیحه ، وبیان السرّ فیه. (1)
ولا ینافی ذلک أنّ هذه الأصول أیضا قد یطلق علیها أنّها حجّه ، فإنّ إطلاق الحجّه علیها لیس بمعنی الحجّه فی باب الأمارات ، بل بالمعنی اللغویّ باعتبار أنّها معذّره للمکلّف إذا عمل بها وأخطأ الواقع ، ویحتجّ بها المولی علی المکلّف إذا خالفها ولم یعمل بها ففوّت الواقع المطلوب ؛ ولأجل هذا جعلنا باب «الأصول العملیّه» بابا آخر مقابل باب «مباحث الحجّه».
وقد أشیر فی تعریف «الأماره» إلی خروج الأصول العملیّه بقولهم : «یثبت متعلّقه» ؛ لأنّ الأصول العملیّه لا تثبت متعلّقاتها ؛ لأنّه لیس لسانها لسان إثبات الواقع والحکایه عنه ، وإنّما هی فی حقیقتها مرجع للمکلّف فی مقام العمل عند الحیره والشکّ فی الواقع ، وعدم ثبوت حجّه علیه. وغایه شأنها أنّها تکون معذّره للمکلّف.
ومن هنا اختلفوا فی الاستصحاب ، هل إنّه أماره أو أصل؟ باعتبار أنّ له شأن الحکایه عن الواقع ، وإحرازه فی الجمله ؛ لأنّ الیقین السابق غالبا ما یورث الظنّ ببقاء المتیقّن فی
[شماره صفحه واقعی : 374]
ص: 875
الزمان اللاحق ؛ ولأنّ حقیقته – کما سیأتی فی موضعه (1) – البناء علی الیقین السابق بعد الشکّ ، کأنّ المتیقّن السابق لم یزل ولم یشکّ فی بقائه. ولأجل هذا سمّی الاستصحاب عند من یراه أصلا : «أصلا محرزا».
فمن لاحظ فی الاستصحاب جهه ما له من إحراز وأنّه یوجب الظنّ ، واعتبر حجّیّته من هذه الجهه عدّه من الأمارات. (2) ومن لاحظ فیه أنّ الشارع إنّما جعله مرجعا للمکلّف عند الشکّ والحیره ، واعتبر حجّیّته من جهه دلاله الأخبار علیه عدّه من جمله الأصول. (3) وسیأتی إن شاء الله (تعالی) شرح ذلک فی محلّه مع بیان الحقّ فیه. (4)
تمرینات «45»
1. ما معنی «الظنّ المعتبر»؟
2. ما هو مدلول الأماره؟
3. ما هو الوجه المصحّح لإطلاق کلمه «الأماره» علی الظنّ المعتبر وبالعکس؟
4. ما معنی «الظنّ النوعیّ»؟
5. ما الفرق بین الأماره والأصل العملی؟
6. هل الاستصحاب أماره أو أصل؟ اذکر آراء العلماء.
[شماره صفحه واقعی : 375]
ص: 876
6. المناط فی إثبات حجّیّه الأماره
اشاره
ممّا یجب أن نعرفه – قبل البحث والتفتیش عن الأمارات التی هی حجّه – [أنّ] المناط فی إثبات حجّیّه الأماره [ما هو؟] وأنّه بأیّ شیء یثبت لنا أنّها حجّه یعوّل علیها؟ وهذا هو أهمّ شیء تجب معرفته قبل الدخول فی المقصود ، فنقول :
إنّه لا شکّ فی أنّ الظنّ بما هو ظنّ لا یصحّ أن یکون هو المناط فی حجّیّه الأماره ، ولا یجوز أن یعوّل علیه فی إثبات الواقع ؛ لقوله (تعالی) : (إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً) (1). وقد ذمّ الله (تعالی) فی کتابه المجید من یتّبع الظنّ بما هو ظنّ ، کقوله (تعالی) : (إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ یَخْرُصُونَ) (2) ، وقال (تعالی) : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللهِ تَفْتَرُونَ) (3).
وفی هذه الآیه الأخیره – بالخصوص – قد جعل ما أذن به أمرا مقابلا للافتراء علیه ، فما لم یأذن به لا بدّ أن یکون افتراء بحکم المقابله بینهما ، فلو نسبنا الحکم إلی الله (تعالی) من دون إذن منه فلا محاله یکون افتراء محرّما ، مذموما بمقتضی الآیه. ولا شکّ فی أنّ العمل بالظنّ والالتزام به علی أنّه من الله (تعالی) ومثبت لأحکامه یکون من نوع نسبه الحکم إلیه من دون إذن منه ، فیدخل فی قسم الافتراء المحرّم.
وعلی هذا التقریر ، فالقاعده تقتضی أنّ الظنّ بما هو ظنّ لا یجوز العمل علی مقتضاه ، ولا الأخذ به لإثبات أحکام الله (تعالی) مهما کان سببه ؛ لأنّه لا یغنی من الحقّ شیئا ، فیکون خرصا باطلا ، (4) وافتراء محرّما.
هذا مقتضی القاعده الأوّلیّه فی الظنّ بمقتضی هذه الآیات الکریمه ، ولکن لو ثبت بدلیل قطعیّ وحجّه یقینیّه أنّ الشارع قد جعل ظنّا خاصّا من سبب مخصوص طریقا لأحکامه ،
[شماره صفحه واقعی : 376]
ص: 877
واعتبره حجّه علیها ، وارتضاه أماره یرجع إلیها ، وجوّز لنا الأخذ بذلک السبب المحقّق للظنّ ، فإنّ هذا الظنّ یخرج عن مقتضی تلک القاعده الأوّلیّه ؛ إذ لا یکون خرصا ، وتخمینا ، ولا افتراء.
وخروجه من القاعده یکون تخصیصا بالنسبه إلی آیه النهی عن اتّباع الظنّ ، ویکون تخصّصا بالنسبه إلی آیه الافتراء ؛ لأنّه یکون حینئذ من قسم ما أذن الله (تعالی) به ، وما أذن به لیس افتراء.
وفی الحقیقه أنّ الأخذ بالظنّ المعتبر – الذی ثبت علی سبیل القطع أنّه حجّه – لا یکون أخذا بالظنّ بما هو ظنّ ، وإن کان اعتباره عند الشارع من جهه کونه ظنّا ، بل یکون أخذا بالقطع والیقین ، ذلک القطع الذی قام علی اعتبار ذلک السبب المحقّق للظنّ ، وسیأتی أنّ القطع حجّه بذاته ، لا یحتاج إلی جعل من أحد. (1)
ومن هنا یظهر الجواب عمّا شنع (2) به جماعه من الأخباریّین علی الأصولیّین من أخذهم ببعض الأمارات الظنّیّه الخاصّه ، کخبر الواحد ونحوه ، إذ شنعوا علیهم بأنّهم أخذوا بالظنّ الذی لا یغنی من الحقّ شیئا.
وقد فاتهم أنّ الأصولیّین إذ أخذوا بالظنون الخاصّه لم یأخذوا بها من جهه أنّها ظنون فقط ، بل أخذوا بها من جهه أنّها معلومه الاعتبار علی سبیل القطع بحجیّتها ، فکان أخذهم بها فی الحقیقه أخذا بالقطع والیقین ، لا بالظنّ والخرص والتخمین ؛ ولأجل هذا سمّیت الأمارات المعتبره ب- «الطرق العلمیّه» ؛ نسبه إلی العلم القائم علی اعتبارها وحجّیّتها ؛ لأنّ حجّیّتها ثابته بالعلم.
إلی هنا یتّضح ما أردنا أن نرمی إلیه ، وهو أنّ المناط فی إثبات حجّیّه الأمارات ، ومرجع اعتبارها ، وقوامها ما هو؟ إنّه العلم القائم علی اعتبارها وحجّیّتها ، فإذا لم یحصل العلم بحجّیّتها والیقین بإذن الشارع بالتعویل علیها والأخذ بها لا یجوز الأخذ بها وإن أفادت ظنّا غالبا ؛ لأنّ الأخذ بها یکون حینئذ خرصا وافتراء علی الله (تعالی) ؛ ولأجل
[شماره صفحه واقعی : 377]
ص: 878
هذا قالوا : یکفی فی طرح الأماره أن یقع الشکّ فی اعتبارها ، أو فقل علی الأصحّ : یکفی ألاّ یحصل العلم باعتبارها ؛ فإنّ نفس عدم العلم بذلک کاف فی حصول العلم بعدم اعتبارها ، أی بعدم جواز التعویل علیها والاستناد إلیها. وذلک کالقیاس والاستحسان وما إلیهما وإن أفادت ظنّا قویّا.
ولا نحتاج فی مثل هذه الأمور إلی الدلیل علی عدم اعتبارها ، وعدم حجّیّتها ، بل بمجرّد عدم حصول القطع بحجّیّه الشیء یحصل القطع بعدم جواز الاستناد إلیه فی مقام العمل ، وبعدم صحّه التعویل علیه ، فیکون القطع مأخوذا فی موضوع حجّیّه الأماره.
ویتحصّل من ذلک کلّه أنّ أماریّه الأماره وحجّیّه الحجّه إنّما تحصل وتتحقّق بوصول علمها إلی المکلّف ، وبدون العلم بالحجّیّه لا معنی لفرض کون الشیء أماره وحجّه ، ولذا قلنا : «إنّ مناط إثبات الحجّیّه وقوامها (1) العلم» ، فهو (2) مأخوذ فی موضوع الحجیّه ؛ فإنّ العلم تنتهی إلیه حجّیّه کلّ حجّه.
ولزیاده الإیضاح لهذا الأمر ، ولتمکین النفوس المبتدئه من الاقتناع بهذه الحقیقه البدیهیّه نقول من طریق آخر لإثباتها :
أوّلا : إنّ الظنّ بما هو ظنّ لیس حجّه بذاته.
وهذه مقدّمه واضحه قطعیّه ، وإلاّ لو کان الظنّ حجه بذاته ، لما جاز النهی عن اتّباعه والعمل به ، ولو فی بعض الموارد علی نحو الموجبه الجزئیّه ؛ لأنّ ما هو بذاته حجّه یستحیل النهی عن الأخذ به ، کما سیأتی فی حجّیّه القطع (المبحث الآتی) ، ولا شکّ فی وقوع النهی عن اتّباع الظنّ فی الشریعه الإسلامیّه المطهّره ، ویکفی فی إثبات ذلک قوله (تعالی) : (إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ …) (3)
ثانیا : إذا لم یکن الظنّ حجّه بذاته فحجّیّته تکون عرضیّه – أی إنّها تکون مستفاده من الغیر – ؛ فننقل الکلام إلی ذلک الغیر المستفاده منه حجّیّه الظنّ ؛ فإن کان هو القطع ، فذلک هو
[شماره صفحه واقعی : 378]
ص: 879
المطلوب ؛ وإن لم یکن قطعا ، فما هو؟
ولیس یمکن فرض شیء آخر غیر نفس الظنّ ؛ فإنّه لا ثالث لهما یمکن فرض حجّیّته.
ولکنّ الظنّ الثانی القائم علی حجّیّه الظنّ الأوّل أیضا لیس حجّه بذاته ؛ إذ لا فرق بین ظنّ وظنّ من هذه الناحیه ؛ فننقل الکلام إلی هذا الظنّ الثانی ، ولا بدّ أن تکون حجّیّته أیضا مستفاده من الغیر ، فما هو ذلک الغیر؟ فإن کان هو القطع فذلک هو المطلوب ؛ وإن لم یکن قطعا فظنّ ثالث. فننقل الکلام إلی هذا الظنّ الثالث ، فیحتاج إلی ظنّ رابع ، وهکذا إلی غیر النهایه ، ولا ینقطع التسلسل إلاّ بالانتهاء إلی ما هو حجّه بذاته ، ولیس هو إلاّ العلم.
ثالثا : فانتهی الأمر بالأخیر إلی العلم ، فتمّ المطلوب.
وبعباره أسدّ وأخصر ، نقول :
إنّ الظنّ لمّا کانت حجّیّته لیست ذاتیّه ، فلا تکون إلاّ بالعرض ؛ وکلّ ما بالعرض لا بدّ أن ینتهی إلی ما هو بالذات ، ولا مجاز بلا حقیقه ؛ وما هو حجّه بالذات لیس إلاّ «العلم» ؛ فانتهی الأمر بالأخیر إلی «العلم».
وهذا ما أردنا إثباته ، وهو أنّ قوام الأماره والمناط فی إثبات حجّیّتها هو العلم ؛ فإنّه تنتهی إلیه حجّیّه کلّ حجّه ؛ لأنّ حجّیّته ذاتیّه.
تمرینات «46»
1. ما هو مقتضی القاعده الأوّلیه فی الظنّ؟
2. ما المناط فی إثبات حجیّه الأماره؟ بیّن المقدّمات الثلاث التی ذکرها المصنّف فی المقام.
3. اذکر ما شنع به الأخباریّون علی الأصولیین ، والجواب عنه.
[شماره صفحه واقعی : 379]
ص: 880
7. حجّیه العلم ذاتیّه
اشاره
کرّرنا فی البحث السابق القول بأنّ «حجّیّه العلم ذاتیّه» ، ووعدنا ببیانها ، وقد حلّ هنا الوفاء بالوعد ؛ فنقول :
قد ظهر ممّا سبق معنی کون الشیء حجّیّته ذاتیّه ؛ (1) فإنّ معناه أنّ حجّیّته منبعثه من نفس طبیعه ذاته ، فلیست مستفاده من الغیر ، ولا تحتاج إلی جعل من الشارع ، ولا إلی صدور أمر منه باتّباعه ، بل العقل هو الذی یکون حاکما بوجوب اتّباع ذلک الشیء ؛ وما هذا شأنه لیس هو إلاّ العلم.
ولقد أحسن الشیخ العظیم الأنصاریّ قدس سره مجلّی (2) هذه الأبحاث فی تعلیل وجوب متابعه القطع (3) ، فإنّه بعد أن ذکر أنّه «لا إشکال فی وجوب متابعه القطع والعمل علیه ما دام موجودا» علّل ذلک بقوله : «لأنّه بنفسه طریق إلی الواقع. ولیست طریقیّته قابله لجعل الشارع إثباتا أو نفیا». (4)
وهذا الکلام فیه شیء من الغموض (5) بعد أن اختلفت تعبیرات الأصولیّین من بعده ، فنقول لبیانه :
إنّ هنا شیئین أو تعبیرین :
أحدهما : وجوب متابعه القطع والأخذ به.
ثانیهما : طریقیّه القطع للواقع.
فما المراد من کون القطع حجّه بذاته؟ هل المراد أنّ وجوب متابعته أمر ذاتیّ له ،
[شماره صفحه واقعی : 380]
ص: 881
کما وقع فی تعبیرات بعض الأصولیّین المتأخّرین ، (1) أم أنّ المراد أنّ طریقیّته ذاتیّه؟
وإنّما صحّ أن یسأل هذا السؤال ، فمن أجل قیاسه علی الظنّ حینما نقول : «إنّه حجّه» ، فإنّ فیه جهتین :
1. جهه طریقیّته للواقع : فحینما نقول : «إنّ حجّیّته مجعوله» ، نقصد أنّ طریقیّته مجعوله ؛ لأنّها لیست ذاتیّه له ؛ لوجود احتمال الخلاف. فالشارع یجعله طریقا إلی الواقع ؛ بإلغاء احتمال الخلاف ، کأنّه لم یکن ، فتتمّ بذلک طریقیّته الناقصه لیکون کالقطع فی الإیصال إلی الواقع. وهذا المعنی هو المجعول للشارع.
2. جهه وجوب متابعته : فحینما نقول : «إنّه حجّه» ، نقصد أنّ الشارع أمر بوجوب متابعه ذلک الظنّ ، والأخذ به ، أمرا مولویّا ؛ فینتزع من هذا الأمر أنّ هذا الظنّ موصل إلی الواقع ، ومنجّز له ؛ فیکون المجعول هذا الوجوب ، ویکون هذا معنی حجّیّه الظنّ.
وإذا کان هذا حال الظنّ فالقطع ینبغی أن یکون له أیضا هاتان الجهتان ، فنلاحظهما حینما نقول – مثلا – : «إنّ حجّیّته ذاتیّه» إمّا من جهه کونه طریقا بذاته ، وإمّا من جهه وجوب متابعته لذاته.
ولکن فی الحقیقه أنّ التعبیر بوجوب متابعه القطع لا یخلو عن مسامحه ظاهره ، منشؤها ضیق العباره عن المقصود ؛ إذ یقاس علی الظنّ. والسرّ فی ذلک واضح ؛ لأنّه لیس للقطع متابعه مستقلّه غیر الأخذ بالواقع المقطوع به ، فضلا عن أن یکون لهذه المتابعه وجوب مستقلّ غیر نفس وجوب الأخذ بالواقع المقطوع به – أی وجوب طاعه الواقع المنکشف بالقطع من وجوب ، أو حرمه ، أو نحوهما – ؛ إذ لیس وراء انکشاف الواقع شیء ینتظره الإنسان ، فإذا انکشف الواقع له فلا بدّ أن یأخذ به.
وهذه اللابدّیّه لابدّیّه عقلیّه (2) منشؤها أنّ القطع بنفسه طریق إلی الواقع ، وعلیه ، فیرجع
[شماره صفحه واقعی : 381]
ص: 882
التعبیر بوجوب متابعه القطع إلی معنی کون القطع بنفسه طریقا إلی الواقع ، وأنّ نفسه نفس انکشاف الواقع ، فالجهتان فیه جهه واحده فی الحقیقه.
وهذا هو السرّ فی تعلیل الشیخ الأعظم الأنصاریّ رحمه الله لوجوب متابعته بکونه (1) طریقا بذاته ، ولم یتعرّض فی التعلیل لنفس الوجوب. ومن أجل هذا رکز البحث کلّه علی طریقیّته الذاتیّه.
ویظهر لنا – حینئذ – أنّه لا معنی لأن یقال فی تعلیل حجّیّته الذاتیّه : «إنّ وجوب متابعته أمر ذاتیّ له».
وإذا اتّضح ما تقدّم وجب علینا توضیح معنی کون القطع طریقا ذاتیّا ، وهو کلّ البحث عن حجّیّه القطع ، وما وراءه من الکلام فکلّه فضول ، وعلیه فنقول :
تقدّم أنّ القطع حقیقته انکشاف الواقع ؛ لأنّه حقیقه نوریّه محضه لا غطش (2) فیها ، ولا احتمال للخطإ یرافقها ؛ فالعلم نور لذاته [و] نور لغیره ، فذاته نفس الانکشاف (3) لا أنّه شیء له الانکشاف. (4)
وقد عرفتم فی مباحث الفلسفه أنّ الذات أو الذاتیّ یستحیل جعله بالجعل التألیفیّ ؛ (5) لأنّ جعل شیء لشیء إنّما یصحّ أن یفرض فیما یمکن فیه التفکیک بین المجعول والمجعول له. وواضح أنّه یستحیل التفکیک بین الشیء وذاته – أی بین الشیء ونفسه – وکذا بینه وبین ذاتیّاته. وهذا معنی قولهم المشهور : «الذاتیّ لا یعلّل» (6) وإنّما المعقول من
[شماره صفحه واقعی : 382]
ص: 883
جعل القطع هو جعله بالجعل البسیط ، أی خلقه وإیجاده.
وعلیه ، فلا معنی لفرض جعل الطریقیّه للقطع جعلا تألیفیّا ، بأیّ نحو فرض للجعل ، سواء کان جعلا تکوینیّا أم جعلا تشریعیّا ؛ فإنّ ذلک مساوق لجعل القطع لنفس القطع ، وجعل الطریق لذات الطریق.
وعلی تقدیر التنزّل عن هذا والقول مع من قال : «إنّ القطع شیء له الطریقیّه والکاشفیّه عن الواقع» – کما وقع فی تعبیرات بعض الأصولیّین المتأخّرین عن الشیخ (1) – فعلی الأقلّ تکون الطریقیّه من لوازم ذاته ، التی لا تنفکّ عنه ، کالزوجیّه بالنسبه إلی الأربعه. ولوازم الذات کالذات یستحیل أیضا جعلها بالجعل التألیفیّ علی ما هو الحقّ ، وإنّما یکون جعلها بنفس جعل الذات جعلا بسیطا ، لا بجعل آخر وراء جعل الذات. وقد أوضحنا ذلک فی مباحث الفلسفه (2).
وإذا استحال جعل الطریقیّه للقطع استحال نفیها عنه ؛ لأنّه کما یستحیل جعل الذات ولوازمها یستحیل نفی الذات ولوازمها عنها ، وسلبها بالسلب التألیفیّ ؛ بل نحن إنّما نعرف استحاله جعل الذات والذاتیّ ولوازم الذات بالجعل التألیفیّ ؛ لأنّا نعرف أوّلا امتناع انفکاک الذات عن نفسها ، وامتناع انفکاک لوازمها عنها ، کما تقدّم بیانه.
علی أنّ نفی الطریقیّه عن القطع یلزم منه التناقض بالنسبه إلی القاطع وفی نظره ، فإنّه – مثلا – حینما یقطع بأنّ هذا الشیء واجب ، یستحیل علیه أن یقطع ثانیا بأنّ هذا القطع لیس طریقا موصلا إلی الواقع ؛ فإنّ معنی هذا أن یقطع ثانیا بأنّ ما قطع بأنّه واجب لیس بواجب مع فرض بقاء قطعه الأوّل علی حاله. وهذا تناقض بحسب نظر القاطع ووجدانه ، یستحیل أن یقع منه ، حتّی لو کان فی الواقع علی خطأ فی قطعه الأوّل ، ولا یصحّ هذا إلاّ إذا تبدّل قطعه وزال ، وهذا شیء آخر غیر ما نحن فی صدده.
والحاصل أنّ اجتماع القطعین بالنفی والإثبات محال ، کاجتماع النفی والإثبات ، بل یستحیل فی حقّه حتّی احتمال أنّ قطعه لیس طریقا إلی الواقع ؛ فإنّ هذا الاحتمال مساوق
[شماره صفحه واقعی : 383]
ص: 884
لانسلاخ القطع عنده ، وانقلابه إلی الظنّ ، فما فرض أنّه قطع لا یکون قطعا ، وهو خلف محال.
وهذا الکلام لا ینافی أن یحتمل الإنسان ، أو یقطع أنّ بعض علومه علی الإجمال – غیر المعیّن فی نوع خاصّ ، ولا فی زمن من الأزمنه – کان علی خطأ ، فإنّه بالنسبه إلی کلّ قطع فعلیّ بشخصه لا یتطرّق إلیه الاحتمال بخطئه ، وإلاّ لو اتّفق له ذلک لانسلخ عن کونه قطعا جازما.
نعم ، لو احتمل خطأ أحد علوم محصوره ومعیّنه فی وقت واحد فإنّه لا بدّ أن ینسلخ کلّها عن کونها اعتقادا جازما ؛ فإنّ بقاء قطعه فی جمیعها وتطرّق احتمال خطأ واحد منها لا علی التعیین ، لا یجتمعان.
والخلاصه أنّ القطع یستحیل جعل الطریقیّه له [جعلا] تکوینیّا وتشریعیّا ، ویستحیل نفیها عنه ، مهما کان السبب الموجب له [ولو کان من خفقان جناح أو مرور هواء]. (1)
وعلیه ، فلا یعقل التصرّف فیه بأسبابه ، کما نسب ذلک إلی بعض الأخباریّین من حکمهم بعدم جواز الأخذ بالقطع إذا کان سببه من مقدّمات عقلیّه ، (2) وقد أشرنا إلی ذلک فی الجزء الثانی (3).
وکذلک لا یمکن التصرّف فیه من جهه الأشخاص ، بأن یعتبر قطع شخص ولا یعتبر قطع آخر ، کما قیل بعدم الاعتبار بقطع القطّاع (4) قیاسا علی کثیر الشکّ الذی حکم شرعا
[شماره صفحه واقعی : 384]
ص: 885
بعدم الاعتبار بشکّه فی ترتّب أحکام الشکّ.
وکذلک ، لا یمکن التصرّف فیه من جهه الأزمنه ، ولا من جهه متعلّقه بأن یفرّق فی اعتباره بین ما إذا کان متعلّقه الحکم فلا یعتبر ، وبین ما إذا کان متعلّقه موضوع الحکم أو متعلّقه فیعتبر ؛ فإنّ القطع فی کلّ ذلک طریقیّته ذاتیّه غیر قابله للتصرّف فیها بوجه من الوجوه ، وغیر قابله لتعلّق الجعل بها نفیا وإثباتا. وإنّما الذی یصحّ ویمکن أن یقع فی الباب هو أن یلفت نظر الخاطئ فی قطعه إلی الخلل فی مقدّمات قطعه ، فإذا تنبّه إلی الخلل فی سبب قطعه فلا محاله أنّ قطعه سیتبدّل إمّا إلی احتمال الخلاف أو إلی القطع بالخلاف ، ولا ضیر فی ذلک ، وهذا واضح.
تمرینات «47»
التمرین الأوّل :
1. ما معنی قولهم : «حجیّه العلم ذاتیّه»؟
2. بیّن ما علّل به الشیخ وجوب متابعه القطع؟
3. ما هو منشأ المسامحه فی التعبیر بوجوب متابعه القطع؟
4. ما معنی کون القطع طریقا ذاتیّا؟ بیّن وجه استحاله جعل الطریقیّه للقطع ، ووجه استحاله نفیها عنه.
التمرین الثانی :
1. قال المصنّف : «وهذا الکلام فیه شیء من الغموض» بیّن وجه الغموض.
2. اذکر أقوال المتأخّرین فی معنی وجوب متابعه القطع.
3. اذکر الأقوال فی حقیقه القطع ، واذکر القول الراجح عند المصنّف.
4. ما الفرق بین الجعل التألیفی ، والجعل التشریعی؟
5. ما معنی قولهم : «الذاتی لا یعلّل»؟
6. اذکر ما نسب إلی بعض الأخباریّین فی الأخذ بالقطع ، واذکر وجه النظر فی هذه النسبه.
7. من هو القائل بعدم اعتبار قطع القطّاع؟
[شماره صفحه واقعی : 385]
ص: 886
8. موطن حجّیّه الأمارات
اشاره
قد أشرنا فی مبحث الإجزاء (1) إلی أنّ جعل الطرق والأمارات یکون فی فرض التمکّن من تحصیل العلم ، وأحلنا بیانه إلی محلّه ، وهذا هو محلّه ، فنقول :
إنّ غرضنا من ذلک القول هو أنّنا إذ نقول : «إنّ الأماره حجّه» کخبر الواحد – مثلا – ، فإنّما نعنی أنّ تلک الأماره مجعوله حجّه مطلقا (2) ، أی إنّها فی نفسها حجّه مع قطع النظر عن کون الشخص – الذی قامت عنده تلک الأماره – متمکّنا من تحصیل العلم بالواقع أو غیر متمکّن منه ، فهی حجّه یجوز الرجوع إلیها لتحصیل الأحکام مطلقا ، حتی فی موطن یمکن فیه أن یحصل القطع بالحکم لمن قامت عنده الأماره – أی کان باب العلم بالنسبه إلیه مفتوحا -. فمثلا ، إذا قلنا بحجّیّه خبر الواحد فإنّا نقول : إنّه حجّه حتی فی زمان یسع المکلّف أن یرجع إلی المعصوم رأسا ، فیأخذ الحکم منه مشافهه علی سبیل الیقین ، فإنّه فی هذا الحال لو کان خبر الواحد حجّه یجوز للمکلّف أن یرجع إلیه ، ولا یجب علیه أن یرجع إلی المعصوم.
وعلی هذا ، فلا یکون موطن حجّیّه الأمارات خصوص مورد تعذّر حصول العلم ، أو امتناعه ، – أی لیس فی خصوص مورد انسداد باب العلم – بل الأعمّ من ذلک ، فیشمل حتی موطن التمکّن من تحصیل العلم وانفتاح بابه.
نعم ، مع حصول العلم بالواقع فعلا لا یبقی موضع للرجوع إلی الأماره ، بل لا معنی لحجّیّتها حینئذ ، لا سیّما مع مخالفتها للعلم ؛ لأنّ معنی ذلک انکشاف خطئها.
ومن هنا کان هذا الأمر موضع حیره الأصولیّین وبحثهم ؛ إذ للسائل – کما سیأتی – أن یسأل : کیف جاز أن تفرضوا صحّه الرجوع إلی الأمارات الظنّیّه مع انفتاح باب العلم بالأحکام ؛ إذ قد یوجب سلوکها تفویت الواقع عند خطئها؟! ولا یحسن من الشارع أن یأذن بتفویت الواقع مع التمکّن من تحصیله ، بل ذلک قبیح یستحیل فی حقّه.
[شماره صفحه واقعی : 386]
ص: 887
ولأجل هذا السؤال المحرّج سلک الأصولیّون عدّه طرق للجواب عنه ، وتصحیح جعل حجّیّه الأمارات. وسیأتی بیان هذه الطرق والصحیح منها فی المبحث (12) (1).
وغرضنا من ذکر هذا التنبیه هو أنّ هذا التصحیح شاهد علی ما أردنا الإشاره إلیه هنا ، من أنّ موطن حجّیّه الأمارات وموردها ما هو أعمّ من فرض التمکّن من تحصیل العلم وانفتاح بابه ومن فرض انسداد بابه.
ومن هنا نعرف وجه المناقشه فی استدلال بعضهم علی حجّیّه خبر الواحد ، بالخصوص بدلیل انسداد باب العلم ، کما صنع صاحب المعالم (2) ، فإنّه لمّا کان المقصود إثبات حجّیّه خبر الواحد فی نفسه – حتی مع فرض انفتاح باب العلم – لا یبقی معنی للاستدلال علی حجّیّته بدلیل الانسداد.
علی أنّ دلیل الانسداد إنّما یثبت به حجّیّه مطلق الظنّ من حیث هو ظنّ – کما سیأتی بیانه (3) – ، فلا یثبت به حجّیّه ظنّ خاصّ بما هو ظنّ خاصّ.
نعم ، استدلّ بعضهم (4) علی حجّیّه خبر الواحد بدلیل الانسداد الصغیر ، ولا یبعد صحّه ذلک ، ویعنون به انسداد باب العلم فی خصوص الأخبار التی بأیدینا التی نعلم علی الإجمال بأنّ بعضها موصل إلی الواقع ومحصّل له ، ولا یتمیّز الموصل إلی الواقع من غیره ، مع انحصار السنّه فی هذه الأخبار التی بأیدینا ؛ وحینئذ نلتجئ إلی الاکتفاء بما یفید الظنّ والاطمئنان من هذه الأخبار ، وهذا ما نعنیه بخبر الواحد.
والفرق بین دلیل الانسداد الکبیر والصغیر (5) أنّ الکبیر هو انسداد باب العلم فی جمیع
[شماره صفحه واقعی : 387]
ص: 888
الأحکام من جهه السنّه وغیرها ، والصغیر هو انسداد باب العلم [من جهه] السنّه مع انفتاح باب العلم فی الطرق الأخری ، والمفروض أنّه لیس لدینا إلاّ هذه الأخبار التی لا یفید أکثرها العلم ، وبعضها حجّه قطعا وموصل إلی الواقع.
تمرینات «48»
التمرین الأوّل :
1. ما هو موطن حجیّه الأمارات؟
2. بیّن وجه المناقشه فی استدلال صاحب المعالم علی حجیّه خبر الواحد بدلیل الانسداد.
3. بیّن استدلال الشیخ الأنصاری علی حجیّه خبر الواحد بدلیل الانسداد الصغیر.
4. ما الفرق بین دلیل الانسداد الکبیر والصغیر؟
التمرین الثانی :
1. ما هو رأی المحقّق النائینیّ فی الفرق بین الانسداد الکبیر والصغیر؟ وما هو رأی المحقّق العراقی فی ذلک؟
[شماره صفحه واقعی : 388]
ص: 889
9. الظنّ الخاصّ و الظنّ المطلق
تکرّر منّا التعبیر بالظنّ الخاصّ والظنّ المطلق ، وهو اصطلاح للأصولیّین المتأخّرین ، فینبغی بیان ما یعنون بهما ، فنقول :
1. یراد من الظنّ الخاصّ کلّ ظنّ قام دلیل قطعیّ علی حجّیّته واعتباره بخصوصه غیر دلیل الانسداد الکبیر.
وعلیه ، فیکون المراد منه الأماره التی هی حجّه مطلقا ، حتی مع انفتاح باب العلم ، ویسمّی أیضا «الطریق العلمیّ» ، نسبه إلی العلم باعتبار قیام العلم علی حجّیّته ، کما تقدّم (1).
2. یراد من الظنّ المطلق کلّ ظنّ قام دلیل الانسداد الکبیر علی حجّیّته واعتباره ، فیکون المراد منه الأماره التی هی حجّه فی خصوص حاله انسداد باب العلم والعلمیّ ، أی انسداد باب نفس العلم بالأحکام ، وباب الطرق العلمیّه المؤدّیه إلیها.
ونحن فی هذا المختصر لا نبحث إلاّ عن الظنون الخاصّه فقط ، أمّا الظنون المطلقه فلا نتعرّض لها ؛ لثبوت حجّیّه جمله من الأمارات المغنیه عندنا عن فرض انسداد باب العلم والعلمیّ ، فلا تصل النوبه إلی هذا الفرض حتی نبحث عن دلیل الانسداد لإثبات حجّیّه مطلق الظنّ.
ولکن بعد أن انتهینا إلی هنا ینبغی ألاّ یخلو هذا المختصر من الإشاره إلی مقدّمات دلیل الانسداد علی نحو الاختصار ؛ تنویرا لذهن الطالب ، فنقول :
10. مقدّمات دلیل الانسداد
إنّ الدلیل المعروف ب- «دلیل الانسداد» یتألّف من مقدّمات أربع ، إذا تمّت یترتّب علیها حکم العقل بلزوم العمل بما قام علیه الظنّ فی الأحکام ، أیّ ظنّ کان ، عدا الظنّ الثابت فیه – علی نحو القطع – عدم جواز العمل به کالقیاس مثلا.
[شماره صفحه واقعی : 389]
ص: 890
ونحن نذکر بالاختصار هذه المقدّمات :
1. المقدّمه الأولی : دعوی انسداد باب العلم والعلمیّ فی معظم أبواب الفقه فی عصورنا المتأخّره عن عصر أئمّتنا علیهم السلام. وقد علمت أنّ أساس المقدّمات کلّها هی هذه المقدّمه ، وهی دعوی قد ثبت عندنا عدم صحّتها ؛ لثبوت انفتاح باب الظنّ الخاصّ ، بل العلم فی معظم أبواب الفقه ، فانهار (1) هذا الدلیل من أساسه.
2. المقدّمه الثانیه : أنّه لا یجوز إهمال امتثال الأحکام الواقعیّه المعلومه إجمالا ، ولا یجوز طرحها فی مقام العمل. وإهمالها وطرحها یقع بفرضین : إمّا بأن نعتبر أنفسنا کالبهائم والأطفال لا تکلیف علینا ؛ وإمّا بأن نرجع إلی أصاله البراءه ، وأصاله عدم التکلیف فی کلّ موضع لا یعلم وجوبه وحرمته. وکلا الفرضین ضروریّ البطلان.
3. المقدّمه الثالثه : أنّه بعد فرض وجوب التعرّض للأحکام المعلومه إجمالا فإنّ الأمر لتحصیل فراغ الذمّه منها یدور بین حالات أربع ، لا خامسه لها :
أ : تقلید من یری انفتاح باب العلم.
ب : الأخذ بالاحتیاط فی کلّ مسأله.
ج : الرجوع إلی الأصل العملیّ الجاری فی کلّ مسأله ، من نحو البراءه ، والاحتیاط ، والتخییر والاستصحاب ، حسبما یقتضیه حال المسأله.
د : الرجوع إلی الظنّ فی کلّ مسأله فیها ظنّ بالحکم ، وفیما عداها یرجع إلی الأصول العملیّه.
ولا یصحّ الأخذ بالحالات الثلاث الأولی ، فتتعیّن الرابعه.
أمّا الأولی : – وهی تقلید الغیر فی انفتاح باب العلم – فلا یجوز ؛ لأنّ المفروض أنّ المکلّف یعتقد بالانسداد ، فکیف یصحّ له الرجوع إلی من یعتقد بخطئه وأنّه علی جهل؟!.
وأمّا الثانیه : – وهی الأخذ بالاحتیاط – فإنّه یلزم منه العسر والحرج الشدیدان ، بل یلزم اختلال النظام لو کلّف جمیع المکلّفین بذلک.
وأمّا الثالثه : – وهی الأخذ بالأصل الجاری – فلا یصحّ أیضا ؛ لوجود العلم الإجمالیّ
[شماره صفحه واقعی : 390]
ص: 891
بالتکالیف ، ولا یمکن ملاحظه کلّ مسأله علی حده ، غیر منضمّه إلی غیرها من المسائل الأخری المجهوله الحکم. والحاصل أنّ وجود العلم الإجمالیّ بوجود المحرّمات والواجبات فی جمیع المسائل المشکوکه الحکم یمنع من إجراء أصل البراءه ، والاستصحاب ، ولو فی بعضها.
4. المقدّمه الرابعه : أنّه – بعد أن أبطلنا الرجوع إلی الحالات الثلاث – ینحصر الأمر فی الرجوع إلی الحاله الرابعه فی المسائل التی یقوم فیها الظنّ ، وفیها یدور الأمر بین الرجوع إلی الطرف الراجح فی الظنّ ، وبین الرجوع إلی الطرف المرجوح – أی الموهوم -. ولا شکّ فی أنّ الأخذ بطرف المرجوح ترجیح للمرجوح علی الراجح ، وهو قبیح عقلا.
وعلیه ، فیتعیّن الأخذ بالظنّ ما لم یقطع بعدم جواز الأخذ به ، کالقیاس ، وهو المطلوب.
وفی فرض الظنّ المقطوع بعدم حجیّته یرجع إلی الأصول العملیّه ، کما یرجع إلیها فی المسائل المشکوکه التی لا یقوم فیها ظنّ أصلا.
ولا ضیر حینئذ بالرجوع إلی الأصول العملیّه ؛ لانحلال العلم الإجمالیّ بقیام الظنّ فی معظم المسائل الفقهیّه إلی علم تفصیلیّ بالأحکام التی قامت علیها الحجّه ، وشکّ بدویّ فی الموارد الأخری ، فتجری فیها الأصول.
هذه خلاصه «مقدّمات دلیل الانسداد» ، وفیها أبحاث دقیقه ، طویله الذیل ، لا حاجه لنا بها ، (1) ویکفی عنها ما ذکرناه بالاختصار.
تمرینات «49»
1. ما المراد من الظن الخاصّ والظنّ المطلق؟
2. ما هی مقدّمات دلیل الانسداد؟
[شماره صفحه واقعی : 391]
ص: 892
11. اشتراک الأحکام بین العالم و الجاهل
اشاره
قام إجماع الإمامیّه علی أنّ أحکام الله (تعالی) مشترکه بین العالم والجاهل بها ، أی إنّ حکم الله ثابت لموضوعه فی الواقع ، سواء علم به المکلّف أم لم یعلم ، فإنّه مکلّف به علی کلّ حال. فالصّلاه – مثلا – واجبه علی جمیع المکلّفین ، سواء علموا بوجوبها أم جهلوه ، فلا یکون العلم دخیلا فی ثبوت الحکم أصلا.
وغایه ما نقوله فی دخاله العلم فی التکلیف دخالته فی تنجّز الحکم التکلیفیّ ، بمعنی أنّه لا یتنجّز علی المکلّف علی وجه یستحقّ علی مخالفته العقاب إلاّ إذا علم به ، سواء کان العلم تفصیلیّا أو إجمالیّا (1) أو قامت لدیه حجّه معتبره علی الحکم تقوم مقام العلم.
فالعلم أو ما یقوم مقامه یکون – علی ما هو التحقیق – شرطا لتنجّز التکلیف ، لا علّه تامّه ؛ خلافا للشیخ الآخوند صاحب الکفایه قدس سره ؛ (2) فإذا لم یحصل العلم ولا ما یقوم مقامه بعد الفحص والیأس لا یتنجّز علیه التکلیف الواقعیّ ، یعنی لا یعاقب المکلّف لو وقع فی مخالفته عن جهل ، وإلاّ لکان العقاب علیه عقابا بلا بیان ، وهو قبیح عقلا ، وسیأتی إن شاء الله (تعالی) فی أصل البراءه شرح ذلک. (3)
وفی قبال هذا القول زعم من یری أنّ الأحکام إنّما تثبت لخصوص العالم بها ، أو من قامت عنده الحجّه ، فمن لم یعلم بالحکم ولم تقم لدیه الحجّه علیه لا حکم فی حقّه حقیقه وفی الواقع. (4)
[شماره صفحه واقعی : 392]
ص: 893
ومن هؤلاء من یذهب إلی تصویب المجتهد ؛ إذ یقول : «إنّ کلّ مجتهد مصیب» (1). وسیأتی بیانه فی محلّه إن شاء الله (تعالی) فی هذا الجزء (2).
وعن الشیخ الأنصاریّ رحمه الله (3) ، وعن غیره أیضا – کصاحب الفصول رحمه الله (4) – : أنّ أخبارنا متواتره معنی فی اشتراک الأحکام بین العالم والجاهل. وهو کذلک. والدلیل علی هذا الاشتراک – مع قطع النظر عن الإجماع وتواتر الأخبار – واضح ، وهو أن نقول :
1. إنّ الحکم لو لم یکن مشترکا لکان مختصّا بالعالم به ؛ إذ لا یجوز أن یکون مختصّا بالجاهل به ، وهو واضح.
2. وإذا ثبت أنّه مختصّ بالعالم به فإنّ معناه تعلیق الحکم علی العلم به.
3. ولکن تعلیق الحکم علی العلم به محال ؛ لأنّه یلزم منه الخلف.
4. إذن یتعیّن أن یکون مشترکا بین العالم والجاهل.
بیان لزوم الخلف أنّه لو کان الحکم معلّقا علی العلم به ، کوجوب الصلاه – مثلا – ، فإنّه یلزم – بل هو نفس معنی التعلیق – عدم الوجوب لطبیعیّ الصلاه ؛ إذ الوجوب یکون حسب الفرض للصلاه المعلومه الوجوب بما هی معلومه الوجوب ، بینما أنّ تعلّق العلم بوجوب الصلاه لا یمکن فرضه إلاّ إذا کان الوجوب متعلّقا بطبیعیّ الصلاه. فما فرضناه متعلّقا بطبیعیّ الصلاه لم یکن متعلّقا بطبیعیّها ، بل بخصوص المعلومه الوجوب. وهذا هو الخلف المحال.
وببیان آخر فی وجه استحاله تعلیق الحکم علی العلم به ، نقول :
إنّ تعلیق الحکم علی العلم به یستلزم المحال ، وهو استحاله العلم بالحکم ، والذی یستلزم المحال محال ، فیستحیل نفس الحکم. وذلک لأنّه قبل حصول العلم لا حکم
[شماره صفحه واقعی : 393]
ص: 894
– حسب الفرض – فإذا أراد أن یعلم ، یعلم بما ذا؟ فلا یعقل حصول العلم لدیه بغیر متعلّق مفروض الحصول ، وإذا استحال حصول العلم استحال حصول الحکم المعلّق علیه ؛ لاستحاله ثبوت الحکم بدون موضوعه. وهو واضح.
وعلی هذا ، فیستحیل تقیید الحکم بالعلم به. وإذا استحال ذلک ، تعیّن أن یکون الحکم مشترکا بین العالم والجاهل ، – أی [القول] بثبوته واقعا فی صورتی العلم والجهل – ، وإن کان الجاهل القاصر معذورا ، أی إنّه لا یعاقب علی المخالفه. وهذا شیء آخر غیر نفس عدم ثبوت الحکم فی حقّه.
ولکنّه قد یستشکل فی استکشاف اشتراک الأحکام من هذا الدلیل بما تقدّم منّا فی الجزء الأوّل (1) ، من أنّ الإطلاق والتقیید متلازمان فی مقام الإثبات ؛ لأنّهما من قبیل العدم والملکه ، فإذا استحال التقیید فی مورد استحال معه الإطلاق أیضا. فکیف – إذن – نستکشف اشتراک الأحکام من إطلاق أدلّتها لامتناع تقییدها بالعلم؟! ، والإطلاق کالتقیید محال بالنسبه إلی قید العلم فی أدلّه الأحکام.
وقد أصرّ شیخنا النائینیّ رحمه الله علی امتناع الإطلاق فی ذلک ، وقال – بما محصّله – : إنّه لا یمکن أن نحکم بالاشتراک من نفس أدلّه الأحکام ، بل لا بدّ لإثباته من دلیل آخر سمّاه «متمّم الجعل» ، علی أن یکون الاشتراک من باب «نتیجه الإطلاق» ، کاستفاده تقیید الأمر العبادیّ بقصد الامتثال من دلیل ثان متمّم للجعل ، علی أن یکون ذلک من باب «نتیجه التقیید» ، وکاستفاده تقیید وجوب الجهر ، والإخفات ، والقصر ، والإتمام بالعلم بالوجوب من دلیل آخر متمّم للجعل ، علی أن یکون ذلک أیضا من باب «نتیجه التقیید».
وقال – بما خلاصته – : «یمکن استفاده الإطلاق فی المقام من الأدلّه التی ادّعی الشیخ الأنصاریّ تواترها ، فتکون هی المتمّمه للجعل». (2)
أقول : ویمکن الجواب عن الإشکال المذکور – بما محصّله – : إنّ هذا الکلام صحیح لو کانت استفاده اشتراک الأحکام متوقّفه علی إثبات إطلاق أدلّتها بالنسبه إلی العالم بها ،
[شماره صفحه واقعی : 394]
ص: 895
غیر أنّ المطلوب الذی ینفعنا هو نفس عدم اختصاص الأحکام بالعالم علی نحو السالبه المحصّله ، فیکون التقابل بین اشتراک الأحکام واختصاصها بالعالم من قبیل تقابل السلب والإیجاب ، لا من باب تقابل العدم والملکه ؛ لأنّ المراد من الاشتراک نفس عدم الاختصاص بالعالم.
وهذا السلب یکفی فی استفادته من أدلّه الأحکام نفس إثبات امتناع الاختصاص ، ولا یحتاج إلی مئونه (1) زائده لإثبات الإطلاق ، أو إثبات نتیجه الإطلاق بمتمّم الجعل من إجماع أو أدلّه أخری ؛ لأنّه من نفس امتناع التقیید نعلم أنّ الحکم مشترک ، لا یختصّ بالعالم.
نعم ، یتمّ ذلک الإشکال لو کان امتناع التقیید لیس إلاّ من جهه بیانیّه ، وفی مرحله الإنشاء فی دلیل نفس الحکم ، وإن کان واقعه یمکن أن یکون مقیّدا ، أو مطلقا ، مع قطع النظر عن أدائه باللفظ ؛ فإنّه – حینئذ – لا یمکن بیانه بنفس دلیله الأوّل ، فنحتاج إلی استکشاف الواقع المراد من دلیل آخر ، نسمّیه «متمّم الجعل» : ولأجل ذلک نسمّیه ب- «المتمّم للجعل» ، فتحصل لنا نتیجه الإطلاق أو نتیجه التقیید ، من دون أن یحصل تقیید أو إطلاق المفروض أنّهما مستحیلان ، کما کان الحال فی تقیید الوجوب بقصد الامتثال فی الواجب التعبّدیّ.
أمّا لو کان نفس الحکم واقعا – مع قطع النظر عن أدائه بأیّه عباره کانت ، کما فیما نحن فیه – یستحیل تقییده ، سواء أدّی ذلک ببیان واحد ، أو ببیانین ، أو بألف بیان ؛ فإنّ واقعه لا محاله ینحصر فی حاله واحده ، وهو أن یکون فی نفسه شاملا لحالتی وجود القید المفروض وعدمه.
وعلیه ، فلا حاجه فی مثله إلی استکشاف الاشتراک من نفس إطلاق دلیله الأوّل ، ولا من دلیل ثان متمّم للجعل. ولا نمانع أن نسمّی ذلک «نتیجه الإطلاق» إذا حلا لکم هذا التعبیر.
ویبقی الکلام – حینئذ – فی وجه تقیید وجوب الجهر ، والإخفات ، والقصر ، والإتمام
[شماره صفحه واقعی : 395]
ص: 896
بالعلم ، مع فرض امتناعه ، حتی بمتمّم الجعل ، والمفروض أنّ هذا التقیید ثابت فی الشریعه ، فکیف تصحّحون ذلک؟! فنقول :
إنّه لمّا امتنع تقیید الحکم بالعلم فلا بدّ أن نلتمس توجیها لهذا الظاهر من الأدلّه ، وینحصر التوجیه فی أن نفرض أن یکون هذا التقیید من باب إعفاء الجاهل بالحکم فی هذین الموردین عن الإعاده ، والقضاء ، وإسقاطهما عنه ، اکتفاء بما وقع ، کإعفاء الناسی ، وإن کان الوجوب واقعا غیر مقیّد بالعلم. والإعاده والقضاء بید الشارع رفعهما ووضعهما.
ویشهد لهذا التوجیه أنّ بعض الروایات – فی البابین – عبّرت بسقوط الإعاده عنه ، کالروایه عن أبی جعفر علیه السلام فیمن صلّی فی السفر أربعا : «إن کان قرئت علیه آیه التقصیر (1) ، وفسّرت له فصلّی أربعا أعاد ، وإن لم یکن قرئت علیه ، ولم یعلمها فلا إعاده». (2)
تمرینات «50»
1. اذکر أقوال العلماء فی اشتراک الأحکام ، وعدمه.
2. ما الدلیل علی الاشتراک – بعد الإجماع وتواتر الأخبار -؟ واذکر الجواب عن الإشکال الذی قد یرد علیه.
3. ما هو مراد العلاّمه النائینی من دلیل متمّم الجعل؟
4. ما هو التوجیه فی تقیید وجوب الجهر والإخفات ، والقصر والإتمام بالعلم؟
[شماره صفحه واقعی : 396]
ص: 897
12. تصحیح جعل الأماره
بعد ما ثبت أنّ جعل الأماره یشمل فرض انفتاح باب العلم – مع ما ثبت من اشتراک الأحکام بین العالم والجاهل – تنشأ «شبهه عویصه» فی صحّه جعل الأماره قد أشرنا إلیها فیما سبق ، (1) وهی أنّه فی فرض التمکّن من تحصیل الواقع والوصول إلیه کیف جاز أن یأذن الشارع باتّباع الأماره الظنّیه ، وهی – حسب الفرض – تحتمل الخطأ المفوّت للواقع ، والإذن فی تفویته قبیح عقلا ؛ لأنّ الأماره لو کانت دالّه علی جواز الفعل – مثلا – وکان الواقع هو الوجوب أو الحرمه ، فإنّ الإذن باتّباع الأماره – فی هذا الفرض – یکون إذنا بترک الواجب ، أو فعل الحرام ، مع أنّ الفعل لا یزال باقیا علی وجوبه الواقعیّ ، أو حرمته الواقعیّه ، مع تمکّن المکلّف من الوصول إلی معرفه الواقع حسب الفرض ، ولا شکّ فی قبح ذلک من الحکیم؟!
وهذه الشبهه هی التی ألجأت بعض الأصولیّین إلی القول بأنّ الأماره مجعوله علی نحو «السببیّه» (2) ، إذ عجزوا عن تصحیح جعل الأماره علی نحو «الطریقیّه» التی هی الأصل فی الأماره علی ما سیأتی شرح ذلک قریبا. (3)
والحقّ معهم ؛ إذا نحن عجزنا عن تصحیح جعل الأماره علی نحو الطریقیّه ؛ لأنّ المفروض أنّ الأماره قد ثبتت حجّیّتها قطعا ، فلا بدّ أن یفرض – حینئذ – فی قیام الأماره ، أو فی اتّباعها مصلحه یتدارک بها ما یفوت من مصلحه الواقع علی تقدیر خطئها ، حتی لا یکون إذن الشارع بتفویت الواقع قبیحا ، ما دام أنّ تفویته له یکون لمصلحه أقوی وأجدی (4) أو مساویه لمصلحه الواقع ، فینشأ علی طبق مؤدّی الأماره حکم ظاهریّ بعنوان أنّه الواقع ، إمّا أن یکون مماثلا للواقع عند الإصابه ، أو مخالفا له عند الخطأ.
[شماره صفحه واقعی : 397]
ص: 898
ونحن – بحمد الله (تعالی) – نری أنّ الشبهه یمکن دفعها علی تقدیر الطریقیّه ، فلا حاجه إلی فرض السببیّه.
والوجه فی دفع الشبهه أنّه بعد أن فرضنا أنّ القطع قام علی أنّ الأماره الکذائیّه ، کخبر الواحد حجّه یجوز اتّباعها مع التمکّن من تحصیل العلم ، فلا بدّ أن یکون الإذن من الشارع – العالم بالحقائق الواقعیّه – لأمر علم به ، وغاب عنّا علمه. ولا یخرج هذا الأمر عن أحد شیئین ، لا ثالث لهما ، وکلّ منهما جائز عقلا ، لا مانع منه :
1. أن یکون قد علم بأنّ إصابه الأماره للواقع مساویه لإصابه العلوم التی تتّفق للمکلّفین ، أو أکثر منها ، بمعنی أنّ العلوم التی یتمکّن المکلّفون من تحصیلها یعلم الشارع بأنّ خطأها سیکون مساویا لخطأ الأماره المجعوله ، أو أکثر خطأ منها.
2. أن یکون قد علم بأنّ فی عدم جعل أمارات خاصّه لتحصیل الأحکام ، والاقتصار علی العلم ، تضییقا علی المکلّفین ومشقّه علیهم ، (1) لا سیّما بعد أن کانت تلک الأمارات قد اعتادوا سلوکها والأخذ بها فی شئونهم الخاصّه وأمورهم الدنیویّه ، وبناء العقلاء کلّهم کان علیها.
وهذا الاحتمال الثانی قریب إلی التصدیق جدّا ؛ فإنّه لا نشکّ فی أنّ تکلیف کلّ واحد من الناس بالرجوع إلی المعصوم أو الأخبار المتواتره فی تحصیل جمیع الأحکام أمر ، فیه ما لا یوصف من الضیق والمشقّه ، لا سیّما أنّ ذلک علی خلاف ما جرت علیه طریقتهم فی معرفه ما یتعلّق بشئونهم الدنیویّه.
وعلیه ، فمن القریب – جدّا – أنّ الشارع إنّما رخّص فی اتّباع الأمارات الخاصّه لغرض تسهیل الأخذ بأحکامه ، والوصول إلیها. ومصلحه التسهیل من المصالح النوعیّه المتقدّمه فی نظر الشارع علی المصالح الشخصیّه التی قد تفوت أحیانا علی بعض المکلّفین عند العمل بالأماره لو أخطأت. وهذا أمر معلوم من طریقه الشریعه الإسلامیّه التی بنیت فی تشریعها علی التیسیر والتسهیل. (2)
[شماره صفحه واقعی : 398]
ص: 899
وعلی التقدیرین والاحتمالین ؛ فإنّ الشارع فی إذنه باتّباع الأماره – طریقا إلی الوصول إلی الواقع من أحکامه – لا بدّ أن یفرض فیه أنّه قد تسامح فی التکالیف الواقعیّه عند خطأ الأماره – أی إنّ الأماره تکون معذّره للمکلّف ، فلا یستحقّ العقاب فی مخالفه الحکم ، کما لا یستحقّ ذلک عند المخالفه فی خطأ القطع – ، لا أنّه بقیام الأماره یحدث حکم آخر ثانویّ ، بل شأنها فی هذه الجهه شأن القطع ، بلا فرق.
ولذا ، إنّ الشارع – فی الموارد التی یرید فیها المحافظه علی تحصیل الواقع علی کلّ حال – أمر باتّباع الاحتیاط ، ولم یکتف بالظنون فیها ، وذلک کموارد الدماء ، والفروج.
13. الأماره طریق أو سبب؟
قد أشرنا فی البحث السابق إلی مذهبی السببیّه والطریقیّه فی الأماره ، وقد عقدنا هذا البحث لبیان هذا الخلاف ؛ فإنّ ذلک من الأمور التی وقعت أخیرا موضع البحث ، والردّ والبدل عند الأصولیّین ، فاختلفوا فی أنّ الأماره هل هی حجّه مجعوله علی نحو الطریقیّه ، أو أنّها حجّه مجعوله علی نحو السببیّه ، أی إنّها طریق أو سبب؟
والمقصود من کونها «طریقا» أنّها مجعوله لتکون موصله فقط إلی الواقع للکشف عنه ؛ فإن أصابته فإنّه یکون منجّزا بها وهی منجّزه له ، وإن أخطأته فإنّها حینئذ تکون صرف معذّره للمکلّف فی مخالفه الواقع.
والمقصود من کونها «سببا» أنّها تکون سببا لحدوث مصلحه فی مؤدّاها تقاوم تفویت مصلحه الأحکام الواقعیّه علی تقدیر الخطأ ، فینشئ الشارع حکما ظاهریّا علی طبق ما أدّت إلیه الأماره.
والحقّ أنها مأخوذه علی نحو «الطریقیّه». (1)
والسرّ فی ذلک واضح بعد ما تقدّم ؛ فإنّ القول بالسببیّه – کما قلنا – مترتّب علی القول بالطریقیّه ، یعنی أنّ منشأ قول من قال بالسببیّه هو العجز عن تصحیح جعل الطرق علی
[شماره صفحه واقعی : 399]
ص: 900
نحو الطریقیّه ، فیلتجئ إلی فرض السببیّه.
أمّا : إذا أمکن تصحیح الطریقیّه فلا یبقی دلیل علی السببیّه ، ویتعیّن کون الأماره طریقا محضا ؛ لأنّ الطریقیّه هی الأصل فیها.
ومعنی أنّ الطریقیّه هی الأصل أنّ طبع الأماره – لو خلّیت ونفسها – یقتضی أن تکون طریقا محضا إلی مؤدّاها ؛ لأنّ لسانها التعبیر عن الواقع ، والحکایه والکشف عنه ؛ علی أنّ العقلاء إنّما یعتبرونها ، ویستقرّ بناؤهم علیها ، لأجل کشفها عن الواقع ، ولا معنی لأن یفرض فی بناء العقلاء أنّه علی نحو السببیّه ، وبناء العقلاء هو الأساس الأوّل فی حجّیّه الأماره ، کما سیأتی. (1)
نعم ، إذا منع مانع عقلیّ من فرض الأماره طریقا من جهه الشبهه المتقدّمه أو نحوها ، فلا بدّ أن تخرج علی خلاف طبعها ، ونلتجئ إلی فرض السببیّه.
ولمّا کنّا دفعنا الشبهه فی جعلها علی نحو الطریقیّه فلا تصل النوبه إلی التماس دلیل علی سببیّتها ، أو طریقیّتها ؛ إذ لا موضع للتردید والاحتمال لنحتاج إلی الدلیل ، هذا.
وقد یلتمس الدلیل علی السببیّه من نفس دلیل حجّیّه الأماره ، بأن یقال : إنّ دلیل الحجّیّه لا شکّ أنّه یدلّ علی وجوب اتّباع الأماره. ولمّا کانت الأحکام تابعه لمصالح ومفاسد فی متعلّقاتها فلا بدّ أن تکون فی اتّباع الأماره مصلحه تقتضی وجوب اتّباعها ، وإن کانت علی خطأ فی الواقع. وهذه هی السببیّه بعینها.
أقول : والجواب عن ذلک واضح ؛ فإنّا نسلّم أنّ الأحکام تابعه للمصالح والمفاسد ، ولکن لا یلزم فی المقام أن تکون فی نفس اتّباع الأماره مصلحه ، بل یکفی أن ینبعث الوجوب من نفس مصلحه الواقع ، فیکون جعل وجوب اتّباع الأماره لغرض تحصیل مصلحه الواقع ، بل یجب أن یکون الحال فیها کذلک ؛ لأنّه لا شکّ أنّ الغرض من جعل الأماره هو الوصول بها إلی الواقع ، فالمحافظه علی الواقع والوصول إلیه هو الباعث علی جعل الأماره ؛ لغرض تنجیزه وتحصیله ، فیکون الأمر باتّباع الأماره طریقا إلی تحصیل الواقع.
ولذا نقول : إذا لم تصب الواقع لا تکلیف هناک ، ولا تدارک لما فات من الواقع ، وما هی
[شماره صفحه واقعی : 400]
ص: 901
إلاّ المعذّریّه فی مخالفته ، ورفع العقاب علی المخالفه ، لا أکثر ، وهذه المعذّریّه یقتضیها نفس الرخصه فی اتّباع الأماره التی قد تخطأ.
وعلی هذا ، فلیس لهذا الأمر الطریقیّ المتعلّق باتّباع الأماره – بما هو أمر طریقیّ – مخالفه ، ولا موافقه ؛ لأنّه فی الحقیقه لیس فیه جعل للداعی إلی الفعل الذی هو مؤدّی الأماره مستقلاّ عن الأمر الواقعیّ ؛ وإنّما هو جعل للأماره ؛ منجّزه للأمر الواقعیّ ، فهو موجب لدعوه الأمر الواقعیّ ، فلا بعث حقیقیّ فی مقابل البعث الواقعیّ ، فلا تکون له مصلحه إلاّ مصلحه الواقع ، ولا طاعه غیر طاعه الواقع. إذ لا بعث فیه إلاّ بعث الواقع.
14. المصلحه السلوکیّه
ذهب الشیخ الأنصاریّ قدس سره (1) إلی فرض المصلحه السلوکیّه فی الأمارات ؛ لتصحیح جعلها – کما تقدّمت الإشاره إلی ذلک فی مبحث الإجزاء (2) – ، وحمل علیه کلام الشیخ الطوسیّ فی «العدّه» (3) والعلاّمه فی «النهایه». (4)
وإنّما ذهب إلی هذا الفرض ؛ لأنّه لم یتمّ عنده تصحیح جعل الأماره علی نحو الطریقیّه المحضه ، ووجد أیضا أنّ القول بالسببیّه المحضه یستلزم القول بالتصویب المجمع علی بطلانه عند الإمامیّه ، (5) ، فسلک طریقا وسطا ، لا یذهب به إلی الطریقیّه المحضه ، ولا إلی السببیّه المحضه ، وهو أن یفرض المصلحه فی نفس سلوک الأماره وتطبیق العمل علی ما أدّت إلیه ، وبهذه المصلحه یتدارک ما یفوت من مصلحه الواقع عند الخطأ ؛ فتکون الأماره من ناحیه لها شأن الطریقیّه إلی الواقع ، ومن ناحیه أخری لها شأن السببیّه.
وغرضه من فرض المصلحه السلوکیّه أنّ نفس سلوک طریق الأماره والاستناد إلیها فی العمل بمؤدّاها فیه مصلحه تعود لشخص المکلّف ، یتدارک بها ما یفوته من مصلحه
[شماره صفحه واقعی : 401]
ص: 902
الواقع عند الخطأ ، من دون أن تحدث فی نفس المؤدّی – أی فی ذات الفعل والعمل – مصلحه ، حتی تستلزم إنشاء حکم آخر غیر الحکم الواقعیّ علی طبق ما أدّت إلیه الأماره الذی هو نوع من التصویب. (1)
قال رحمه الله فی رسائله فیما قال : «ومعنی وجوب العمل علی طبق الأماره وجوب ترتیب أحکام الواقع علی مؤدّاها ، من دون أن تحدث فی الفعل مصلحه علی تقدیر مخالفه الواقع». (2)
ولا ینبغی أن یتوهّم أنّ القول بالمصلحه السلوکیّه هو نفس ما ذکرناه فی أحد وجهی تصحیح الطریقیّه من فرض مصلحه التسهیل ؛ لأنّ الغرض من القول بالمصلحه السلوکیّه أن تحدث مصلحه فی سلوک الأماره ، تعود تلک المصلحه لشخص المکلّف لتدارک ما یفوته من مصلحه الواقع ، بینما أنّ غرضنا من مصلحه التسهیل مصلحه نوعیّه قد لا تعود لشخص من قامت عنده الأماره ، وتلک المصلحه النوعیّه مقدّمه فی مقام المزاحمه عند الشارع علی مصلحه الواقع التی قد تفوت علی شخص المکلّف.
وإذا اتّضح الفرق بینهما ، نقول : إنّ القول بالمصلحه السلوکیّه وفرضها یأتی بالمرتبه الثانیه للقول بمصلحه التسهیل ، یعنی : أنّه إذا لم تثبت عندنا مصلحه التسهیل ، أو قلنا بعدم تقدیم المصلحه النوعیّه علی المصلحه الشخصیّه ، ولم یصح عندنا أیضا احتمال مساواه خطأ الأمارات للعلوم فإنّا نلتجئ إلی ما سلکه الشیخ من المصلحه السلوکیّه ؛ إذا استطعنا تصحیحها ؛ فرارا من الوقوع فی التصویب الباطل.
[شماره صفحه واقعی : 402]
ص: 903
وأمّا نحن ، فإذ ثبت عندنا أنّ هناک مصلحه التسهیل فی جعل الأماره تفوق المصالح الشخصیّه ومقدّمه علیها عند الشارع أصبحنا فی غنی عن فرض المصلحه السلوکیّه ؛ علی أنّ المصلحه السلوکیّه إلی الآن لم نتحقّق مراد الشیخ منها ، ولم نجد الوجه لتصحیحها فی نفسها ؛ فإنّ فی عبارته شیئا من الاضطراب والإیهام ، وکفی أن تقع فی بعض النسخ زیاده کلمه «الأمر» علی قوله : «إلاّ أنّ العمل علی طبق تلک الأماره» ، فتصیر العباره هکذا «إلاّ أنّ الأمر بالعمل …» ، (1) فلا یدری مقصوده ، هل إنّه فی نفس العمل مصلحه سلوکیّه أو فی الأمر به؟. وقیل : «إنّ هذا التصحیح وقع من بعض تلامذته ؛ إذ أوکل إلیه أمر تصحیح العباره بعد مناقشات تلامیذه لها فی مجلس البحث». (2)
وعلی کلّ حال ، فالظاهر أنّ الفارق عنده بین السببیّه المحضه وبین المصلحه السلوکیّه – بمقتضی عبارته قبل التصحیح المذکور – أنّ المصلحه علی الأوّل تکون قائمه بذات الفعل ، وعلی الثانی قائمه بعنوان آخر هو السلوک ، فلا تزاحم مصلحته مصلحه الفعل.
ولکنّنا لم نتعقّل هذا الفارق المذکور ؛ لأنّه إنّما یتمّ إذا استطعنا أن نتعقّل لعنوان السلوک عنوانا مستقلاّ فی وجوده عن ذات الفعل ، لا ینطبق علیه ، ولا یتّحد معه ، حتی لا تزاحم مصلحته مصلحه الفعل ، وتصویر هذا فی غایه الإشکال. ولعلّ هذا هو السرّ فی مناقشه تلامیذه له ، فحمل بعضهم علی إضافه کلمه «الأمر» ، (3) لیجعل المصلحه تعود إلی نفس الأمر ، لا إلی متعلّقه ، فلا یقع التزاحم بین المصلحتین.
وجه الإشکال : أوّلا : أنّنا لا نفهم من عنوان السلوک والاستناد إلی الأماره إلاّ عنوانا للفعل الذی تؤدّی إلیه الأماره بأیّ معنی فسّرنا السلوک والاستناد ؛ إذ لیس للسلوک ومتابعه الأماره وجود آخر مستقلّ ، غیر نفس وجود الفعل المستند إلی الأماره.
[شماره صفحه واقعی : 403]
ص: 904
نعم ، إذا أردنا من الاستناد إلی الأماره معنی آخر ، وهو الفعل القصدیّ من النفس ، فإنّ له وجودا آخر غیر وجود الفعل ؛ لأنّه فعل قلبیّ جوانحیّ لا وجود له إلاّ وجودا قصدیّا. ولکنّه من البعید جدّا أن یکون ذلک غرض الشیخ من السلوک ؛ لأنّ هذا الفعل القلبیّ إنّما یصحّ أن یفرض وجوبه فی خصوص الأمور العبادیّه ؛ ولا معنی للالتزام بوجوب القصد فی جمیع أفعال الإنسان المستند فعلها إلی الأماره.
ثانیا : علی تقدیر تسلیم اختلافهما وجودا ؛ فإنّ قیام المصلحه بشیء إنّما یدعو إلی تعلّق الأمر به ، لا بشیء آخر غیره وجودا ، وإن کانا متلازمین فی الوجود. فمهما فرضنا من معنی للسلوک – وإن کان بمعنی الفعل القلبیّ – فإنّه إذا کانت المصلحه المقتضیه للأمر قائمه به ، فکیف یصحّ توجیه الأمر إلی ذات الفعل ، والمفروض أنّ له وجودا آخر لم تقم به المصلحه؟!
وأمّا : إضافه کلمه «الأمر» علی عباره الشیخ فهی بعیده جدّا عن مراده وعباراته الأخری.
تمرینات «51»
التمرین الأوّل :
1. ما هی الشبهه العویصه فی صحّه جعل الأماره؟ وما الجواب عنها؟
2. ما هو غرض الشارع فی الترخیص فی اتّباع الأمارات الخاصّه؟
3. ما هو معنی کون الأماره طریقا؟ وما هو معنی کونها سببا؟
4. هل الأماره حجّه علی نحو الطریقیّه ، أو أنّها حجّه علی نحو السببیّه؟ وعلی أیّ تقدیر ، فما الدلیل علیه؟
5. ما معنی قول المصنّف : «إنّ الطریقیّه هی الأصل»؟
6. اذکر ما یستدلّ به علی السببیّه ، واذکر الجواب عنه.
7. ما هو القول بالمصلحه السلوکیّه؟ وهل یکون مصحّحا لجعل الأماره؟
8. ما الفرق بین المصلحه السلوکیه ، ومصلحه التسهیل؟
التمرین الثانی :
1. ما هو معنی التصویب؟ وما الفرق بین التصویب الأشعری وبین التصویب المعتزلی؟ أیّهما کان تصویبا باطلا؟
[شماره صفحه واقعی : 404]
ص: 905
15. الحجّیّه أمر اعتباریّ أو انتزاعیّ؟
اشاره
من الأمور التی وقعت موضع البحث أیضا عند المتأخّرین مسأله أنّ الحجّیّه هل هی من الأمور الاعتباریّه المجعوله بنفسها وذاتها ، أو أنّها من الانتزاعیّات التی تنتزع من المجعولات؟
وهذا النزاع فی الحجّیّه فرع – فی الحقیقه – علی النزاع فی أصل الأحکام الوضعیّه. وهذا النزاع فی خصوص الحجّیّه – علی الأقلّ – لم أجد له ثمره عملیّه فی الأصول.
علی أنّ هذا النزاع فی أصله غیر محقّق ، ولا مفهوم له ؛ لأنّ لکلمتی : «الاعتباریّه» و «الانتزاعیّه» مصطلحات کثیره ، فی بعضها تکون الکلمتان متقابلتین ، وفی البعض الآخر متداخلتین. وتفصیل ذلک یخرجنا عن وضع الرساله. (1)
ونکتفی أن نقول – علی سبیل الاختصار – : إنّ الذی یظهر من أکثر کلمات المتنازعین فی المسأله أنّ المراد من الأمر الانتزاعیّ هو المجعول ثانیا وبالعرض فی مقابل المجعول أوّلا وبالذات ، بمعنی أنّ الإیجاد والجعل الاعتباریّ ینسب أوّلا وبالذات إلی شیء هو المجعول حقیقه ، ثمّ ینسب الجعل ثانیا وبالعرض إلی شیء آخر ، فالمجعول الأوّل هو الأمر الاعتباریّ ، والثانی هو الأمر الانتزاعیّ ، فیکون هناک جعل واحد ینسب إلی الأوّل بالذات ، وإلی الثانی بالعرض ، لا أنّه هناک جعلان واعتباران ینسب أحدهما إلی شیء ابتداء وینسب ثانیهما إلی آخر بتبع الأوّل ؛ فإنّ هذا لیس مراد المتنازعین قطعا.
فیقال فی الملکیّه مثلا – التی هی من جمله موارد النزاع – : إنّ المجعول أوّلا وبالذات هو إباحه تصرّف الشخص بالشیء المملوک ، فینتزع منها أنّه مالک – أی إنّ الجعل ینسب ثانیا وبالعرض إلی الملکیّه -. فالملکیّه یقال لها : «إنّها مجعوله بالعرض». ویقال لها : «إنّها منتزعه من الإباحه». هذا إذا قیل : «إنّ الملکیه انتزاعیّه» ، أمّا : إذا قیل : «إنّها اعتباریه» فتکون عندهم هی المجعوله أوّلا وبالذات للشارع أو العرف.
وعلی هذا ، فإذا أرید من الانتزاعیّ هذا المعنی فالحقّ أنّ الحجّیّه أمر اعتباریّ ، وکذلک
[شماره صفحه واقعی : 405]
ص: 906
الملکیّه ، والزوجیّه ، ونحوها من الأحکام الوضعیّه. وشأنها فی ذلک شأن الأحکام التکلیفیّه المسلّم فیها أنّها من الاعتباریّات الشرعیّه.
توضیح ذلک أنّ حقیقه الجعل هو الإیجاد. والإیجاد علی نحوین :
1. ما یراد منه إیجاد الشیء حقیقه فی الخارج. ویسمّی : «الجعل التکوینیّ» أو «الخلق».
2. ما یراد منه إیجاد الشیء اعتبارا وتنزیلا ، وذلک بتنزیله منزله الشیء الخارجیّ الواقعیّ من جهه ترتیب أثر من آثاره ، أو لخصوصیّه فیه من خصوصیّات الأمر الواقعیّ. ویسمّی «الجعل الاعتباریّ» ، أو «التنزیلیّ» ، ولیس له واقع إلاّ الاعتبار والتنزیل ، وإن کان نفس الاعتبار أمرا واقعیّا حقیقیّا ، لا اعتباریّا ، مثلا حینما یقال : «زید أسد» ، فإنّ الأسد مطابقه الحقیقیّ هو الحیوان المفترس المخصوص ، وهو – طبعا – مجعول ومخلوق بالجعل والخلق التکوینیّ. ولکنّ العرف یعتبرون الشجاع أسدا ، فزید أسد اعتبارا وتنزیلا من قبل العرف من جهه ما فیه من خصوصیّه الشجاعه کالأسد الحقیقیّ.
ومن هذا المثال یظهر کیف أنّ الأحکام التکلیفیّه اعتبارات شرعیّه ؛ لأنّ الآمر حینما یرید من شخص أن یفعل فعلا ما فبدلا عن أن یدفعه بیده – مثلا – لیحرّکه نحو العمل ینشئ الأمر بداعی جعل الداعی فی دخیله (1) نفس المأمور. فیکون هذا الإنشاء للآمر دفعا وتحریکا اعتباریّا ؛ تنزیلا له منزله الدفع الخارجیّ بالید مثلا. وکذلک النهی زجر اعتباریّ ؛ تنزیلا له منزله الردع والزجر الخارجیّ بالید مثلا.
وکذلک یقال فی حجّیّه الأماره المجعوله ؛ فإنّ القطع لمّا کان موصلا إلی الواقع حقیقه ، وطریقا بنفسه إلیه فالشارع یعتبر الأماره الظنّیّه طریقا إلی الواقع ؛ تنزیلا لها منزله القطع بالواقع بإلغاء احتمال الخلاف ، فتکون الأماره قطعا اعتباریّا ، وطریقا تنزیلیّا.
ومتی صحّ وأمکن أن تکون الحجّیّه هی المعتبره أوّلا وبالذات فما الذی یدعو إلی فرضها مجعوله ثانیا وبالعرض ، حتی تکون أمرا انتزاعیّا؟! إلاّ أن یریدوا من الانتزاعیّ
[شماره صفحه واقعی : 406]
ص: 907
معنی آخر ، وهو ما یستفاد من دلیل الحکم علی نحو الدلاله الالتزامیّه ، کأن تستفاد الحجّیّه للأماره من الأمر باتّباعها ، مثل ما لو قال الإمام علیه السلام : «صدّق العادل» الذی یدلّ بالدلاله الالتزامیّه علی حجّیّه خبر العادل ، واعتباره عند الشارع. وهذا المعنی للانتزاعیّ صحیح ، ولا مانع من أن یقال للحجّیّه : «إنّها أمر انتزاعیّ بهذا المعنی» ، ولکنّه بعید عن مرامهم ؛ لأنّ هذا المعنی من الانتزاعیّه لا یقابل الاعتباریّه بالمعنی الذی شرحناه.
وعلی کلّ حال ، فدعوی انتزاعیّه الحجّیّه – بأیّ معنی للانتزاعیّ – لا موجب لها ، لا سیّما إن لم یتّفق ورود أمر من الشارع باتّباع أماره من الأمارات فی جمیع ما بأیدینا من الآیات والروایات ، حتی یفرض أنّ الحجّیّه منتزعه من ذلک الأمر.
هذا کلّ ما أردنا بیانه من المقدّمات قبل الدخول فی المقصود. والآن نشرع فی البحث عن المقصود ، وهو تشخیص الأدلّه التی هی حجّه علی الأحکام الشرعیّه من قبل الشارع المقدّس. ونضعها فی أبواب.
تمرینات «52»
1. هل الحجیّه أمر اعتباریّ ، أو انتزاعیّ؟
2. ما الفرق بین الجعل التکوینیّ والجعل الاعتباریّ؟
[شماره صفحه واقعی : 407]
ص: 908
[شماره صفحه واقعی : 408]
ص: 909
الباب الأوّل : الکتاب العزیز
تمهید
إنّ القرآن الکریم هو المعجز الخالد لنبیّنا محمّد صلی الله علیه و آله ، والموجود بأیدی الناس بین الدفّتین هو الکتاب المنزل إلی الرسول بالحقّ ، لا ریب فیه ، هدی ، ورحمه (وَما کانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ یُفْتَری مِنْ دُونِ اللهِ). (1)
فهو – إذن – الحجّه القاطعه بیننا وبینه (تعالی) ، التی لا شکّ ولا ریب فیها ، وهو المصدر الأوّل لأحکام الشریعه الإسلامیّه بما تضمّنته آیاته من بیان ما شرعه الله (تعالی) للبشر. وأمّا ما سواه – من سنّه أو إجماع أو عقل – فإلیه ینتهی ، ومن منبعه یستقی.
ولکنّ الذی یجب أن یعلم أنّه قطعیّ الحجّه من ناحیه الصدور فقط ؛ لتواتره عند المسلمین جیلا بعد جیل. وأمّا من ناحیه الدلاله فلیس قطعیّا کلّه ؛ لأنّ فیه متشابها ، ومحکما.
ثمّ «المحکم» منه ما هو نصّ – أی قطعیّ الدلاله – ، ومنه ما هو ظاهر تتوقّف حجّیّته علی القول بحجّیّه الظواهر.
ومن الناس من لم یقل بحجّیّه ظاهره خاصّه ، (2) وإن کانت الظواهر حجّه.
ثمّ إنّ فیه ناسخا ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا ، ومطلقا ومقیّدا ، ومجملا ومبیّنا ، وکلّ ذلک لا یجعله قطعیّ الدلاله فی کثیر من آیاته. (3)
[شماره صفحه واقعی : 409]
ص: 910
ومن أجل ذلک وجب البحث عن هذه النواحی لتکمیل حجّیّته. وأهمّ ما یجب البحث عنه من ناحیه أصولیّه فی أمور ثلاثه :
1. فی حجّیّه ظواهره. وهذا بحث ینبغی أن یلحق بمباحث الظواهر ، الآتیه ، فلنرجئه (1) إلی هناک.
2. فی جواز تخصیصه وتقییده بحجّه أخری ، کخبر الواحد ونحوه. وقد تقدّم البحث عنه. (2)
3. فی جواز نسخه. والبحث عن ذلک لیس فیه کثیر فائده فی الفقه ، کما ستعرف ، ومع ذلک ینبغی ألاّ یخلو کتابنا من الإشاره إلیه بالاختصار ، فنقول :
نسخ الکتاب العزیز
حقیقه النسخ
النسخ اصطلاحا : رفع ما هو ثابت فی الشریعه من الأحکام ونحوها.
والمراد من «الثبوت فی الشریعه» الثبوت الواقعیّ الحقیقیّ فی مقابل الثبوت الظاهریّ بسبب الظهور اللفظیّ. ولذلک ، فرفع الحکم – الثابت بظهور العموم أو الإطلاق – بالدلیل المخصّص أو المقیّد لا یسمّی نسخا ، بل یقال له : «تخصیص» ، أو «تقیید» ، أو نحوهما ، باعتبار أنّ هذا الدلیل الثانی المقدّم علی ظهور الدلیل الأوّل یکون قرینه علیه ، وکاشفا عن المراد الواقعیّ للشارع ، فلا یکون رافعا للحکم إلاّ ظاهرا ، ولا رفع فیه للحکم حقیقه ، بخلاف النسخ.
ومن هنا یظهر الفرق الحقیقیّ بین النسخ وبین التخصیص والتقیید. وسیأتی مزید إیضاح لهذه الناحیه فی جواب الاعتراضات علی النسخ.
و [أمّا] قولنا : «من الأحکام ونحوها» ، فلبیان تعمیم النسخ للأحکام التکلیفیّه والوضعیّه ، ولکلّ أمر بید الشارع رفعه ووضعه بالجعل التشریعیّ بما هو شارع.
[شماره صفحه واقعی : 410]
ص: 911
وعلیه ، فلا یشمل النسخ الاصطلاحیّ المجعولات التکوینیّه التی بیده رفعها ووضعها بما هو خالق الکائنات.
والنسخ بهذا التعبیر یشمل نسخ تلاوه القرآن الکریم علی القول به ؛ باعتبار أنّ القرآن من المجعولات الشرعیّه التی ینشئها الشارع بما هو شارع ، وإن کان لنا کلام فی دعوی نسخ التلاوه من القرآن ، لیس هذا موضع تفصیله ، ولکن – بالاختصار – نقول : إنّ نسخ التلاوه – فی الحقیقه – یرجع إلی القول بالتحریف ؛ لعدم ثبوت نسخ التلاوه بالدلیل القطعیّ ، سواء کان نسخا لأصل التلاوه ، أو نسخا لها ولما تضمّنته من حکم معا (1) ، وإن کان فی القرآن الکریم ما یشعر بوقوع نسخ التلاوه ، کقوله (تعالی) : (وَإِذا بَدَّلْنا آیَهً مَکانَ آیَهٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما یُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) (2) ، وقوله (تعالی) : (ما نَنْسَخْ مِنْ آیَهٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَیْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (3). ولکن لیستا صریحتین بوقوع ذلک ، ولا ظاهرتین ، وإنّما أکثر ما تدلّ علیه الآیتان إمکان وقوعه.
رفعه ، وما لا ثبات له لا حاجه إلی رفعه. وعلی هذا ، فلا بدّ أن یؤوّل النسخ بمعنی رفع مثل الحکم ، لا رفع عینه ، أو بمعنی انتهاء أمد الحکم».
والجواب : أنّا نختار الشقّ الأوّل – وهو أنّ المرفوع ما هو ثابت – ، ولکن لیس معنی رفع الثابت رفعه بما هو علیه من حاله الثبوت وحین فرض ثبوته ، حتی یکون ذلک مستحیلا ، بل هو من باب إعدام الموجود ، ولیس إعدام الموجود بمستحیل.
والأحکام لمّا کانت مجعوله علی نحو القضایا الحقیقیّه فإنّ قوام الحکم یکون بفرض الموضوع موجودا ، ولا یتوقّف علی ثبوته خارجا تحقیقا ، فإذا أنشئ الحکم کذلک فهو ثابت فی عالم التشریع والاعتبارات بثبوت الموضوع فرضا ، ولا یرتفع إلاّ برفعه تشریعا.
وهذا هو معنی رفع الحکم الثابت ، وهو النسخ.
2. وقیل : «إنّ ما أثبته الله (تعالی) من الأحکام لا بدّ أن یکون لمصلحه أو مفسده فی متعلّق الحکم. وما له مصلحه فی ذاته لا ینقلب ، فیکون ذا مفسده ، وکذلک العکس ، وإلاّ لزم انقلاب الحسن قبیحا ، والقبیح حسنا ، وهو محال. وحینئذ یستحیل النسخ ؛ لأنّه یلزم منه هذا الانقلاب المستحیل ، أو عدم حکمه الناسخ ، أو جهله بوجه الحکمه. والأخیران مستحیلان بالنسبه إلی الشارع المقدّس».
والجواب واضح ، بعد معرفه ما ذکرناه فی الجزء الثانی فی المباحث العقلیّه من معانی الحسن والقبیح (1) ؛ فإنّ المستحیل انقلاب الحسن والقبیح الذاتیّین ، ولا معنی لقیاسهما علی المصالح والمفاسد التی تتبدّل وتتغیّر بحسب اختلاف الأحوال والأزمان. ولا یبعد أن یکون الشیء ذا مصلحه فی زمان ، ذا مفسده فی زمان آخر وإن کان لا یعلم ذلک إلاّ من قبل الشارع العالم المحیط بحقائق الأشیاء. وهذا غیر معنی الحسن والقبح اللذین نقول فیهما : إنّه یستحیل فیهما الانقلاب.
مضافا إلی أنّ الأشیاء تختلف فیها وجوه الحسن والقبح باختلاف الأحوال ممّا لم یکن (2) الحسن والقبح فیه ذاتیّین – کما تقدّم هناک – (3) ، وإذا کان الأمر کذلک فمن الجائز أن یکون
[شماره صفحه واقعی : 412]
ص: 913
[متعلّق] الحکم المنسوخ ذا مصلحه ، ثمّ زالت فی الزمان الثانی فنسخ ، أو کان ینطبق علیه عنوان حسن ثمّ زال عنه [ذلک] العنوان فی الزمان الثانی فنسخ. فهذه هی الحکمه فی النسخ.
3. وقیل : «إذا کان النسخ – کما قلتم – لأجل انتهاء أمد المصلحه فینتهی أمد الحکم بانتهائها ، فإنّه – والحال هذه – إمّا أن یکون الشارع الناسخ قد علم بانتهاء أمد المصلحه من أوّل الأمر ، وإمّا أن یکون جاهلا به. لا مجال للثانی ؛ لأنّ ذلک مستحیل فی حقّه (تعالی) ، وهو البداء الباطل المستحیل ، فیتعیّن الأوّل. وعلیه ، فیکون الحکم فی الواقع موقّتا وإن أنشأه الناسخ مطلقا فی الظاهر ، ویکون الدلیل علی النسخ فی الحقیقه مبیّنا وکاشفا عن مراد الناسخ. وهذا هو معنی التخصیص ، غایه الأمر یکون تخصیصا بحسب الأوقات لا الأحوال ، فلا یکون فرق بین النسخ والتخصیص إلاّ بالتسمیه.»
والجواب : نحن نسلّم أنّ الحکم المنسوخ ینتهی أمده فی الواقع ، والله (تعالی) عالم بانتهائه ، ولکن لیس معنی ذلک أنّه موقّت – أی مقیّد إنشاء بالوقت – بل هو قد أنشئ علی طبق المصلحه مطلقا علی نحو القضایا الحقیقیّه ، فهو ثابت ما دامت المصلحه ، کسائر الأحکام المنشأه علی طبق مصالحها ، فلو قدّر للمصلحه أن تستمرّ لبقی الحکم مستمرّا ، غیر أنّ الشارع لمّا علم بانتهاء أمد المصلحه ، رفع الحکم ونسخه وهذا نظیر أن یخلق الله (تعالی) الشیء ، ثمّ یرفعه بإعدامه ، ولیس معنی ذلک أن یخلقه موقّتا علی وجه یکون التوقیت قیدا للخلق والمخلوق بما هو مخلوق ، وإن علم به من الأوّل أنّ أمده ینتهی.
ومن هنا یظهر الفرق – جلیّا – بین النسخ والتخصیص ؛ فإنّه فی «التخصیص» یکون الحکم من أوّل الأمر أنشئ مقیّدا ، ومخصّصا ، ولکنّ اللفظ کان عامّا بحسب الظاهر ، فیأتی الدلیل المخصّص ، فیکون کاشفا عن المراد ، لا أنّه مزیل ورافع لما هو ثابت فی الواقع.
وأمّا : فی «النسخ» فإنّه لمّا أنشئ الحکم مطلقا فمقتضاه أن یدوم لو لم یرفعه النسخ ، فالنسخ یکون محوا لما هو ثابت (یَمْحُوا اللهُ ما یَشاءُ وَیُثْبِتُ …) (1) ، لا أنّ الدوام والاستمرار مدلول لظاهر الدلیل بحسب إطلاقه وعمومه ، والمنشأ فی الواقع الحکم الموقّت ، ثمّ یأتی
[شماره صفحه واقعی : 413]
ص: 914
الدلیل الناسخ ، فیکشف عن المراد من الدلیل الأوّل ویفسّره ، بل الدوام من اقتضاء نفس ثبوت الحکم من دون أن یکون لفظ دلیل الحکم دالاّ علیه بعموم أو إطلاق. یعنی : أنّ الحکم المنشأ – لو خلّی وطبعه مع قطع النظر عن دلاله دلیله – لدام واستمرّ ما لم یأت ما یزیله ویرفعه ، کسائر الموجودات التی تقتضی بطبیعتها الاستمرار والدوام.
4. وقیل : «إنّ کلام الله (تعالی) قدیم ، والقدیم لا یتصوّر رفعه».
والجواب : – بعد تسلیم هذا الفرض وهو قدم کلام الله – (1) : أنّ هذا یختصّ بنسخ التلاوه ، فلا یکون دلیلا علی بطلان أصل النسخ. مع أنّه قد تقدّم من نصّ القرآن الکریم ما یدلّ علی إمکان نسخ التلاوه ، وإن لم یکن صریحا فی وقوعه ، کقوله (تعالی) : (وَإِذا بَدَّلْنا آیَهً مَکانَ آیَهٍ …) (2) ، فهو إمّا أن یدلّ علی أنّ کلامه (تعالی) غیر قدیم ، أو أنّ القدیم یمکن رفعه. مضافا إلی أنّه لیس معنی نسخ التلاوه رفع أصل الکلام ، بل رفع تبلیغه ، وقطع علاقه المکلّفین بتلاوته.
وقوع نسخ القرآن ، و أصاله عدم النسخ
هذا هو الأمر الذی یهمّنا إثباته من ناحیه أصولیّه. ولا شکّ فی أنّه قد أجمع علماء الأمّه الإسلامیّه علی أنّه لا یصحّ الحکم بنسخ آیه من القرآن إلاّ بدلیل قطعیّ ، سواء کان بقرآن أیضا ، أو بسنّه ، أو بإجماع (3) ، کما أنّه ممّا أجمع علیه العلماء أیضا أنّ فی القرآن الکریم ناسخا ومنسوخا. وکلّ هذا قطعیّ لا شکّ فیه.
ولکنّ الذی هو موضع البحث والنظر تشخیص موارد الناسخ والمنسوخ فی القرآن. وإذا لم یحصل القطع بالنسخ بطل موضع الاستدلال علیه بالأدلّه الظنّیّه ، للإجماع المتقدّم.
[شماره صفحه واقعی : 414]
ص: 915
وأمّا : ما ثبت فیه النسخ منه علی سبیل الجزم فهو موارد قلیله جدّا ، لا تهمّنا کثیرا من ناحیه فقهیّه استدلالیّه ؛ لمکان القطع فیها.
وعلی هذا ، فالقاعده الأصولیّه التی ننتفع بها ونستخلصها هنا هی أنّ الناسخ إن کان قطعیّا أخذنا به واتّبعناه ، وإن کان ظنّیّا فلا حجّه فیه ، ولا یصحّ الأخذ به ؛ لما تقدّم من الإجماع علی عدم جواز الحکم بالنسخ إلاّ بدلیل قطعیّ.
ولذا أجمع الفقهاء من جمیع طوائف المسلمین علی أنّ «الأصل عدم النسخ» عند الشکّ فی النسخ ، وإجماعهم هذا لیس من جهه ذهابهم إلی حجّیّه الاستصحاب ، کما ربما یتوهّمه بعضهم ، (1) بل حتی من لا یذهب إلی حجّیّه الاستصحاب یقول بأصاله عدم النسخ ، وما ذلک إلاّ من جهه هذا الإجماع علی اشتراط العلم فی ثبوت النسخ.
تمرینات «53»
1. ما هی حقیقه النسخ؟
2. ما الفرق بین النسخ وبین التخصیص والتقیید؟
3. اذکر الشبهات فی إمکان أصل النسخ ، واذکر الجواب عنها؟
4. اذکر الشبهات فی إمکان نسخ القرآن ، واذکر الجواب عنها؟
5. ما المراد من أصاله عدم النسخ؟
[شماره صفحه واقعی : 415]
ص: 916
[شماره صفحه واقعی : 416]
ص: 917
الباب الثانی : السنّه
تمهید
السنّه (1) فی اصطلاح الفقهاء : «قول النبیّ أو فعله أو تقریره» (2).
ومنشأ هذا الاصطلاح أمر النبیّ صلی الله علیه و آله باتّباع سنّته ، (3) فغلبت کلمه «السنّه» حینما تطلق – مجرّده عن نسبتها إلی أحد – علی خصوص ما یتضمّن بیان حکم من الأحکام من النبیّ صلی الله علیه و آله ، سواء کان ذلک بقول أو فعل أو تقریر ، علی ما سیأتی من ذکر مدی ما یدلّ الفعل والتقریر علی بیان الأحکام. (4)
أمّا : فقهاء الإمامیّه بالخصوص فلمّا ثبت لدیهم أنّ المعصوم من آل البیت علیهم السلام یجری قوله مجری قول النبیّ صلی الله علیه و آله ، من کونه حجّه علی العباد واجب الاتّباع ، فقد توسّعوا فی اصطلاح السنّه إلی ما یشمل قول کلّ واحد من المعصومین أو فعله أو تقریره ، فکانت السنّه باصطلاحهم : «قول المعصوم أو فعله أو تقریره». (5)
والسرّ فی ذلک أنّ الأئمّه من آل البیت علیهم السلام لیسوا هم من قبیل الرواه عن النبیّ صلی الله علیه و آله والمحدّثین عنه لیکون قولهم حجّه من جهه أنّهم ثقاه فی الروایه ، بل لأنّهم هم المنصوبون
[شماره صفحه واقعی : 417]
ص: 918
من الله (تعالی) علی لسان النبیّ صلی الله علیه و آله لتبلیغ الأحکام الواقعیّه ، (1) فلا یحکون إلاّ عن الأحکام الواقعیّه عند الله (تعالی) کما هی ، وذلک من طریق الإلهام ، کالنبیّ صلی الله علیه و آله من طریق الوحی ، أو من طریق التلقّی من المعصوم قبله ، کما قال مولانا أمیر المؤمنین علیه السلام : «علّمنی رسول الله صلی الله علیه و آله ألف باب من العلم ینفتح لی من کلّ باب ألف باب». (2)
وعلیه ، فلیس بیانهم للأحکام من نوع روایه السنّه وحکایتها ، ولا من نوع الاجتهاد فی الرأی والاستنباط من مصادر التشریع ، بل هم أنفسهم مصدر للتشریع ، فقولهم سنّه ، لا حکایه السنّه.
وأمّا : ما یجیء علی لسانهم أحیانا من روایات وأحادیث عن نفس النبیّ صلی الله علیه و آله فهی إمّا لأجل نقل النصّ عنه ، کما یتّفق فی نقلهم لجوامع کلمه ، وإمّا لأجل إقامه الحجّه علی الغیر ، وإمّا لغیر ذلک من الدواعی.
وأمّا : إثبات إمامتهم وأنّ قولهم یجری مجری قول الرسول صلی الله علیه و آله فهو بحث یتکفّل به علم الکلام. (3)
وإذا ثبت أنّ السنّه – بما لها من المعنی الواسع الذی عندنا – هی مصدر من مصادر التشریع الإسلامیّ ، فإن حصل علیها الإنسان بنفسه بالسماع من نفس المعصوم ومشاهدته فقد أخذ الحکم الواقعیّ من مصدره الأصلیّ علی سبیل الجزم والیقین من ناحیه السند ، کالأخذ من القرآن الکریم ثقل الله الأکبر ، والأئمّه من آل البیت علیهم السلام ثقله الأصغر. (4)
[شماره صفحه واقعی : 418]
ص: 919
أمّا : إذا لم یحصل ذلک لطالب الحکم الواقعیّ – کما فی العهود المتأخّره عن عصرهم – فإنّه لا بدّ له فی أخذ الأحکام من طریق أن یرجع – بعد القرآن الکریم – إلی الأحادیث التی تنقل السنّه ، إمّا من طریق التواتر ، أو من طریق أخبار الآحاد علی الخلاف الذی سیأتی فی مدی حجّیّه أخبار الآحاد. (1)
وعلی هذا ، فالأحادیث لیست هی السنّه ، بل هی الناقله لها ، والحاکیه عنها ، ولکن قد تسمّی بالسنّه ، توسّعا من أجل کونها مثبته لها.
ومن أجل هذا یلزمنا البحث عن الأخبار فی باب السنّه ؛ لأنّه یتعلّق ذلک بإثباتها.
ونعقد الفصل فی مباحث أربعه :
1. دلاله فعل المعصوم
لا شکّ فی أنّ فعل المعصوم – بحکم کونه معصوما – یدلّ علی إباحه الفعل علی الأقلّ ، کما أنّ ترکه لفعل یدلّ علی عدم وجوبه علی الأقلّ. ولا شکّ فی أنّ هذه الدلاله بهذا الحدّ أمر قطعیّ لیس موضعا للشبهه بعد ثبوت عصمته.
ثمّ نقول بعد هذا : إنّه قد یکون لفعل المعصوم من الدلاله ما هو أوسع من ذلک ، وذلک فیما إذا صدر منه الفعل محفوفا بالقرینه ، کأن یحرز أنّه فی مقام بیان حکم من الأحکام ، أو عباده من العبادات ، کالوضوء ، والصّلاه ، ونحوها ؛ فإنّه حینئذ یکون لفعله ظهور فی وجه الفعل من کونه واجبا ، أو مستحبّا ، أو غیر ذلک ، حسبما تقتضیه القرینه.
ولا شبهه فی أنّ هذا الظهور حجّه ، کظواهر الألفاظ بمناط واحد ، وکم استدلّ الفقهاء علی حکم أفعال الوضوء ، والصلاه ، والحجّ ، وغیرها ، وکیفیّاتها بحکایه فعل النبیّ صلی الله علیه و آله ، أو الإمام فی هذه الأمور.
کلّ هذا لا کلام ولا خلاف لأحد فیه. وإنّما وقع الکلام للقوم فی موضعین :
[شماره صفحه واقعی : 419]
ص: 920
1 – فی دلاله فعل المعصوم (1) ، المجرّد عن القرائن علی أکثر من إباحه الفعل. فقد قال بعضهم : «إنّه یدلّ بمجرّده علی وجوب الفعل بالنسبه إلینا» (2). وقیل : «یدلّ علی استحبابه» (3). وقیل : «لا دلاله له علی شیء منهما ، أی إنّه لا یدلّ علی أکثر من إباحه الفعل فی حقّنا» (4).
والحقّ هو الأخیر ؛ لعدم ما یصلح أن یجعل له مثل هذه الدلاله.
وقد یظنّ ظانّ أنّ قوله (تعالی) فی سوره الأحزاب (لَقَدْ کانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللهِ أُسْوَهٌ حَسَنَهٌ لِمَنْ کانَ یَرْجُوا اللهَ وَالْیَوْمَ الْآخِرَ) (5) یدلّ علی وجوب التأسّی والاقتداء برسول الله صلی الله علیه و آله فی أفعاله. ووجوب الاقتداء بفعله یلزم منه وجوب کلّ فعل یفعله فی حقّنا وإن کان بالنسبه إلیه لم یکن واجبا ، إلاّ ما دلّ الدلیل الخاصّ علی عدم وجوبه فی حقّنا (6).
وقیل : «إنّه إن لم تدلّ الآیه علی وجوب الاقتداء فعلی الأقلّ تدلّ علی حسن الاقتداء ، به واستحبابه» (7).
وقد أجاب العلاّمه الحلّیّ قدس سره عن هذا الوهم ، فأحسن – کما نقل عنه – ، إذ قال : «إنّ الأسوه : عباره عن الإتیان بفعل الغیر ؛ لأنّه فعله علی الوجه الذی فعله ، فإن کان واجبا تعبّدنا بإیقاعه واجبا ، وإن کان مندوبا تعبّدنا بإیقاعه مندوبا ، وإن کان مباحا تعبّدنا
[شماره صفحه واقعی : 420]
ص: 921
باعتقاد إباحته». (1)
وغرضه قدس سره من التعبّد باعتقاد إباحته فیما إذا کان مباحا ، لیس مجرّد الاعتقاد ، حتی یرد علیه – کما فی الفصول (2) – بأنّ ذلک أسوه فی الاعتقاد لا الفعل ، بل یرید – کما هو الظاهر من صدر کلامه – أنّ معنی الأسوه فی المباح هو أن نتخیّر فی الفعل والترک – أی لا نلتزم بالفعل ولا بالترک – ، إذ الأسوه فی کلّ شیء بحسب ما له من الحکم ، فلا تتحقّق الأسوه فی المباح بالنسبه إلی الإتیان بفعل الغیر إلاّ بالاعتقاد بالإباحه.
ثمّ نزید علی ما ذکره العلاّمه ، فنقول : إنّ الآیه الکریمه لا دلاله لها علی أکثر من رجحان الأسوه وحسنها ، فلا نسلّم دلالتها علی وجوب التأسّی ؛ مضافا إلی أنّ الآیه نزلت فی واقعه الأحزاب ، فهی وارده مورد الحثّ علی التأسّی به فی الصبر علی القتال ، وتحمّل مصائب الجهاد فی سبیل الله ، فلا عموم لها بلزوم التأسّی ، أو حسنه فی کلّ فعل ، حتی الأفعال العادیّه. ولیس معنی هذا أنّنا نقول بأنّ المورد یقیّد المطلق أو یخصّص العامّ ، بل إنّما نقول : إنّه یکون عقبه فی إتمام مقدّمات الحکمه للتمسّک بالإطلاق ، فهو یضرّ بالإطلاق من دون أن یکون له ظهور فی التقیید ، کما نبّهنا علی ذلک فی أکثر من مناسبه.
والخلاصه أنّ دعوی دلاله هذه الآیه الکریمه علی وجوب فعل ما یفعله النبیّ صلی الله علیه و آله مطلقا ، أو استحبابه مطلقا ، بالنسبه إلینا بعیده کلّ البعد عن التحقیق.
وکذلک دعوی دلاله الآیات الآمره بإطاعه الرسول (3)کقوله (تعالی) : (وَما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ.) الحشر (59) الآیه : 7. وقوله (تعالی) : (إِنْ کُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِی) آل عمران (3) الآیه : 31.(4) أو باتّباعه (4) علی وجوب کلّ ما یفعله فی حقّنا ، (5) فإنّها أوهن من أن نذکرها لردّها. (6)
2 – فی حجّیّه فعل المعصوم بالنسبه إلینا ؛ فإنّه قد وقع کلام للأصولیّین فی أنّ فعله إذا
[شماره صفحه واقعی : 421]
ص: 922
ظهر وجهه أنّه علی نحو الإباحه ، أو الوجوب ، أو الاستحباب – مثلا – هل هو حجّه بالنسبه إلینا؟ أی إنّه هل یدلّ علی اشتراکنا معه وتعدّیه إلینا ، فیکون مباحا لنا ، کما کان مباحا له ، أو واجبا علینا ، کما کان واجبا علیه … وهکذا؟
ومنشأ الخلاف أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله اختصّ بأحکام لا تتعدّی إلی غیره ، ولا یشترک [فیها] معه باقی المسلمین ، مثل : وجوب التهجّد فی اللیل ، وجواز العقد علی أکثر من أربع زوجات.
وکذلک له من الأحکام ما یختصّ بمنصب الولایه العامّه ، فلا تکون لغیر النبیّ صلی الله علیه و آله أو الإمام باعتبار أنّه أولی بالمؤمنین من أنفسهم. (1)
فإن علم أنّ الفعل الذی وقع من المعصوم من مختصّاته فلا شکّ فی أنّه لا مجال لتوهّم تعدّیه إلی غیره ، وإن علم عدم اختصاصه به بأیّ نحو من أنحاء الاختصاص (2) ، فلا شکّ فی أنّه یعمّ جمیع المسلمین ، فیکون فعله حجّه علینا.
هذا کلّه لیس موضع الکلام ، وإنّما موضع الشبهه فی الفعل الذی لم یظهر حاله فی کونه من مختصّاته ، أو لیس من مختصّاته ، ولا قرینه تعیّن أحدهما ، فهل هذا بمجرّده کاف للحکم بأنّه من مختصّاته ، أو للحکم بعمومه للجمیع ، أو أنّه غیر کاف ، فلا ظهور له أصلا فی کلّ من النحوین؟ وجوه ، بل أقوال. (3)
والأقرب هو الوجه الثانی. (4)
والوجه فی ذلک أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله بشر مثلنا ، له ما لنا ، وعلیه ما علینا ، وهو مکلّف من الله (تعالی) بما کلّف به الناس ، إلاّ ما قام الدلیل الخاصّ علی اختصاصه ببعض الأحکام ، إمّا من جهه شخصه بذاته ، وإمّا من جهه منصب الولایه ، فما لم یخرجه الدلیل فهو کسائر الناس فی التکلیف ؛ هذا مقتضی عموم أدلّه اشتراکه معنا فی التکلیف (5) ؛ فإذا صدر منه فعل
[شماره صفحه واقعی : 422]
ص: 923
ولم یعلم اختصاصه به فالظاهر فی فعله أنّ حکمه فیه حکم سائر الناس ؛ فیکون فعله حجّه علینا ، وحجّه لنا ، لا سیّما مع ما دلّ علی عموم حسن التأسّی به. (1)
ولا نقول ذلک من جهه قاعده الحمل علی الأعمّ الأغلب ، فإنّا لا نری حجّیّه مثل هذه القاعده فی کلّ مجالاتها. وإنّما ذلک من باب التمسّک بالعامّ فی الدوران فی التخصیص بین الأقلّ والأکثر.
2. دلاله تقریر المعصوم
المقصود من تقریر المعصوم أن یفعل شخص بمشهد المعصوم وحضوره فعلا ، فیسکت المعصوم عنه ، مع توجّهه إلیه ، وعلمه بفعله ، وکان المعصوم بحاله یسعه تنبیه الفاعل لو کان مخطئا. والسعه تکون من جهه عدم ضیق الوقت عن البیان ، ومن جهه عدم المانع منه ، کالخوف ، والتقیّه ، والیأس من تأثیر الإرشاد ، والتنبیه ، ونحو ذلک ؛ فإنّ سکوت المعصوم عن ردع الفاعل ، أو عن بیان شیء حول الموضوع لتصحیحه یسمّی تقریرا للفعل ، أو إقرارا علیه ، أو إمضاء له ، ما شئت فعبّر.
وهذا التقریر – إذا تحقّق بشروطه المتقدّمه – فلا شکّ فی أنّه یکون ظاهرا فی کون الفعل جائزا فیما إذا کان محتمل الحرمه ، کما أنّه یکون ظاهرا فی کون الفعل مشروعا صحیحا فیما إذا کان عباده أو معامله ؛ لأنّه لو کان فی الواقع محرّما أو کان فیه خلل لکان علی المعصوم نهیه عنه وردعه إذا کان الفاعل عالما عارفا بما یفعل ، وذلک من باب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ، ولکان علیه بیان الحکم ووجه الفعل ؛ إذا کان الفاعل جاهلا بالحکم ، وذلک من باب وجوب تعلیم الجاهل.
ویلحق بتقریر الفعل تقریر بیان الحکم ، کما لو بیّن شخص بمحضر المعصوم حکما ، أو کیفیّه عباده ، أو معامله ، وکان بوسع المعصوم البیان فإنّ سکوت الإمام یکون ظاهرا فی کونه إقرارا علی قوله ، وتصحیحا وإمضاء له.
وهذا کلّه واضح ، لیس فیه موضع للخلاف.
[شماره صفحه واقعی : 423]
ص: 924
تمرینات «54»
1. ما هو معنی السنّه فی اصطلاح فقهاء العامّه؟ وما هو منشأ هذا الاصطلاح؟
2. ما هو معنی السنّه فی اصطلاح فقهاء الإمامیّه؟ وما هو منشأ هذا الاصطلاح؟
3. ما الفرق بین الحدیث والسنّه؟
4. اذکر الأقوال فی دلاله فعل المعصوم المجرّد عن القرائن علی أکثر من إباحه الفعل. واذکر الحقّ منها.
5. ما هو دلیل القائلین بدلاله فعل المعصوم علی وجوب الفعل بالنسبه إلینا؟ وما هو جواب العلاّمه الحلّی والمصنّف عنه؟
6. اذکر الأقوال فی حجّیّه فعل المعصوم بالنسبه إلینا. واذکر الراجح منها ، والوجه فی رجحانه.
7. ما هو المقصود من تقریر المعصوم؟
8. هل تقریر المعصوم حجّه أو لا؟
9. ما الفرق بین تقریر الفعل ، وتقریر بیان الحکم؟
[شماره صفحه واقعی : 424]
ص: 925
3. الخبر المتواتر
إنّ الخبر علی قسمین رئیسین : خبر متواتر ، وخبر واحد.
و «المتواتر» : ما أفاد سکون النفس سکونا یزول معه الشکّ ، ویحصل الجزم القاطع من أجل إخبار جماعه یمتنع تواطؤهم علی الکذب. ویقابله «خبر الواحد» فی اصطلاح الأصولیّین ، وإن کان المخبر أکثر من واحد ، ولکن لم یبلغ المخبرون حدّ التواتر ، وقد شرحنا حقیقه التواتر فی کتاب المنطق ، فراجع (1).
والذی ینبغی ذکره هنا أنّ الخبر قد یکون له وسائط کثیره فی النقل ، کالأخبار التی تصلنا عن الحوادث القدیمه ؛ فإنّه یجب – لیکون الخبر متواترا موجبا للعلم – أن تتحقّق شروط التواتر فی کلّ طبقه طبقه من وسائط الخبر ، وإلاّ فلا یکون الخبر متواترا فی الوسائط المتأخّره ؛ لأنّ النتیجه تتبع أخسّ المقدّمات.
والسرّ فی ذلک واضح ؛ لأنّ الخبر ذا الوسائط یتضمّن فی الحقیقه عدّه أخبار متتابعه ؛ إذ إنّ کلّ طبقه تخبر عن خبر الطبقه السابقه علیها ، فحینما یقول جماعه : «حدّثنا جماعه عن کذا» ، بواسطه واحده – مثلا – ، فإنّ خبر الطبقه الأولی الناقله لنا یکون فی الحقیقه خبرها لیس عن نفس الحادثه ، بل عن خبر الطبقه الثانیه عن الحادثه. وکذلک إذا تعدّدت الوسائط إلی أکثر من واحده ، فهذه الوسائط هی خبر عن خبر ، حتی تنتهی إلی الواسطه الأخیره التی تنقل عن نفس الحادثه ، فلا بدّ أن تکون الجماعه الأولی خبرها متواترا عن خبر متواتر عن متواتر وهکذا ؛ إذ کلّ خبر من هذه الأخبار له حکمه فی نفسه. ومتی اختلّ شرط التواتر فی طبقه واحده خرج الخبر جمله عن کونه متواترا ، وصار من أخبار الآحاد.
وهکذا الحال فی أخبار الآحاد ؛ فإنّ الخبر الصحیح ذا الوسائط إنّما یکون صحیحا إذا توفّرت (2) شروط الصحّه فی کلّ واسطه من وسائطه ، وإلاّ فالنتیجه تتبع أخسّ المقدّمات.
[شماره صفحه واقعی : 425]
ص: 926
4. خبر الواحد
اشاره
إنّ خبر الواحد – وهو ما لا یبلغ حدّ التواتر من الأخبار – قد یفید علما وإن کان المخبر شخصا واحدا ؛ وذلک فیما إذا احتفّ خبره بقرائن توجب العلم بصدقه ، ولا شکّ فی أنّ مثل هذا الخبر حجّه. وهذا لا بحث لنا فیه ؛ لأنّه مع حصول العلم تحصل الغایه القصوی ؛ إذ لیس وراء العلم غایه فی الحجّیّه ، وإلیه تنتهی حجّیّه کلّ حجّه ، کما تقدّم (1).
وأمّا : إذا لم یحتفّ بالقرائن الموجبه للعلم بصدقه – وإن احتفّ بالقرائن الموجبه للاطمئنان إلیه دون مرتبه العلم – فقد وقع الخلاف العظیم فی حجّیّته وشروط حجّیّته ، والخلاف فی الحقیقه – عند الإمامیّه بالخصوص – یرجع إلی الخلاف فی قیام الدلیل القطعیّ علی حجّیّه خبر الواحد ، وعدم قیامه ، وإلاّ فمن المتّفق علیه عندهم أنّ خبر الواحد – بما هو خبر مفید للظنّ الشخصیّ أو النوعیّ – لا عبره به ؛ لأنّ الظنّ فی نفسه لیس حجّه عندهم قطعا ، فالشأن کلّ الشأن عندهم فی حصول هذا الدلیل القطعیّ ، ومدی دلالته.
فمن ینکر حجّیّه خبر الواحد ، کالسیّد الشریف المرتضی ، ومن اتّبعه إنّما ینکر وجود هذا الدلیل القطعیّ ؛ ومن یقول بحجّیّته ، کالشیخ الطوسیّ ، وباقی العلماء یری وجود الدلیل القاطع. ولأجل أن یتّضح ما نقول ننقل نصّ أقوال الطرفین فی ذلک :
قال الشیخ الطوسیّ فی «العدّه» : «من عمل بخبر الواحد فإنّما یعمل به إذا دلّ [دلیل] علی وجوب العمل به ، إمّا من الکتاب ، أو السنّه ، أو الإجماع ، فلا یکون قد عمل بغیر علم» (2).
وصرّح بذلک السیّد المرتضی فی «الموصلیّات» (3) حسبما نقله عنه الشیخ ابن إدریس فی مقدّمه کتابه «السرائر» (4) فقال : «لا بدّ فی الأحکام الشرعیّه من طریق یوصل إلی العلم» إلی أن قال : «ولذلک أبطلنا فی الشریعه العمل بأخبار الآحاد ؛ لأنّها لا توجب علما ولا عملا ،
[شماره صفحه واقعی : 426]
ص: 927
وأوجبنا أن یکون العمل تابعا للعلم ؛ لأنّ خبر الواحد إذا کان عدلا (1) ، فغایه ما یقتضیه الظنّ بصدقه ، ومن ظننت صدقه یجوز أن یکون کاذبا».
وأصرح منه قوله بعد ذلک : «والعقل یمنع من العباده بالقیاس والعمل بخبر الواحد. ولو تعبّد الله (تعالی) بذلک ، لساغ ولدخل فی باب الصحّه ؛ لأنّ عبادته بذلک لا توجب العلم الذی لا بدّ أن یکون العمل تابعا له».
وعلی هذا ، فیتّضح أنّ المسلّم فیه عند الجمیع أنّ خبر الواحد – لو خلّی ونفسه – لا یجوز الاعتماد علیه ؛ لأنّه لا یفید إلاّ الظنّ الذی لا یغنی من الحقّ شیئا (2). وإنّما موضع النزاع هو قیام الدلیل القطعیّ علی حجّیّته.
وعلی هذا ، فقد وقع الخلاف فی ذلک علی أقوال کثیره : (3)
فمنهم : من أنکر حجّیّته مطلقا ، وقد حکی هذا القول عن السیّد المرتضی (4) ، والقاضی (5) وابن زهره (6) ، والطبرسیّ (7) وابن إدریس (8) ، وادّعوا فی ذلک الإجماع. ولکن هذا القول منقطع الآخر ، فإنّه لم یعرف موافق لهم بعد عصر ابن إدریس إلی یومنا هذا.
ومنهم : من قال : «إنّ الأخبار المدوّنه فی الکتب المعروفه – لا سیّما الکتب الأربعه – مقطوعه الصدور». وهذا ما ینسب إلی جماعه من متأخّری الأخباریّین (9). قال الشیخ الأنصاریّ
[شماره صفحه واقعی : 427]
ص: 928
تعقیبا علی ذلک : «وهذا قول لا فائده فی بیانه والجواب عنه إلاّ التحرّز عن حصول هذا الوهم لغیرهم ، کما حصل لهم ، وإلاّ فمدّعی القطع لا یلزم بذکر ضعف مبنی قطعه …» (1).
وأمّا : القائلون بحجّیّه الخبر الواحد فقد اختلفوا أیضا ، فبعضهم یری أنّ المعتبر من الأخبار هو کلّ ما فی الکتب الأربعه ، بعد استثناء ما کان فیها مخالفا للمشهور (2). وبعضهم یری أنّ المعتبر بعضها ، والمناط فی الاعتبار عمل الأصحاب ، کما یظهر ذلک من المنقول عن المحقّق فی «المعارج» (3). وقیل : المناط فیه عداله الراوی (4) أو مطلق وثاقته (5) ، أو مجرّد الظنّ بالصدور من غیر اعتبار صفه فی الراوی … (6) إلی غیر ذلک من التفصیلات.
والمقصود لنا الآن بیان إثبات حجّیّته بالخصوص – فی الجمله – فی مقابل السلب الکلّیّ ، ثمّ ننظر فی مدی دلاله الأدلّه علی ذلک. فالعمده أن ننظر أوّلا : فی الأدلّه التی ذکروها من الکتاب ، والسنّه ، والإجماع ، وبناء العقلاء ، ثمّ فی مدی دلالتها :
أ. أدلّه حجّیّه خبر الواحد من الکتاب العزیز
قطعیّا – کما تقدّم (1) – فلا یصحّ الاستدلال بالآیات التی هی ظنّیّه الدلاله ؛ لأنّ ذلک استدلال بالظنّ علی حجّیّه الظنّ ، ولا ینفع کونها قطعیّه الصدور.
ولکنّ الجواب عن هذا الوهم واضح ؛ لأنّه قد ثبتت بالدلیل القطعیّ حجّیّه ظواهر الکتاب العزیز – کما سیأتی (2) – ، فالاستدلال بها ینتهی بالأخیر إلی العلم ، فلا یکون استدلالا بالظنّ علی حجّیّه الظنّ ، ونحن علی هذا المبنی نذکر الآیات التی ذکروها علی حجّیّه خبر الواحد ، فنکتفی بإثبات ظهورها فی المطلوب :
الآیه الأولی : آیه النبأ
وهی قوله (تعالی) فی سوره الحجرات : (إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَهٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ) (3).
وقد استدلّ بهذه الآیه الکریمه من جهه مفهوم الوصف ، ومن جهه مفهوم الشرط ، والذی یبدو أنّ الاستدلال بها من جهه مفهوم الشرط کاف فی المطلوب (4).
وتقریب الاستدلال یتوقّف علی شرح ألفاظ الآیه أوّلا ، فنقول :
1. «التبیّن» ، إنّ لهذه المادّه معنیین :
الأوّل : بمعنی الظهور ، فیکون فعلها لازما ، فنقول : «تبیّن الشیء» إذا ظهر وبان. ومنه قوله (تعالی) : (حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ) (5) ، (حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (6).
[شماره صفحه واقعی : 429]
ص: 930
والثانی : بمعنی الظهور علیه – یعنی العلم به واستکشافه ، أو التصدّی للعلم به وطلبه – فیکون فعلها متعدّیا ، فتقول : «تبیّنت الشیء» إذا علمته ، أو إذا تصدّیت للعلم به وطلبته.
وعلی المعنی الثانی – وهو التصدّی للعلم به – یتضمّن معنی التثبّت فیه (1) والتأنّی فیه لکشفه وإظهاره والعلم به. ومنه قوله (تعالی) فی سوره النساء : (إِذا ضَرَبْتُمْ فِی سَبِیلِ اللهِ فَتَبَیَّنُوا) (2) ؛ ومن أجل هذا قرئ بدل (فَتَبَیَّنُوا) : «فتثبّتوا». ومنه کذلک هذه الآیه التی نحن بصددها (إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا …) ، وکذلک قرئ فیها «فتثبّتوا» (3) ، فإنّ هذه القراءه ممّا تدلّ علی أنّ المعنیین – وهما التبیّن والتثبّت – متقاربان.
2. (أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَهٍ) ، یظهر من کثیر من التفاسیر أنّ هذا المقطع من الآیه کلام مستأنف ، جاء لتعلیل وجوب التبیّن (4). وتبعهم علی ذلک بعض الأصولیّین الذین بحثوا [عن] هذه الآیه هنا (5).
ولأجل ذلک قدّروا لکلمه (فَتَبَیَّنُوا) مفعولا ، فقالوا – مثلا – : «معناه : فتبیّنوا صدقه من کذبه» ، (6) کما قدّروا لتحقیق نظم الآیه وربطها – لتصلح هذه الفقره أن تکون تعلیلا – کلمه تدلّ علی التعلیل ، بأن قالوا : «معناها : خشیه أن تصیبوا قوما بجهاله ، أو حذرا أن تصیبوا ، أو لئلاّ تصیبوا قوما …» ونحو ذلک (7).
وهذه التقدیرات کلّها تکلّف وتمحّل ، لا تساعد علیها قرینه ولا قاعده عربیّه. ومن العجیب أن یؤخذ ذلک بنظر الاعتبار ویرسل إرسال المسلّمات.
والذی أرجّحه أنّ مقتضی سیاق الکلام والاتّساق مع أصول القواعد العربیّه أن یکون
[شماره صفحه واقعی : 430]
ص: 931
قوله (تعالی) : (أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً …) مفعولا ل- «تبیّنوا» ، فیکون معناه : «فتثبّتوا ، واحذروا إصابه قوم بجهاله».
والظاهر أنّ قوله (تعالی) : (فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَهٍ) یکون کنایه عن لازم معناه ، وهو عدم حجّیّه خبر الفاسق ؛ لأنّه لو کان حجّه لما دعا إلی الحذر من إصابه قوم بجهاله عند العمل به ، ثمّ من الندم علی العمل به.
3. «الجهاله» اسم مأخوذ من الجهل ، أو مصدر ثان له ، قال عنها أهل اللغه : «الجهاله : أن تفعل فعلا بغیر العلم» (1) ، ثمّ هم فسّروا الجهل بأنّه المقابل للعلم ، عبّروا عنه تاره بتقابل التضاد (2) ، وأخری بتقابل النقیض (3) ، وإن کان الأصحّ فی التعبیر العلمیّ أنّه من تقابل العدم والملکه. (4)
والذی یبدو لی من تتبّع استعمال کلمه «الجهل» ومشتقّاتها فی أصول اللغه العربیّه أنّ إعطاء لفظ «الجهل» معنی یقابل العلم – بهذا التحدید الضیّق لمعناه – جاء مصطلحا جدیدا عند المسلمین فی عهدهم ؛ لنقل الفلسفه الیونانیّه إلی العربیّه الذی استدعی تحدید معانی کثیر من الألفاظ ، وکسبها إطارا (5) یناسب الأفکار الفلسفیّه ، وإلاّ فالجهل فی أصل اللغه کان یعطی معنی یقابل الحکمه ، والتعقّل ، والرویّه (6) ، فهو یؤدّی تقریبا معنی السفه ، أو الفعل السفهیّ عند ما یکون عن غضب – مثلا – وحماقه ، وعدم بصیره ، وعلم. (7)
وعلی کلّ حال ، هو بمعناه الواسع اللغویّ یلتقی مع معنی الجهل المقابل للعلم الذی صار مصطلحا علمیّا بعد ذلک. ولکنّه لیس هو إیّاه. وعلیه ، فیکون معنی «الجهاله» أن تفعل فعلا بغیر حکمه ، وتعقّل ، ورویّه الذی لازمه عاده إصابه عدم الواقع والحقّ.
[شماره صفحه واقعی : 431]
ص: 932
إذا عرفت هذه الشروح لمفردات الآیه الکریمه یتّضح لک معناها ، وما تؤدّی إلیه من دلاله علی المقصود فی المقام أنّها تعطی أنّ النبأ من شأنه أن یصدّق به عند الناس ، ویؤخذ به من جهه أنّ ذلک من سیرتهم ، وإلاّ فلما ذا نهی عن الأخذ بخبر الفاسق من جهه أنّه فاسق؟
فأراد (تعالی) أن یلفت أنظار المؤمنین إلی أنّه لا ینبغی أن یعتمدوا علی کلّ خبر من أیّ مصدر کان ، بل إذا جاء به فاسق ینبغی ألاّ یؤخذ به بلا تروّ ، وإنّما یجب فیه (1) أن یتثبّتوا [من] أن یصیبوا قوما بجهاله ، أی بفعل ما فیه سفه وعدم حکمه قد یضرّ بالقوم. والسرّ فی ذلک أنّ المتوقّع من الفاسق ألاّ یصدق فی خبره ، فلا ینبغی أن یصدّق ویعمل بخبره.
فتدلّ الآیه – بحسب المفهوم – علی أنّ خبر العادل یتوقّع منه الصدق ، فلا یجب فیه الحذر والتثبّت من إصابه قوم بجهاله. ولازم ذلک أنّه حجّه.
والذی نقوله ونستفیده وله دخل فی استفاده المطلوب من الآیه أنّ النبأ فی مفروض الآیه ممّا یعتمد علیه عند الناس ، وتعارفوا الأخذ به بلا تثبّت ، وإلاّ لما کانت حاجه للأمر فیه بالتبیّن فی خبر الفاسق ، إذا کان النبأ من جهه ما هو نبأ لا یعمل به الناس.
ولمّا علّقت الآیه وجوب التبیّن والتثبّت علی مجیء الفاسق یظهر منه بمقتضی مفهوم الشرط أنّ خبر العادل لیس له هذا الشأن ، بل الناس لهم أن یبقوا فیه علی سجیّتهم من الأخذ به وتصدیقه من دون تثبّت وتبیّن لمعرفه صدقه من کذبه ، من جهه خوف إصابه قوم بجهاله. وطبعا لا یکون ذلک إلاّ من جهه اعتبار خبر العادل وحجّیّته ؛ لأنّ المترقّب منه الصدق ، فیکشف ذلک عن حجّیّه قول العادل عند الشارع ، وإلغاء احتمال الخلاف فیه.
والظاهر أنّه بهذا البیان للآیه یرتفع کثیر من الشکوک التی قیلت علی الاستدلال بها علی المطلوب ، فلا نطیل فی ذکرها وردّها. (2)
الآیه الثانیه : آیه النفر
وهی قوله (تعالی) فی سوره التوبه : (وَما کانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّهً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِ
[شماره صفحه واقعی : 432]
ص: 933
فِرْقَهٍ مِنْهُمْ طائِفَهٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ) (1).
إنّ الاستدلال بهذه الآیه الکریمه علی المطلوب یتمّ بمرحلتین من البیان :
1 – الکلام فی صدر الآیه : (وَما کانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّهً ؛) تمهیدا للاستدلال ؛ فإنّ الظاهر من هذه الفقره نفی وجوب النفر علی المؤمنین کافّه (2) ، والمراد من النفر – بقرینه باقی الآیه – النفر إلی الرسول للتفقّه فی الدین ، لا النفر إلی الجهاد ، وإن کانت الآیات التی قبلها وارده فی الجهاد ؛ فإنّ ذلک وحده غیر کاف لیکون قرینه مع ظهور باقی الآیه فی النفر إلی التعلّم والتفقّه ، فإنّ الکلام الواحد یفسّر بعضه بعضا.
وهذه الفقره إمّا جمله خبریّه یراد بها إنشاء نفی الوجوب فتکون فی الحقیقه جمله إنشائیّه ، وإمّا جمله خبریّه یراد بها الإخبار جدّا عن عدم وقوعه (3) من الجمیع ؛ إمّا لاستحالته عاده ، أو لتعذّره اللازم له عدم وجوب النفر علیهم جمیعا ، فتکون دالّه بالدلاله الالتزامیّه علی عدم جعل مثل هذا الوجوب من الشارع. وعلی کلا الحالین فهی تدلّ علی عدم تشریع وجوب النفر علی کلّ واحد واحد ، إمّا إنشاء ، أو إخبارا.
ولکن لیس من شأن الشارع بما هو شارع أن ینفی وجوب شیء ، إنشاء أو إخبارا ، إلاّ إذا کان فی مقام رفع توهّم الوجوب لذلک الشیء أو اعتقاده. واعتقاد وجوب النفر أمر متوقّع لدی العقلاء ؛ لأنّ التعلّم واجب عقلیّ علی کلّ أحد ، وتحصیل الیقین فیه المنحصر عاده فی مشافهه الرسول أیضا واجب عقلیّ. فحقّ أن یعتقد المؤمنون بوجوب النفر إلی الرسول شرعا لتحصیل المعرفه بالأحکام.
ومن جهه أخری ، فإنّه ممّا لا شبهه فیه أنّ نفر جمیع المؤمنین فی جمیع أقطار الإسلام إلی الرسول لأخذ الأحکام منه بلا واسطه – کلّما عنت حاجه وعرضت لهم مسأله – أمر (4) لیس
[شماره صفحه واقعی : 433]
ص: 934
عملیّا من جهات کثیره ، (1) ؛ فضلا عمّا فیه من مشقّه عظیمه لا توصف ، بل هو مستحیل عاده.
إذا عرفت ذلک ، فنقول : إنّ الله (تعالی) أراد بهذه الفقره – والله العالم – أن یرفع عنهم هذه الکلفه والمشقّه برفع وجوب النفر ؛ رحمه بالمؤمنین. ولکن هذا التخفیف لیس معناه أن یستلزم رفع أصل وجوب التفقّه ، بل الضرورات تقدّر بقدرها. ولا شکّ أنّ التخفیف یحصل برفع الوجوب علی کلّ واحد واحد ، فلا بدّ من علاج لهذا الأمر اللازم تحقّقه علی کلّ حال – وهو التعلّم – بتشریع طریقه أخری للتعلّم غیر طریقه التعلّم الیقینیّ من نفس لسان الرسول. وقد بیّنت بقیّه الآیه هذا العلاج وهذه الطریقه ، وهو قوله (تعالی) : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَهٍ …) والتفریع بالفاء شاهد علی أنّ هذا علاج متفرّع علی نفی وجوب النفر علی الجمیع.
ومن هذا البیان یظهر أنّ هذه الفقره (صدر الآیه) لها الدخل الکبیر فی فهم الباقی من الآیه الذی هو موضع الاستدلال علی حجّیّه خبر الواحد. وقد أغفل هذه الناحیه المستدلّون بهذه الآیه علی المطلوب ، فلم یوجّهوا الارتباط بین صدر الآیه وبقیّتها للاستدلال بها ، علی نحو ما یأتی.
2 – الکلام عن نفس موقع الاستدلال من الآیه علی حجّیّه خبر الواحد المتفرّع هذا الموقع علی صدرها ؛ لمکان فاء التفریع ، فإنّه (تعالی) – بعد أن بیّن عدم وجوب النفر علی کلّ واحد ، تخفیفا علیهم – حرّضهم (2) علی اتّباع طریقه أخری بدلاله «لو لا» التی هی للتحضیض ، والطریقه هی أن ینفر قسم من کلّ قوم لیرجعوا إلی قومهم فیبلّغوهم الأحکام بعد أن یتفقّهوا فی الدین ، ویتعلّموا الأحکام ، وهو فی الواقع خیر علاج لتحصیل التعلیم ، بل الأمر منحصر فیه.
فالآیه الکریمه بمجموعها تقرّر أمرا عقلیّا ، وهو وجوب المعرفه والتعلّم ، وإذ تعذّرت المعرفه الیقینیّه بنفر کلّ واحد إلی النبیّ صلی الله علیه و آله لیتفقّه فی الدین فلم یجب ، رخّص الله (تعالی) لهم لتحصیل تلک الغایه – أعنی التعلّم – بأن تنفر طائفه من کلّ فرقه. والطائفه المتفقّهه هی التی تتولّی حینئذ تعلیم الباقین من قومهم ، بل إنّه لم یکن قد رخّصهم فقط بذلک ، وإنّما
[شماره صفحه واقعی : 434]
ص: 935
أوجب علیهم أن تنفر طائفه من کلّ قوم ، ویستفاد الوجوب من «لو لا» التحضیضیّه ، ومن الغایه من النفر – وهی التفقّه لإنذار القوم الباقین لأجل أن یحذروا من العقاب – ؛ مضافا إلی أنّ أصل التعلّم واجب عقلیّ ، کما قرّرنا.
کلّ ذلک شواهد ظاهره علی وجوب تفقّه جماعه من کلّ قوم ؛ لأجل تعلیم قومهم الحلال والحرام. ویکون ذلک – طبعا – وجوبا کفائیّا.
وإذا استفدنا وجوب تفقّه کلّ طائفه من کلّ قوم ، أو تشریع ذلک بالترخیص فیه علی الأقلّ لغرض إنذار قومهم إذا رجعوا إلیهم ، فلا بدّ أن نستفید من ذلک أنّ نقلهم للأحکام قد جعله الله (تعالی) حجّه علی الآخرین ، وإلاّ لکان تشریع هذا النفر علی نحو الوجوب ، أو الترخیص لغوا بلا فائده بعد أن نفی وجوب النفر علی الجمیع. بل لو لم یکن نقل الأحکام حجّه ، لما بقیت طریقه لتعلّم الأحکام تکون معذّره للمکلّف ، وحجّه له ، أو علیه.
والحاصل أنّ رفع وجوب النفر علی الجمیع والاکتفاء بنفر قسم منهم لیتفقّهوا فی الدین ویعلّموا الآخرین هو بمجموعه دلیل واضح علی حجّیّه نقل الأحکام فی الجمله ، وإن لم یستلزم العلم الیقینیّ ؛ لأنّ الآیه – من ناحیه اشتراط الإنذار بما یوجب العلم – مطلقه ، فکذلک تکون مطلقه من ناحیه قبول الإنذار والتعلیم ، وإلاّ کان هذا التدبیر الذی شرّعه الله (تعالی) لغوا ، وبلا فائده ، وغیر محصّل للغرض الذی من أجله کان النفر وتشریعه.
هکذا ینبغی أن تفهم الآیه الکریمه فی الاستدلال علی المطلوب ، وبهذا البیان یندفع کثیر ممّا أورد علی الاستدلال بها للمطلوب.
وینبغی ألاّ یخفی علیکم أنّه لا یتوقّف الاستدلال بها علی أن یکون نفر الطائفه من کلّ قوم واجبا ، بل یکفی ثبوت أنّ هذه الطریقه مشرّعه من قبل الله (تعالی) ، وإن کان بنحو الترخیص بها ؛ لأنّ نفس تشریعها یستلزم تشریع حجّیّه نقل الأحکام من المتفقّه. فلذلک لا تبقی حاجه إلی التطویل فی استفاده الوجوب.
کما أنّ الاستدلال بها لا یتوقّف علی کون الحذر عند إنذار النافرین المتفقّهین واجبا ، واستفاده ذلک من «لعلّ» أو من أصل حسن الحذر ، بل الأمر بالعکس ؛ فإنّ نفس جعل حجّیّه قول النافرین المتفقّهین المستفاد من الآیه یکون دلیلا علی وجوب الحذر.
[شماره صفحه واقعی : 435]
ص: 936
نعم ، یبقی شیء ، وهو أنّ الواجب أن تنفر من کلّ فرقه طائفه ، والطائفه ثلاثه فأکثر ، أو أکثر من ثلاثه. وحینئذ لا تشمل الآیه خبر الشخص الواحد أو الاثنین.
ولکن یمکن دفع ذلک بأنّه لا دلاله فی الآیه علی أنّه یجب فی الطائفه أن ینذروا قومهم إذا رجعوا إلیهم مجتمعین بشرط الاجتماع ، فالآیه من هذه الناحیه مطلقه ، وبمقتضی إطلاقها یکون خبر الواحد – لو انفرد بالإخبار – حجّه أیضا. یعنی أنّ العموم فیها أفرادیّ لا مجموعیّ (1).
تنبیه (2)
إنّ هذه الآیه الکریمه تدلّ أیضا علی وجوب قبول فتوی المجتهد بالنسبه إلی العامیّ ، کما دلّت علی وجوب قبول خبر الواحد ، وذلک ظاهر ؛ لأنّ کلمه «التفقّه» عامّه للطرفین ، وقد أفاد ذلک شیخنا النائینیّ قدس سره ، کما فی تقریرات بعض الأساطین من تلامذته ، فإنّه قال : «إنّ التفقّه فی الأعصار المتأخّره وإن کان هو استنباط الحکم الشرعیّ بتنقیح جهات ثلاث : الصدور ، وجهه الصدور ، والدلاله ، ومن المعلوم أنّ تنقیح الجهتین الأخیرتین ممّا یحتاج إلی إعمال النظر والدقّه ، إلاّ أنّ التفقّه فی الصدر الأوّل لم یکن محتاجا إلاّ إلی إثبات الصدور لیس إلاّ ، لکن اختلاف محقّق التفقّه باختلاف الأزمنه لا یوجب اختلافا فی مفهومه ، فکما أنّ العارف بالأحکام الشرعیّه بإعمال النظر والفکر یصدق علیه الفقیه ، کذلک العارف بها من دون إعمال النظر والفکر یصدق علیه الفقیه حقیقه» (3).
وبمقتضی عموم التفقّه ، فإنّ الآیه الکریمه – أیضا – تدلّ علی وجوب الاجتهاد فی العصور المتأخّره عن عصور المعصومین وجوبا کفائیّا ، بمعنی أنّه یجب علی کلّ قوم أن ینفر منهم طائفه فیرحلوا لتحصیل التفقّه – وهو الاجتهاد – لینذروا قومهم إذا رجعوا إلیهم ، کما تدلّ أیضا بالملازمه – التی سبق ذکرها – علی حجّیّه قول المجتهد علی الناس الآخرین ، ووجوب قبول فتواه علیهم.
[شماره صفحه واقعی : 436]
ص: 937
الآیه الثالثه : آیه حرمه الکتمان
وهی قوله (تعالی) فی سوره البقره (إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَیِّناتِ وَالْهُدی مِنْ بَعْدِ ما بَیَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِی الْکِتابِ أُولئِکَ یَلْعَنُهُمُ اللهُ …) (1).
وجه الاستدلال بها یشبه الاستدلال بآیه النفر ، فإنّه لمّا حرّم الله (تعالی) کتمان البیّنات والهدی ، وجب أن یقبل قول من یظهر البیّنات والهدی ، ویبیّنه للناس ، وإن کان ذلک المظهر والمبیّن واحدا لا یوجب قوله العلم ، وإلاّ لکان تحریم الکتمان لغوا وبلا فائده لو لم یکن قوله حجّه مطلقا.
والحاصل أنّ هناک ملازمه عقلیّه بین وجوب الإظهار ووجوب القبول ، وإلاّ لکان وجوب الإظهار لغوا وبلا فائده. ولمّا کان وجوب الإظهار لم یشترط فیه أن یکون الإظهار موجبا للعلم فکذلک لازمه – وهو وجوب القبول – لا بدّ أن یکون مطلقا من هذه الناحیه ، غیر مشترط فیه بما یوجب العلم. وعلی هذا الأساس من الملازمه قلنا بدلاله آیه النفر علی حجّیّه خبر الواحد ، وحجّیّه فتوی المجتهد.
ولکنّ الإنصاف أنّ الاستدلال لا یتمّ بهذه الآیه الکریمه ، بل هی أجنبیّه جدّا عمّا نحن فیه ؛ لأنّ ما نحن فیه – وهو حجّیّه خبر الواحد – أن یظهر المخبر شیئا لم یکن ظاهرا ، ویعلّم ما تعلّم من أحکام غیر معلومه للآخرین ، کما فی آیه النفر ، فإذا وجب التعلیم والإظهار ، وجب قبوله علی الآخرین ، وإلاّ کان وجوب التعلیم والإظهار لغوا.
وأمّا : هذه الآیه فهی وارده فی مورد کتمان ما هو ظاهر وبیّن للناس جمیعا ، بدلیل قوله (تعالی) : (مِنْ بَعْدِ ما بَیَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِی الْکِتابِ) لا إظهار ما هو خفیّ علی الآخرین.
والغرض أنّ هذه الآیه وارده فی مورد ما هو بیّن واجب القبول ، سواء کتم أم أظهر ، لا فی مورد یکون قبوله من جهه الإظهار ، حتی تکون ملازمه بین وجوب القبول وحرمه الکتمان ، فیقال : «لو لم یقبل لما حرم الکتمان». وبهذا یظهر الفرق بین هذه الآیه وآیه النفر.
وینسق علی هذه الآیه باقی الآیات الأخر التی ذکرت للاستدلال بها علی المطلوب ،
[شماره صفحه واقعی : 437]
ص: 938
فلا نطیل بذکرها. (1)
ب. دلیل حجّیّه خبر الواحد من السنّه
من البدیهیّ أنّه لا یصحّ الاستدلال علی حجّیّه خبر الواحد بنفس خبر الواحد ؛ فإنّه دور ظاهر ، بل لا بدّ أن تکون الأخبار المستدلّ بها علی حجّیّته معلومه الصدور من المعصومین ، إمّا بتواتر ، أو قرینه قطعیّه.
ولا شکّ فی أنّه لیس فی أیدینا من الأخبار ما هو متواتر بلفظه فی هذا المضمون ، وإنّما کلّ ما قیل هو تواتر الأخبار معنی فی حجّیّه خبر الواحد إذا کان ثقه مؤتمنا فی الروایه ، کما رآه الشیخ الحرّ صاحب الوسائل. (2) وهذه دعوی غیر بعیده ، فإنّ المتتبّع یکاد یقطع جازما بتواتر الأخبار فی هذا المعنی ، (3) بل هی بالفعل متواتره لا ینبغی أن یعتری فیها الریب للمنصف. (4)
وقد ذکر الشیخ الأنصاریّ (قدّس الله نفسه) طوائف من الأخبار ، (5) یحصل بانضمام
[شماره صفحه واقعی : 438]
ص: 939
بعضها إلی بعض العلم بحجّیّه خبر الواحد الثقه المأمون من الکذب فی الشریعه ، وأنّ هذا (1) أمر مفروغ عنه عند آل البیت علیهم السلام.
ونحن نشیر إلی هذه الطوائف علی الإجمال ، وعلی الطالب أن یرجع إلی الوسائل (کتاب القضاء) (2) وإلی رسائل الشیخ (3) فی حجّیّه خبر الواحد ؛ للاطّلاع علی تفاصیلها :
الطائفه الأولی : ما ورد فی الخبرین المتعارضین فی الأخذ بالمرجّحات ، کالأعدل ، والأصدق ، والمشهور ، ثمّ التخییر عند التساوی. (4) وسیأتی ذکر بعضها فی باب التعادل والتراجیح. (5) ولو لا أنّ خبر الواحد الثقه حجّه لما کان معنی لفرض التعارض بین الخبرین ، ولا معنی للترجیح بالمرجّحات المذکوره والتخییر عند عدم المرجّح ، کما هو واضح.
الطائفه الثانیه : ما ورد فی إرجاع آحاد الرواه إلی آحاد أصحاب الأئمّه علیهم السلام ، (6) علی وجه یظهر فیه عدم الفرق فی الإرجاع بین الفتوی والروایه ، مثل إرجاعه علیه السلام إلی زراره بقوله : «إذا أردت حدیثا فعلیک بهذا الجالس» (7) یشیر بذلک إلی زراره. ومثل قوله علیه السلام – لمّا قال له عبد العزیز بن المهتدی : ربما أحتاج ولست ألقاک فی کلّ وقت ، أفیونس بن عبد الرحمن ثقه آخذ عنه معالم دینی؟ – : «نعم» (8).
قال الشیخ الأعظم قدس سره : «وظاهر هذه الروایه أنّ قبول قول الثقه کان أمرا مفروغا عنه عند
[شماره صفحه واقعی : 439]
ص: 940
الراوی ، فسأل عن وثاقه یونس ؛ لیرتّب علیه أخذ المعالم عنه». (1)
إلی غیر ذلک من الروایات التی تنسق علی هذا المضمون ونحوه.
الطائفه الثالثه : ما دلّ علی وجوب الرجوع إلی الرواه ، والثقات ، والعلماء ، مثل قوله علیه السلام : «وأمّا الحوادث الواقعه فارجعوا فیها إلی رواه حدیثنا ؛ فإنّهم حجّتی علیکم ، وأنا حجّه الله علیهم» (2) … إلی ما شاء الله من الروایات فی أمثال هذا المعنی. (3)
الطائفه الرابعه : ما دلّ علی الترغیب فی الروایه ، والحثّ علیها ، وکتابتها ، وإبلاغها ، (4) مثل الحدیث النبویّ المستفیض ، بل المتواتر : «من حفظ علی أمّتی أربعین حدیثا بعثه الله فقیها عالما ، یوم القیامه» (5) الذی لأجله صنّف کثیر من العلماء الأربعینیّات (6) ؛ ومثل قوله علیه السلام للراوی : «اکتب وبثّ علمک فی بنی عمّک ؛ فإنّه یأتی زمان هرج لا یأنسون إلاّ بکتبهم» (7) إلی غیر ذلک من الأحادیث. (8)
الطائفه الخامسه : ما دلّ علی ذمّ الکذب علیهم ، والتحذیر من الکذّابین علیهم ، (9) فإنّه لو لم یکن الأخذ بأخبار الآحاد أمرا معروفا بین المسلمین ، لما کان مجال للکذب علیهم ، ولما کان مورد للخوف من الکذب علیهم ، ولا التحذیر من الکذّابین ؛ لأنّه لا أثر للکذب لو کان خبر الواحد علی کلّ حال غیر مقبول عند المسلمین.
[شماره صفحه واقعی : 440]
ص: 941
قال الشیخ الأعظم – بعد نقله لهذه الطوائف من الأخبار ، وهو علی حقّ فیما قال – : «إلی غیر ذلک من الأخبار التی یستفاد من مجموعها رضی الأئمّه علیهم السلام بالعمل بالخبر وإن لم یفد القطع. وقد ادّعی فی الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقه ، إلاّ أنّ القدر المتیقّن منها هو خبر الثقه الذی یضعف فیه احتمال الکذب علی وجه لا یعتنی به العقلاء ، ویقبّحون التوقّف فیه ؛ لأجل ذلک الاحتمال ، کما دلّ علیه ألفاظ : «الثقه» و «المأمون» و «الصادق» وغیرها الوارده فی الأخبار المتقدّمه ، وهی أیضا منصرف إطلاق غیرها».
وأضاف : «وأمّا : العداله فأکثر الأخبار المتقدّمه خالیه عنها ، بل وفی کثیر منها التصریح بخلافه». (1)
ج. دلیل حجّیّه خبر الواحد من الإجماع
حکی جماعه کبیره – تصریحا وتلویحا – الإجماع من قبل علماء الإمامیّه علی حجّیّه خبر الواحد إذا کان ثقه مأمونا فی نقله وإن لم یفد خبره العلم. وعلی رأس الحاکین للإجماع شیخ الطائفه الطوسیّ رحمه الله فی کتابه «العدّه» ، (2) لکنّه اشترط فیما اختاره من الرأی ، وحکی علیه الإجماع أن یکون خبر الواحد واردا من طریق أصحابنا القائلین بالإمامه ، وکان ذلک مرویّا عن النبیّ صلی الله علیه و آله ، أو عن الواحد من الأئمّه علیهم السلام ، وکان ممّن لا یطعن فی روایته ، ویکون سدیدا فی نقله. وتبعه علی ذلک فی التصریح بالإجماع السیّد رضیّ الدین بن طاوس ، (3) والعلاّمه الحلّی فی «النهایه» ، (4) ، والمحدّث المجلسیّ فی بعض رسائله ، کما حکی ذلک عنهم الشیخ الأعظم فی «الرسائل». (5)
وفی مقابل ذلک حکی جماعه أخری إجماع الإمامیّه علی عدم الحجّیّه. وعلی رأسهم
[شماره صفحه واقعی : 441]
ص: 942
السیّد الشریف المرتضی رحمه الله ، وجعله بمنزله القیاس فی کون ترک العمل به معروفا من مذهب الشیعه (1). وتبعه علی ذلک الشیخ ابن إدریس فی «السرائر» ، ونقل کلاما للسیّد المرتضی فی المقدّمه ، وانتقد فی أکثر من موضع فی کتابه الشیخ الطوسیّ فی عمله بخبر الواحد ، وکرّر تبعا للسیّد قوله : «إنّ خبر الواحد لا یوجب علما ولا عملا». (2) وکذلک نقل عن الطبرسیّ صاحب «مجمع البیان» قدس سره تصریحه فی نقل الإجماع علی عدم العمل بخبر الواحد. (3)
والغریب فی الباب وقوع مثل هذا التدافع بین نقل الشیخ والسیّد عن إجماع الإمامیّه ، مع أنّهما متعاصران ، بل الأوّل تلمذ علی الثانی ، وهما الخبیران العالمان بمذهب الإمامیّه ، ولیس من شأنهما أن یحکیا مثل هذا الأمر بدون تثبّت وخبره کامله.
فلذلک وقع الباحثون فی حیره عظیمه من أجل التوفیق بین نقلیهما. وقد حکی الشیخ الأعظم فی «الرسائل» وجوها للجمع ، مثل أن یکون مراد السیّد المرتضی من خبر الواحد – الذی حکی الإجماع علی عدم العمل به – هو خبر الواحد الذی یرویه مخالفونا ، والشیخ یتّفق معه علی ذلک. (4)
وقیل : «یجوز أن یکون مراده من خبر الواحد ما یقابل المأخوذ من الثقات المحفوظ فی الأصول ، المعمول بها عند جمیع خواصّ الطائفه ، وحینئذ یتقارب مع الشیخ فی الحکایه عن الإجماع». (5)
وقیل : «یجوز أن یکون مراد الشیخ من خبر الواحد خبر الواحد ، المحفوف بالقرائن المفیده للعلم بصدقه ، فیتّفق حینئذ نقله مع نقل السیّد». (6)
وهذه الوجوه من التوجیهات قد استحسن الشیخ الأنصاریّ منها الأوّل ، ثمّ الثانی. ولکنّه
[شماره صفحه واقعی : 442]
ص: 943
یری أنّ الأرجح من الجمیع ما ذکره هو من الوجه (1) وأکّد علیه أکثر من مرّه ، فقال : «ویمکن الجمع بینهما بوجه آخر ، وهو أنّ مراد السیّد من العلم الذی ادّعاه فی صدق الأخبار هو مجرّد الاطمئنان ، فإنّ المحکیّ عنه فی تعریف العلم أنّه ما اقتضی سکون النفس ، وهو الذی ادّعی بعض الأخباریّین أنّ مرادنا من العلم بصدور الأخبار هو هذا المعنی ، لا الیقین الذی لا یقبل الاحتمال رأسا.
فمراد الشیخ من تجرّد هذه الأخبار عن القرائن تجرّدها عن القرائن الأربع التی ذکرها أوّلا ، وهی موافقه الکتاب ، والسنّه ، والإجماع ، والدلیل العقلیّ.
ومراد السیّد من القرائن – التی ادّعی فی عبارته المتقدّمه (2) احتفاف أکثر الأخبار بها – هی الأمور الموجبه للوثوق بالراوی أو بالروایه ، بمعنی سکون النفس بهما ، ورکونها إلیهما».
ثمّ قال : «ولعلّ هذا الوجه أحسن وجوه الجمع بین کلامی الشیخ والسیّد ، خصوصا مع ملاحظه تصریح السیّد فی کلامه بأنّ أکثر الأخبار متواتره ، أو محفوفه ، وتصریح الشیخ فی کلامه المتقدّم بإنکار ذلک». (3)
هذا ما أفاده الشیخ الأنصاریّ فی توجیه کلام هذین العلمین ، ولکنّی لا أحسب أنّ السیّد المرتضی یرتضی بهذا الجمع ؛ لأنّه صرّح فی عبارته المنقوله فی مقدّمه السرائر بأنّ مراده من العلم القطع الجازم ، قال :
«اعلم أنّه لا بدّ فی الأحکام الشرعیّه من طریق یوصل إلی العلم بها ؛ لأنّه متی لم نعلم الحکم ونقطع (4) بالعلم علی أنّه مصلحه ، جوّزنا کونه مفسده» (5).
[شماره صفحه واقعی : 443]
ص: 944
وأصرح منه (1) قوله بعد ذلک : «ولذلک أبطلنا فی الشریعه العمل بأخبار الآحاد ؛ لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وأوجبنا أن یکون العمل تابعا للعلم ؛ لأنّ خبر الواحد إذا کان عدلا ، فغایه ما یقتضیه الظنّ بصدقه ، ومن ظننت صدقه یجوز أن یکون کاذبا وإن ظننت به الصدق ؛ فإنّ الظنّ لا یمنع من التجویز ، فعاد الأمر فی العمل بأخبار الآحاد إلی أنّه إقدام علی ما لا نأمن من کونه فسادا ، أو غیر صلاح». (2)
هذا ، ویحتمل – احتمالا بعیدا – أنّ السیّد لم یرد من «التجویز» – الذی قال عنه : إنّه لا یمنع منه الظنّ – کلّ تجویز حتی الضعیف الذی لا یعتنی به العقلاء ویجتمع مع اطمئنان النفس ، بل أراد منه التجویز الذی لا یجتمع مع اطمئنان النفس ، ویرفع الأمان بصدق الخبر.
وإنّما قلنا : «إنّ هذا الاحتمال بعید» ؛ لأنّه یدفعه أنّ السیّد حصر فی بعض عباراته ما یثبت الأحکام – عند من نأی (3) عن المعصومین ، أو وجد بعدهم – فی خصوص الخبر المتواتر المفضی إلی العلم وإجماع الفرقه المحقّه ، لا غیرهما. (4)
وأمّا : تفسیره للعلم بسکون النفس فهذا تفسیر شائع فی عبارات المتقدّمین ، ومنهم : الشیخ نفسه فی «العدّه». (5) والظاهر أنّهم یریدون من سکون النفس الجزم القاطع ، لا مجرّد الاطمئنان وإن لم یبلغ القطع ، کما هو متعارف التعبیر به فی لسان المتأخّرین.
نعم ، لقد عمل السیّد المرتضی علی خلاف ما أصّله هنا ، وکذلک ابن إدریس الذی تابعه فی هذا القول ؛ لأنّه کان کثیرا ما یأخذ بأخبار الآحاد الموثوقه المرویّه فی کتب أصحابنا. ومن العسیر علیه وعلی غیره أن یدّعی تواترها جمیعا ، أو احتفافها بقرائن توجب القطع بصدورها. وعلی ذلک جرت استنباطاته الفقهیّه ، وکذلک ابن إدریس فی «السرائر». ولعلّ
[شماره صفحه واقعی : 444]
ص: 945
عمله هذا یکون قرینه علی مراده من ذلک الکلام ، ومفسّرا له علی نحو ما احتمله الشیخ الأنصاریّ.
وعلی کلّ حال – سواء استطعنا تأویل کلام السیّد بما یوافق کلام الشیخ أو لم نستطع – فإنّ دعوی الشیخ إجماع الطائفه علی اعتبار خبر الواحد الموثوق به المأمون من الکذب – وإن لم یکن عادلا بالمعنی الخاصّ ، ولم یوجب قوله العلم القاطع – دعوی مقبوله ، ومؤیّده ، یؤیّدها عمل جمیع العلماء من لدن الصدر الأوّل إلی الیوم ، حتی نفس السیّد ، وابن إدریس ، کما ذکرنا ، بل السیّد نفسه اعترف فی بعض کلامه بعمل الطائفه بأخبار الآحاد ، إلاّ أنّه ادّعی أنّه لمّا کان من المعلوم عدم عملهم بالأخبار المجرّده ، کعدم عملهم بالقیاس فلا بدّ من حمل موارد عملهم علی الأخبار المحفوفه بالقرائن ، قائلا : «لیس ینبغی أن یرجع عن الأمور المعلومه المشهوره المقطوع علیها – ویقصد بالأمور المعلومه ، عدم عملهم بالظنون – إلی ما هو مشتبه ، وملتبس ، ومجمل – ویقصد بالمشتبه المجمل ، وجه عملهم بأخبار الآحاد – ، وقد علم کلّ موافق ومخالف أنّ الشیعه الإمامیّه تبطل القیاس فی الشریعه ، حیث لا یؤدّی إلی العلم ، وکذلک نقول فی أخبار الآحاد». (1)
ونحن نقول للسیّد المرتضی : صحیح أنّ المعلوم من طریقه الشیعه الإمامیّه عدم عملهم بالظنون بما هی ظنون ، ولکن خبر الواحد الثقه المأمون وما سواه من الظنون المعتبره – کالظواهر – إذا کانوا قد عملوا بها فإنّهم لم یعملوا بها إلاّ لأنّها ظنون قام الدلیل القاطع علی اعتبارها وحجّیّتها ، فلم یکن العمل بها عملا بالظنّ ، بل یکون – بالأخیر – عملا بالعلم.
وعلیه ، فنحن نقول معه : «إنّه لا بدّ فی الأحکام الشرعیّه من طریق یوصل إلی العلم بها ؛ لأنّه متی لم نعلم الحکم ونقطع بالعلم علی أنّه مصلحه جوّزنا کونه مفسده» (2) ، و [لکن] خبر الواحد الثقه المأمون لمّا ثبت اعتباره فهو طریق یوصل إلی العلم بالأحکام ، ونقطع بالعلم – علی حدّ تعبیره – علی أنّه مصلحه لا نجوّز کونه مفسده.
ویؤیّد أیضا دعوی الشیخ للإجماع قرائن کثیره ، ذکر جمله منها الشیخ الأنصاریّ
[شماره صفحه واقعی : 445]
ص: 946
فی «الرسائل» :
منها : ما ادّعاه الکشّی (1) من إجماع العصابه علی تصحیح ما یصحّ عن جماعه ؛ فإنّه من المعلوم أنّ معنی التصحیح المجمع علیه هو عدّ خبره صحیحا ، بمعنی عملهم به ، لا القطع بصدوره ؛ إذ الإجماع وقع علی التصحیح لا علی الصّحه.
ومنها : دعوی النجاشیّ (2) أنّ مراسیل ابن أبی عمیر مقبوله عند الأصحاب. وهذه العباره من النجاشیّ تدلّ دلاله صریحه علی عمل الأصحاب بمراسیل مثل ابن أبی عمیر ، لا من أجل القطع بالصدور ، بل لعلمهم أنّه لا یروی ولا یرسل إلاّ عن ثقه. إلی غیر ذلک من القرائن التی ذکرها الشیخ الأنصاریّ من هذا القبیل. (3)
وعلیک بمراجعه الرسائل فی هذا الموضوع ، فقد استوفت البحث أحسن استیفاء ، وأجاد فیها الشیخ فیما أفاد ، وألمّ (4) بالموضوع من جمیع أطرافه ، کعادته فی جمیع أبحاثه. وقد ختم البحث بقوله السدید : «والإنصاف أنّه لم یحصل فی مسأله – یدّعی فیها الإجماع من الإجماعات المنقوله ، والشهره العظیمه ، والأمارات الکثیره الدالّه علی العمل – ما حصل فی هذه المسأله ، فالشاکّ فی تحقّق الإجماع فی هذه المسأله لا أراه یحصل له الإجماع فی مسأله من المسائل الفقهیّه ، اللهمّ إلاّ فی ضروریّات المذهب».
وأضاف «لکنّ الإنصاف أنّ المتیقّن من هذا کلّه الخبر المفید للاطمئنان ، لا مطلق الظنّ» (5). ونحن له من المؤیّدین. جزاه الله خیر ما یجزی العلماء العاملین.
د. دلیل حجّیّه خبر الواحد من بناء العقلاء
إنّه من المعلوم قطعا – الذی لا یعتریه الریب – استقرار بناء العقلاء طرّا ، واتّفاق سیرتهم العملیّه – علی اختلاف مشاربهم وأذواقهم – علی الأخذ بخبر من یثقون بقوله ویطمئنّون
[شماره صفحه واقعی : 446]
ص: 947
إلی صدقه ویأمنون کذبه ، وعلی اعتمادهم فی تبلیغ مقاصدهم علی الثقات. وهذه السیره العملیّه جاریه حتی فی الأوامر الصادره من ملوکهم ، وحکّامهم ، وذوی الأمر منهم.
وسرّ هذه السیره أنّ الاحتمالات الضعیفه المقابله ملغاه بنظرهم لا یعتنون بها ، فلا یلتفتون إلی احتمال تعمّد الکذب من الثقه ، کما لا یلتفتون إلی احتمال خطئه ، واشتباهه ، أو غفلته.
وکذلک أخذهم بظواهر الکلام وظواهر الأفعال ؛ فإنّ بناءهم العملیّ علی إلغاء الاحتمالات الضعیفه المقابله. وذلک من کلّ ملّه ونحله. (1)
وعلی هذه السیره العملیّه قامت معایش الناس ، وانتظمت حیاه البشر ، ولولاها لاختلّ نظامهم الاجتماعیّ ، ولسادهم (2) الاضطراب ؛ لقلّه ما یوجب العلم القطعیّ من الأخبار المتعارفه ، سندا ومتنا.
والمسلمون بالخصوص – کسائر الناس – جرت سیرتهم العملیّه علی مثل ذلک فی استفاده الأحکام الشرعیّه من القدیم إلی یومنا هذا ؛ لأنّهم متّحدو المسلک والطریقه مع سائر البشر ، کما جرت سیرتهم بما هم عقلاء علی ذلک فی غیر الأحکام الشرعیّه. ألا تری هل کان یتوقّف المسلمون فی أخذ أحکامهم الدینیّه من أصحاب النبیّ صلی الله علیه و آله أو من أصحاب الأئمّه علیهم السلام الموثوقین عندهم؟ وهل تری یتوقّف المقلّدون الیوم وقبل الیوم فی العمل بما یخبرهم الثقات عن رأی المجتهد الذی یرجعون إلیه؟ وهل تری تتوقّف الزوجه فی العمل بما یحکیه لها زوجها – الذی تطمئنّ إلی خبره – عن رأی المجتهد فی المسائل التی تخصّها ، کالحیض مثلا؟
وإذا ثبتت سیره العقلاء من الناس بما فیهم المسلمون علی الأخذ بخبر الواحد الثقه – فإنّ الشارع المقدّس متّحد المسلک معهم ؛ لأنّه منهم ، بل هو رئیسهم – فلا بدّ أن نعلم بأنّه (3) متّخذ لهذه الطریقه العقلائیّه ، کسائر الناس ما دام أنّه لم یثبت لنا أنّ له فی تبلیغ الأحکام
[شماره صفحه واقعی : 447]
ص: 948
طریقا خاصّا مخترعا منه غیر طریق العقلاء ، ولو کان له طریق خاصّ قد اخترعه غیر مسلک العقلاء لأذاعه (1) وبیّنه للناس ، ولظهر واشتهر ، ولما جرت سیره المسلمین علی طبق سیره باقی البشر.
وهذا الدلیل قطعیّ لا یداخله الشکّ ؛ لأنّه مرکّب من مقدّمتین قطعیّتین :
1 – ثبوت بناء العقلاء علی الاعتماد علی خبر الثقه والأخذ به.
2 – کشف هذا البناء منهم عن موافقه الشارع لهم واشتراکه معهم ؛ لأنّه متّحد المسلک معهم.
قال شیخنا النائینیّ قدس سره – کما فی تقریرات تلمیذه الکاظمیّ قدس سره – : «وأمّا طریقه العقلاء فهی عمده أدلّه الباب ، بحیث لو فرض أنّه کان سبیل إلی المناقشه فی بقیه الأدلّه ، فلا سبیل إلی المناقشه فی الطریقه العقلائیّه القائمه علی الاعتماد علی خبر الثقه والاتّکال علیه فی محاوراتهم». (2)
وأقصی ما قیل (3) فی الشکّ فی هذا الاستدلال هو : أنّ الشارع لئن کان متّحد المسلک مع العقلاء فإنّما یستکشف موافقته لهم ، ورضاه بطریقتهم ، إذا لم یثبت الردع منه عنها. (4) وتکفی فی الردع الآیات الناهیه عن اتّباع الظنّ وما وراء العلم التی ذکرناها سابقا فی البحث السادس من المقدّمه ؛ (5) ؛ لأنّها بعمومها تشمل خبر الواحد غیر المفید للعلم.
وقد عالجنا هذا الأمر فیما یتعلّق بشمول هذه الآیات الناهیه للاستصحاب فی الجزء
[شماره صفحه واقعی : 448]
ص: 949
الرابع (مبحث الاستصحاب) (1) فقلنا : إنّ هذه الآیات غیر صالحه للردع عن الاستصحاب الذی جرت سیره العقلاء علی الأخذ به ؛ لأنّ المقصود من النهی عن اتّباع غیر العلم النهی عنه إذ یراد به إثبات الواقع ، کقوله (تعالی) : (إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً) (2) ، بینما أنّه لیس المقصود من الاستصحاب إثبات الواقع والحقّ ، بل هو أصل وقاعده عملیّه یرجع إلیها فی مقام العمل عند الشکّ فی الواقع والحقّ. فیخرج الاستصحاب عن عموم هذه الآیات موضوعا.
وهذا العلاج – طبعا – لا یجری فی مثل خبر الواحد ؛ لأنّ المقصود به کسائر الأمارات الأخری إثبات الواقع وتحصیل الحقّ.
ولکن مع ذلک نقول : إنّ خبر الواحد خارج عن عموم هذه الآیات تخصّصا ، کالظواهر التی حجّیّتها أیضا مستنده إلی بناء العقلاء علی ما سیأتی (3).
وذلک بأن یقال – حسبما أفاده أستاذنا المحقّق الاصفهانیّ قدس سره فی حاشیته علی الکفایه – : «إنّ لسان النهی عن اتّباع الظنّ ، وأنّه لا یغنی من الحقّ شیئا لیس لسان التعبّد بأمر علی خلاف الطریقه العقلائیّه ، بل من باب إیکال الأمر إلی عقل المکلّف من جهه أنّ الظنّ بما هو ظنّ لا مسوّغ للاعتماد علیه والرکون إلیه ، فلا نظر [فی الآیات الناهیه] إلی ما استقرّت علیه سیره العقلاء بما هم عقلاء علی اتّباعه من حیث کونه خبر الثقه. ولذا کان الرواه یسألون عن وثاقه الراوی للفراغ عن لزوم اتّباع روایته بعد فرض وثاقته». (4)
أو یقال – حسبما أفاده شیخنا النائینیّ قدس سره علی ما فی تقریرات الکاظمی قدس سره – : «إنّ الآیات الناهیه عن العمل بالظنّ لا تشمل خبر الثقه [حتی یتوهّم أنّها تکفی للردع عن الطریقه العقلائیه] (5) ؛ لأنّ العمل بخبر الثقه فی طریقه العقلاء لیس من العمل بما وراء العلم ، بل هو من أفراد العمل بالعلم ؛ لعدم التفات العقلاء إلی مخالفه الخبر للواقع ؛ لما قد جرت علی ذلک
[شماره صفحه واقعی : 449]
ص: 950
طباعهم واستقرّت علیه عادتهم ، فهو خارج عن العمل بالظنّ موضوعا. فلا تصلح أن تکون الآیات الناهیه عن العمل بما وراء العلم أن تکون رادعه عن العمل بخبر الثقه ، بل الردع یحتاج إلی قیام الدلیل علیه بالخصوص». (1)
وعلی کلّ حال ، لو کانت هذه الآیات صالحه للردع عن مثل خبر الواحد والظواهر التی جرت سیره العقلاء علی العمل بها ، ومنهم : المسلمون ، لعرف ذلک بین المسلمین ، وانکشف لهم ، ولما أطبقوا علی العمل بها ، و [لما] جرت سیرتهم علیه.
فهذا دلیل قطعیّ علی عدم صلاحیه هذه الآیات للردع عن العمل بخبر الواحد ، فلا نطیل بذکر الدور الذی أشکلوا به فی المقام ، والجواب عنه. وإن شئت الاطّلاع فراجع الرسائل (2) وکفایه الأصول. (3)
تمرینات «55»
1. ما هو الخبر المتواتر ، وخبر الواحد؟
2. اذکر الأقوال فی حجّیّه خبر الواحد.
3. اذکر إشکال الخصم علی الاستدلال بالآیات علی حجّیّه خبر الواحد. واذکر الجواب عنه.
4. بیّن تقریب الاستدلال بآیه النبأ علی حجّیّه خبر الواحد.
5. بیّن تقریب الاستدلال بآیه النفر علی حجّیّه خبر الواحد.
6. هل یتمّ الاستدلال بآیه حرمه الکتمان علی حجّیّه خبر الواحد؟ ما وجه الاستدلال بها؟ وما وجه عدم تمامیّته؟
7. لم لا یصحّ الاستدلال علی حجّیّه خبر الواحد بنفس خبر الواحد؟
8. اذکر طائفتین من الروایات الداله علی حجیّه خبر الواحد. واذکر تقریب الاستدلال بها.
9. بیّن تقریب الاستدلال بالإجماع علی حجّیّه خبر الواحد ، مع أنّه قد یدّعی الإجماع علی عدم حجّیّته.
10. بیّن تقریب الاستدلال ببناء العقلاء علی حجّیّه خبر الواحد.
11. اذکر ما قیل فی الإیراد علی الاستدلال ببناء العقلاء ، واذکر جواب المحقّقین الأصفهانیّ ، والنائینی عنه.
[شماره صفحه واقعی : 450]
ص: 951
الباب الثالث : الإجماع
تمهید
الإجماع أحد معانیه فی اللغه : «الاتّفاق». والمراد منه فی الاصطلاح : «اتّفاق خاصّ» ، وهو إمّا اتّفاق الفقهاء من المسلمین علی حکم شرعیّ ، (1) ، أو اتّفاق أهل الحلّ والعقد من المسلمین علی الحکم ، (2) ، أو اتّفاق أمّه محمّد صلی الله علیه و آله علی الحکم ، (3) علی اختلاف التعریفات عندهم.
ومهما اختلفت هذه التعبیرات فإنّها – علی ما یظهر – ترمی إلی معنی جامع بینها ، وهو اتّفاق جماعه لاتّفاقهم (4) شأن فی إثبات الحکم الشرعیّ. ولذا استثنوا من المسلمین سواد الناس (5) وعوامّهم ؛ لأنّهم لا شأن لآرائهم فی استکشاف الحکم الشرعیّ ، وإنّما هم تبع للعلماء ولأهل الحلّ والعقد.
وعلی کلّ حال ، فإنّ هذا الإجماع بما له من هذا المعنی قد جعله الأصولیّون من أهل السنّه أحد الأدلّه الأربعه (6) ، أو الثلاثه (7) علی الحکم الشرعیّ ، فی مقابل الکتاب والسنّه.
[شماره صفحه واقعی : 451]
ص: 952
أمّا : الإمامیّه فقد جعلوه أیضا أحد الأدلّه علی الحکم الشرعیّ ، ولکن من ناحیه شکلیّه واسمیّه فقط ؛ مجاراه (1) للنهج الدراسیّ فی أصول الفقه عند السنّیّین ، أی إنّهم لا یعتبرونه دلیلا مستقلاّ فی مقابل الکتاب والسنّه ، بل إنّما یعتبرونه إذا کان کاشفا عن السنّه ، أی عن قول المعصوم ؛ فالحجّیّه والعصمه لیستا للإجماع ، بل الحجّه فی الحقیقه هو قول المعصوم الذی یکشف عنه الإجماع عند ما تکون له أهلیّه هذا الکشف.
ولذا توسّع الإمامیّه فی إطلاق کلمه «الإجماع» علی اتّفاق جماعه قلیله لا یسمّی اتّفاقهم فی الاصطلاح إجماعا ، باعتبار أنّ اتّفاقهم یکشف کشفا قطعیّا عن قول المعصوم ، فیکون له حکم الإجماع ، بینما لا یعتبرون الإجماع الذی لا یکشف عن قول المعصوم وإن سمّی إجماعا بالاصطلاح. وهذه نقطه خلاف جوهریّه فی الإجماع ینبغی أن نجلّیها ، ونلتمس الحقّ فیها ، فإنّ لها کلّ الأثر فی تقییم الإجماع من جهه حجّیّته.
ولأجل أن نتوصّل إلی الغرض المقصود لا بدّ من توجیه بعض الأسئله لأنفسنا لنلتمس الجواب علیها :
أوّلا : من أین انبثق (2) للأصولیّین القول بالإجماع ، فجعلوه حجّه ودلیلا مستقلاّ علی الحکم الشرعیّ فی مقابل الکتاب والسنّه؟
ثانیا : هل المعتبر عند من یقول بالإجماع اتّفاق جمیع الأمّه ، أو اتّفاق جمیع العلماء فی عصر من العصور ، أو بعض منهم یعتدّ به؟ ومن هم الذین یعتدّ بأقوالهم؟
أمّا السؤال الأوّل
فإنّ الذی یثیره (3) فی النفس ویجعلها فی موضع الشکّ فیه أنّ إجماع الناس جمیعا علی
[شماره صفحه واقعی : 452]
ص: 953
شیء ، أو إجماع أمّه من الأمم بما هو إجماع واتّفاق لا قیمه علمیّه له فی استکشاف حکم الله (تعالی) ؛ لأنّه لا ملازمه بینه وبین حکم الله (تعالی) ، فالعلم به لا یستلزم العلم بحکم الله (تعالی) بأیّ وجه من وجوه الملازمه.
نعم ، الشیء الذی یجب ألاّ یفوتنا التنبیه علیه فی الباب أنّا قد قلنا فیما سبق فی الجزء الثانی (1) وسیأتی : (2) إنّ تطابق آراء العقلاء بما هم عقلاء فی القضایا المشهوره العملیّه التی نسمّیها «الآراء المحموده» ، والتی تتعلّق بحفظ النظام والنوع ، یستکشف به الحکم الشرعیّ ؛ لأنّ الشارع من العقلاء ، بل رئیسهم ، وهو خالق العقل ، فلا بدّ أن یحکم بحکمهم.
ولکن هذا التطابق لیس من نوع الإجماع المقصود ، بل هو نفس الدلیل العقلیّ الذی نقول بحجّیّته فی مقابل الکتاب ، والسنّه ، والإجماع. وهو من باب التحسین والتقبیح العقلیّین الذی (3) ینکره هؤلاء الذاهبون إلی حجّیّه الإجماع.
أمّا : إجماع الناس – الذی لا یدخل فی تطابق آراء العقلاء بما هم عقلاء – فلا سبیل إلی اتّخاذه دلیلا علی الحکم الشرعیّ ؛ لأنّ اتّفاقهم قد یکون بدافع العاده ، أو العقیده ، أو الانفعال النفسیّ ، أو الشبهه ، أو نحو ذلک. وکلّ هذه الدوافع من خصائص البشر ، لا یشارکهم الشارع فیها ؛ لتنزّهه عنها. فإذا حکموا بشیء بأحد هذه الدوافع لا یجب أن یحکم الشارع بحکمهم ، فلا یستکشف من اتّفاقهم علی حکم – بما هو اتّفاق – أنّ هذا الحکم واقعا هو حکم الشارع.
ولو أنّ إجماع الناس بما هو إجماع – کیفما کان وبأیّ دافع کان – هو حجّه ودلیل لوجب أن یکون إجماع الأمم الأخری غیر المسلمه أیضا حجّه ودلیلا. ولا یقول بذلک واحد ممّن یری حجّیّه الإجماع.
إذن ، کیف اتّخذ الأصولیّون إجماع المسلمین بالخصوص حجّه؟! وما الدلیل لهم علی ذلک؟
[شماره صفحه واقعی : 453]
ص: 954
وللجواب عن هذا السؤال علینا أن نرجع القهقری إلی أوّل إجماع اتّخذ دلیلا فی تأریخ المسلمین. إنّه الإجماع المدّعی علی بیعه أبی بکر ؛ خلیفه للمسلمین ، فإنّه إذا وقعت البیعه له – والمفروض أنّه لا سند لها (1) من طریق النصّ القرآنیّ ، والسنّه النبویّه – اضطرّوا إلی تصحیح شرعیّتها من طریق الإجماع ، فقالوا :
أوّلا : إنّ المسلمین من أهل المدینه أو أهل الحلّ والعقد منهم أجمعوا علی بیعته. (2)
وثانیا : إنّ الإمامه من الفروع لا من الأصول. (3)
وثالثا : إنّ الإجماع حجّه فی مقابل الکتاب والسنّه ، أی إنّه دلیل ثالث ، غیر الکتاب والسنّه. (4)
ثمّ منه توسّعوا ، فاعتبروه دلیلا فی جمیع المسائل الشرعیّه الفرعیّه. وسلکوا لإثبات حجّیّته ثلاثه مسالک : الکتاب ، والسنّه ، والعقل.
ومن الطبیعی ألاّ یجعلوا الإجماع من مسالکه ؛ لأنّه یؤدّی إلی إثبات الشیء بنفسه ، وهو دور باطل.
أمّا مسلک الکتاب : فآیات استدلّوا بها [وهی] لا تنهض دلیلا علی مقصودهم. وأولاها بالذکر آیه سبیل المؤمنین ، وهی قوله (تعالی) : (وَمَنْ یُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَیَّنَ لَهُ الْهُدی وَیَتَّبِعْ غَیْرَ سَبِیلِ الْمُؤْمِنِینَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّی وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِیراً) (5). فإنّها توجب اتّباع سبیل المؤمنین ، فإذا أجمع المؤمنون علی حکم فهو سبیلهم ، فیجب اتّباعه. وبهذه الآیه تمسّک الشافعیّ علی ما نقل عنه. (6)
ویکفینا فی ردّ الاستدلال بها ما استظهره الشیخ الغزالیّ منها ؛ إذ قال : «الظاهر أنّ المراد
[شماره صفحه واقعی : 454]
ص: 955
بها أنّ من یقاتل الرسول ویشاقّه ویتّبع غیر سبیل المؤمنین فی مشایعته ونصرته ودفع الأعداء عنه نولّه ما تولّی ؛ فکأنّه لم یکتف بترک المشاقّه حتی تنضمّ إلیه متابعه سبیل المؤمنین فی نصرته ، والذبّ عنه ، والانقیاد له فیما یأمر وینهی». ثمّ قال : «وهذا هو الظاهر السابق إلی الفهم». (1)
وهو کذلک کما استظهره.
أمّا : الآیات الأخری فقد اعترف الغزالیّ (2) کغیره (3) بعدم ظهورها فی حجّیّه الإجماع ، فلا نطیل بذکرها ، ومناقشه الاستدلال بها.
وأمّا مسلک السنّه : فهی أحادیث رووها بما یؤدّی مضمون الحدیث «لا تجتمع أمّتی علی الخطأ» (4) ، وقد ادّعوا تواترها معنی ، فاستنبطوا منه عصمه الأمّه الإسلامیّه من الخطأ والضلاله ، (5) ، فیکون إجماعها کقول المعصوم حجّه ومصدرا مستقلاّ لمعرفه حکم الله (تعالی).
وهذه الأحادیث (6) – علی تقدیر التسلیم بصحّتها ، وأنّها توجب العلم ؛ لتواترها معنی – لا تنفع فی تصحیح دعواهم ؛ لأنّ المفهوم من اجتماع الأمّه کلّ الأمّه ، لا بعضها ، فلا تثبت بهذه الأحادیث عصمه البعض من الأمّه ، بینما أنّ مقصودهم من الإجماع ، إجماع خصوص الفقهاء ، أو أهل الحلّ والعقد فی عصر من العصور ، بل خصوص الفقهاء المعروفین ، بل خصوص المعروفین من فقهاء طائفه خاصّه ، وهی طائفه أهل السنّه ، بل یکتفون باتّفاق جماعه ، ویطمئنّون إلیهم ، کما هو الواقع فی بیعه السقیفه.
فأنّی لنا أن نحصل علی إجماع جمیع الأمّه بجمیع طوائفها وأشخاصها فی جمیع
[شماره صفحه واقعی : 455]
ص: 956
العصور إلاّ فی ضروریّات الدین ، مثل وجوب الصلاه ، والزکاه ، ونحوهما. وهذه ضروریّات الدین لیست من نوع الإجماع المبحوث عنه. ولا نحتاج فی إثبات الحکم بها إلی القول بحجّیّه الإجماع.
وأمّا مسلک العقل الذی عبّر عنه بعضهم (1) بالطریق المعنویّ – : فغایه ما یقال فی توجیهه أنّ الصحابه إذا قضوا بقضیّه ، وزعموا أنّهم قاطعون بها فلا یقطعون بها إلاّ عن مستند قاطع ، وإذا کثروا کثره تنتهی إلی حدّ التواتر فالعاده تحیل علیهم قصد الکذب ، وتحیل علیهم الغلط. فقطعهم فی غیر محلّ القطع محال فی العاده. والتابعون وتابعو التابعین إذا قطعوا بما قطع به الصحابه ، فیستحیل فی العاده أن یشذّ عن جمیعهم الحقّ مع کثرتهم. (2)
ومثل هذا الدلیل یصحّ أن یناقش فیه بأنّ إجماعهم هذا إن کان یعلم بسببه قول المعصوم فلا شکّ فی أنّ هذا علم قطعیّ بالحکم الواقعیّ ، فیکون حجّه ؛ لأنّه قطع بالسنّه ، ولا کلام لأحد فیه ؛ لأنّ هذا الإجماع یکون من طرق إثبات السنّه.
وأمّا : إذا لم یعلم بسببه قول المعصوم – کما هو المقصود من فرض الإجماع حجّه مستقلّه ، ودلیلا فی مقابل الکتاب والسنّه – فإنّ قطع المجمعین – مهما کانوا – لئن کان یستحیل فی العاده قصدهم الکذب فی ادّعاء القطع ، کما فی الخبر المتواتر ، فإنّه لا یستحیل فی حقّهم الغفله ، أو الاشتباه ، أو الغلط ، کما لا یستحیل أن یکون إجماعهم بدافع العاده ، أو العقیده ، أو أیّ دافع من الدوافع الأخری التی أشرنا إلیها سابقا.
ولأجل ذلک اشترطنا فی التواتر الموجب للعلم ألاّ یتطرّق إلیه احتمال خطأ المخبرین فی فهم الحادثه ، واشتباههم ، کما شرحناه فی کتاب المنطق. (3)
ولا عجب فی تطرّق احتمال الخطأ فی اتّفاق الناس علی رأی ، بل تطرّق الاحتمال إلی ذلک أکثر من تطرّقه إلی الاتّفاق فی النقل ؛ لأنّ أسباب الاشتباه والغلط فیه أکثر.
ثمّ إنّ هذا الطریق العقلیّ أو المعنویّ لو تمّ فأیّ شیء یخصّصه بخصوص الصحابه ،
[شماره صفحه واقعی : 456]
ص: 957
أو المسلمین ، أو علماء طائفه خاصّه ، من دون باقی الناس ، وسائر الأمم؟ إلاّ إذا ثبت من دلیل آخر اختصاص المسلمین ، أو بعض منهم بمزیّه خاصّه لیست للأمم الأخری ، وهی العصمه من الخطأ. فإذن ، – علی هذا التقدیر – لا یکون الدلیل علی الإجماع إلاّ هذا الدلیل الذی یثبت العصمه للأمّه المسلمه ، أو بعضها ، لا الطریق العقلی المدّعی. وهذا رجوع إلی المسلک الأوّل والثانی ، ولیس هو مسلکا مستقلاّ عنهما.
وبالختام نقول : إذا کانت هذه المسالک الثلاثه لم تتمّ لنا أدلّه علی حجّیّه الإجماع من أصله من جهه أنّه إجماع فلا یظهر للإجماع قیمه من ناحیه کونه حجّه ، ومصدرا للتشریع الإسلامیّ مهما بالغ الناس فی الاعتماد علیه. وإنّما یصحّ الاعتماد علیه إذا کشف لنا عن قول المعصوم ، فیکون حینئذ کالخبر المتواتر الذی تثبت به السنّه. وسیأتی البحث عن ذلک. (1)
و أمّا السؤال الثانی
فالذی یثیره أنّ ظاهر تلک المسالک الثلاثه المتقدّمه یقضی بأنّ الحجّه إنّما هو إجماع الأمّه کلّها ، أو جمیع المؤمنین بدون استثناء ، فمتی ما شذّ واحد منهم – أیّ [مخالف] کان – فلا یتحقّق الإجماع الذی قام الدلیل علی حجّیّته ؛ فإنّه مع وجود المخالف – وإن کان واحدا – لا یحصل القطع بحجّیّه إجماع من عداه مهما کان شأنهم ؛ لأنّ العصمه – علی تقدیر ثبوتها بالأدلّه المتقدّمه – إنّما ثبتت لجمیع الأمّه ، لا لبعضها.
ولکن ما توقّعوه من ذهابهم إلی حجّیّه الإجماع – وهو إثبات شرعیّه بیعه أبی بکر – لم یحصل لهم ؛ لأنّه قد ثبتت من طریق التواتر مخالفه علیّ علیه السلام وجماعه کبیره من بنی هاشم وباقی المسلمین ، ولئن التجأ أکثرهم بعد ذلک إلی البیعه ، فإنّه بقی منهم من لم یبایع حتی مات ، مثل سعد بن عباده (قتیل الجنّ!).
ولأجل هذه المفارقه بین أدلّه الإجماع وواقعه الذی أرادوا تصحیحه کثرت الأقوال
[شماره صفحه واقعی : 457]
ص: 958
فی هذا الباب لتوجیهها (1) ، فقال مالک – علی ما نسب إلیه (2) – : «إنّ الحجّه هو إجماع أهل المدینه فقط». وقال قوم : «الحجّه إجماع أهل الحرمین : مکّه ، والمدینه. والمصرین : الکوفه ، والبصره (3)». وقال قوم : «المعتبر إجماع أهل الحلّ والعقد (4)». وقال بعض : «المعتبر إجماع الفقهاء الأصولیّین خاصّه (5)». وقال بعض : «الاعتبار بإجماع أکثر المسلمین (6)». واشترط بعض فی المجمعین أن یحقّقوا عدد التواتر. (7) وقال آخرون : «الاعتبار بإجماع الصحابه فقط دون غیرهم ممّن جاءوا بعد عصرهم» ، کما نسب ذلک إلی داود (8) وشیعته (9). إلی غیر ذلک من الأقوال التی یطول ذکرها ، المنقوله فی جمله من کتب الأصول. (10)
وکلّ هذه الأقوال تحکّمات ، لا سند لها ولا دلیل ، ولا ترفع الغائله من تلک المفارقه الصارخه. والذی دفع أولئک القائلین بتلک المقالات أمور وقعت فی تأریخ بیعه الخلفاء ، یطول شرحها ، أرادوا تصحیحها بالإجماع.
هذه هی الجذور العمیقه للمسأله التی أوقعت القائلین بحجّیّه الإجماع فی حیص بیص لتصحیحه وتوجیهه ، وإلاّ فتلک المسالک الثلاثه – إن سلّمت – لا تدلّ علی أکثر من حجّیّه
[شماره صفحه واقعی : 458]
ص: 959
إجماع الکلّ بدون استثناء ، فتخصیص حجّیّته ببعض الأمّه دون بعض بلا مخصّص. نعم ، المخصّص هو الرغبه فی إصلاح أصل المذهب ، والمحافظه علیه علی کلّ حال.
الإجماع عند الإمامیّه
اشاره
إنّ الإجماع بما هو إجماع لا قیمه علمیّه له عند الإمامیّه ما لم یکشف عن قول المعصوم ، کما تقدّم وجهه (1). فإذا کشف علی نحو القطع عن قوله فالحجّه فی الحقیقه هو المنکشف لا الکاشف ، فیدخل حینئذ فی السنّه ، ولا یکون دلیلا مستقلاّ فی مقابلها.
وقد تقدّم أنّه لم تثبت عندنا عصمه الأمّه عن الخطأ ، (2) وإنّما أقصی ما یثبت عندنا من اتّفاق الأمّه أنّه یکشف عن رأی من له العصمه ، فالعصمه فی المنکشف لا فی الکاشف.
وعلی هذا ، فیکون الإجماع منزلته منزله الخبر المتواتر ، الکاشف بنحو القطع عن قول المعصوم ، فکما أنّ الخبر المتواتر لیس بنفسه دلیلا علی الحکم الشرعیّ رأسا ، بل هو دلیل علی الدلیل (3) علی الحکم ، فکذلک الإجماع لیس بنفسه دلیلا ، بل هو دلیل علی الدلیل.
غایه الأمر أنّ هناک فرقا بین الإجماع والخبر المتواتر : إنّ الخبر دلیل لفظیّ علی قول المعصوم ، أی إنّه یثبت به نفس کلام المعصوم ولفظه فیما إذا کان التواتر للّفظ.
أمّا : الإجماع فهو دلیل قطعیّ علی نفس رأی المعصوم ، لا علی لفظ خاصّ له ؛ لأنّه لا یثبت به – فی أیّ حال – أنّ المعصوم قد تلفّظ بلفظ خاصّ معیّن فی بیانه للحکم ؛ ولأجل هذا یسمّی الإجماع ب- «الدلیل اللبّیّ» ، نظیر الدلیل العقلیّ. یعنی : أنّه یثبت بهما نفس المعنی والمضمون من الحکم الشرعیّ الذی هو کاللبّ بالنسبه إلی اللفظ الحاکی عنه الذی هو کالقشر له.
والثمره بین الدلیل اللفظیّ واللبّیّ تظهر فی المخصّص إذا کان لبّیّا أو لفظیّا ، علی ما ذکره الشیخ الأنصاریّ – کما تقدّم – (4) لذهابه إلی جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهه
[شماره صفحه واقعی : 459]
ص: 960
المصداقیّه ، إذا کان المخصّص لبّیّا ، دون ما إذا کان لفظیا. (1)
وإذا کان الإجماع حجّه من جهه کشفه عن قول المعصوم فلا یجب فیه اتّفاق الجمیع بغیر استثناء ، کما هو مصطلح أهل السنّه علی مبناهم ، بل یکفی اتّفاق کلّ من یستکشف من اتّفاقهم قول المعصوم ، کثروا أم قلّوا ، إذا کان العلم باتّفاقهم یستلزم العلم بقول المعصوم ، کما صرّح بذلک جماعه من علمائنا.
قال المحقّق فی «المعتبر» – بعد أن أناط حجّیّه الإجماع بدخول المعصوم – : «فلو خلا المائه من فقهائنا من قوله لما کان حجّه ، ولو حصل فی اثنین کان قولهما حجّه» (2).
وقال السیّد المرتضی – علی ما نقل عنه – : «إذا کان علّه کون الإجماع حجّه کون الإمام فیهم فکلّ جماعه – کثرت أو قلّت – کان الإمام فی أقوالها فإجماعها حجّه». (3)
إلی غیر ذلک من التصریحات المنقوله عن جماعه کثیره من علمائنا. (4) ولکن سیأتی أنّه علی بعض المسالک فی الإجماع لا بدّ من إحراز اتّفاق الجمیع. (5)
وعلی هذا ، فیکون تسمیه اتّفاق جماعه من علماء الإمامیّه بالإجماع مسامحه ظاهره ؛ فإنّ الإجماع حقیقه عرفیّه فی اتّفاق جمیع العلماء من المسلمین علی حکم شرعیّ. ولا یلزم من کون مثل اتّفاق الجماعه القلیله حجّه أن یصحّ تسمیتها بالإجماع. ولکن قد شاع هذا التسامح فی لسان الخاصّه من علماء الإمامیّه علی وجه أصبح لهم اصطلاح آخر فیه ، فیراد من الإجماع عندهم کلّ اتّفاق یستکشف منه قول المعصوم ، سواء کان اتّفاق الجمیع أو البعض ، فیعمّ القسمین.
والخلاصه [أنّ] التی نرید أن ننصّ علیها ، وتعنینا من البحث أنّ الإجماع إنّما یکون حجّه إذا علم بسببه – علی سبیل القطع – قول المعصوم ، فما لم یحصل العلم بقوله – وإن
[شماره صفحه واقعی : 460]
ص: 961
حصل الظنّ منه – فلا قیمه له عندنا ، ولا دلیل علی حجّیّه مثله.
أمّا : کیف یستکشف من الإجماع علی سبیل القطع قول المعصوم؟ فهذا ما ینبغی البحث عنه. وقد ذکروا لذلک طرائق ، أنهاها المحقّق الشیخ أسد الله التستریّ فی رسالته فی المواسعه والمضایقه – علی ما نقل عنه (1) – إلی اثنتی عشره طریقه. ونحن نکتفی بذکر الطرائق المعروفه ، وهی ثلاث ، بل أربع :
1. طریقه الحسّ
وبها یسمّی الإجماع «الإجماع الدخولیّ» ، وتسمّی «الطریقه التضمّنیّه». وهی الطریقه المعروفه عند قدماء الأصحاب التی اختارها السیّد المرتضی (2) وجماعه سلکوا مسلکه (3).
وحاصلها : أن یعلم بدخول الإمام فی ضمن المجمعین علی سبیل القطع ، من دون أن یعرف بشخصه من بینهم.
وهذه الطریقه إنّما تتصوّر إذا استقصی الشخص المحصّل للإجماع بنفسه وتتبّع أقوال العلماء فعرف اتّفاقهم ، ووجد من بینها أقوالا متمیّزه معلومه لأشخاص مجهولین ، حتی حصل له العلم بأنّ الإمام من جمله أولئک المتّفقین ؛ أو یتواتر لدیهم النقل عن أهل بلد أو عصر فعلم أنّ الإمام کان من جملتهم ، ولم یعلم قوله بعینه من بینهم ، فیکون من نوع الإجماع المنقول بالتواتر.
ومن الواضح أنّ هذه الطریقه لا تتحقّق غالبا إلاّ لمن کان موجودا فی عصر الإمام. أمّا : بالنسبه إلی العصور المتأخّره فبعیده التحقّق ، لا سیّما فی الصوره الأولی ، وهی السماع من نفس الإمام.
وقد ذکروا أنّه لا یضرّ فی حجّیّه الإجماع – علی هذه الطریقه – مخالفه معلوم النسب ، وإن کثروا ممّن یعلم أنّه غیر الإمام ، بخلاف مجهول النسب ، علی وجه یحتمل أنّه الإمام ؛ فإنّه فی هذه الصوره لا یتحقّق العلم بدخول الإمام فی المجمعین.
[شماره صفحه واقعی : 461]
ص: 962
2. طریقه قاعده اللطف
وهی أن یستکشف عقلا رأی المعصوم من اتّفاق من عداه (1) من العلماء الموجودین فی عصره خاصّه ، أو فی العصور المتأخّره ، مع عدم ظهور ردع من قبله لهم بأحد وجوه الردع الممکنه ، خفیّه أو ظاهره ، إمّا بظهوره نفسه ، أو بإظهار من یبیّن الحقّ فی المسأله. فإنّ قاعده اللطف – کما اقتضت نصب الإمام وعصمته – تقتضی أیضا أن یظهر الإمام الحقّ فی المسأله التی یتّفق المفتون فیها علی خلاف الحقّ ، وإلاّ للزم سقوط التکلیف بذلک الحکم ، أو إخلال الإمام بأعظم ما وجب علیه ونصب لأجله ، وهو تبلیغ الأحکام المنزّله.
وهذه الطریقه هی التی اختارها الشیخ الطوسیّ ، ومن تبعه ، (2) بل یری انحصار استکشاف قول الإمام من الإجماع فیها. وربما یستظهر من کلام السیّد المرتضی – المنقول فی «العدّه» (3) عنه فی ردّ هذه الطریقه – کونها معروفه قبل الشیخ أیضا.
ولازم هذه الطریقه عدم قدح المخالفه مطلقا ، سواء کانت من معلوم النسب ، أو مجهوله ، مع العلم بعدم کونه الإمام ، ولم یکن معه برهان یدلّ علی صحّه فتواه.
ولازم هذه الطریقه أیضا عدم کشف الإجماع إذا کان هناک آیه ، أو سنّه قطعیّه علی خلاف المجمعین ، وإن لم یفهموا دلالتها علی الخلاف ؛ إذ یجوز أن یکون الإمام قد اعتمد علیها فی تبلیغ الحقّ.
3. طریقه الحدس
وهی أن یقطع بکون ما اتّفق علیه فقهاء الإمامیّه وصل إلیهم من رئیسهم وإمامهم یدا بید ، فإنّ اتّفاقهم – مع کثره اختلافهم فی أکثر المسائل – یعلم منه أنّ الاتّفاق کان مستندا إلی رأی إمامهم ، لا عن اختراع للرأی من تلقاء أنفسهم اتّباعا للأهواء ؛ أو استقلالا بالفهم. کما یکون ذلک فی اتّفاق أتباع سائر ذوی الآراء والمذاهب ، فإنّه لا نشکّ فیها أنّها مأخوذه من متبوعهم ورئیسهم الذی یرجعون إلیه.
والذی یظهر ، أنّه قد ذهب إلی هذه الطریقه أکثر المتأخّرین. (4) ولازمها أنّ الاتّفاق
[شماره صفحه واقعی : 462]
ص: 963
ینبغی أن یقع فی جمیع العصور من عصر الأئمّه إلی العصر الذی نحن فیه ؛ لأنّ اتّفاق أهل عصر واحد – مع مخالفه من تقدّم – یقدح فی حصول القطع ، بل یقدح فیه مخالفه معلوم النسب ممّن یعتدّ بقوله ، فضلا عن مجهول النسب.
4. طریقه التقریر
وهی أن یتحقّق الإجماع بمرأی ومسمع من المعصوم ، مع إمکان ردعهم ببیان الحقّ لهم ، ولو بإلقاء الخلاف بینهم ، فإنّ اتّفاق الفقهاء علی حکم – والحال هذه – یکشف عن إقرار المعصوم لهم فیما رأوه ، وتقریرهم علی ما ذهبوا إلیه ؛ فیکون ذلک دلیلا علی أنّ ما اتّفقوا علیه هو حکم الله واقعا.
وهذه الطریقه لا تتمّ إلاّ مع إحراز جمیع شروط التقریر التی قد تقدّم الکلام علیها فی مبحث السنّه. (1) ومع إحراز جمیع الشروط لا شکّ فی استکشاف موافقه المعصوم ، بل بیان الحکم من شخص واحد بمرأی ومسمع من المعصوم ، مع إمکان ردعه وسکوته عنه یکون سکوته تقریرا کاشفا عن موافقته. ولکنّ المهمّ أن یثبت لنا أنّ الإجماع فی عصر الغیبه هل یتحقّق فیه إمکان الردع من الإمام ، ولو بإلقاء الخلاف؟ أو هل یجب علی الإمام بیان الحکم الواقعیّ والحال هذه؟ وسیأتی ما ینفع فی المقام. (2)
هذه خلاصه ما قیل من الوجوه المعروفه فی استنتاج قول الإمام من الإجماع. (3)
وقد یحصل للإنسان – المتتبّع لأقوال العلماء ، المحصّل لإجماعهم – بعض الوجوه دون البعض – أی لا یجب فی کلّ إجماع أن یبتنی علی وجه واحد من هذه الوجوه – ؛ وإن کان السیّد المرتضی یری انحصاره فی الطریقه الأولی (الطریقه التضمّنیّه) – أی الإجماع الدخولیّ – ، والشیخ الطوسیّ یری انحصاره (4) فی الطریقه الثانیه (طریقه قاعده اللطف).
وعلی کلّ حال ، فإنّ الإجماع إنّما یکون حجّه إذا کشف کشفا قطعیّا عن قول المعصوم من أیّ سبب کان ، وعلی أیّه طریقه حصل ، فلیس من الضروریّ أن نفرض حصوله من
[شماره صفحه واقعی : 463]
ص: 964
طریقه مخصوصه من هذه الطرائق ، أو نحوها ، بل المناط حصول القطع بقول المعصوم.
والتحقیق أنّه یندر حصول القطع بقول المعصوم من الإجماع المحصّل ندره لا تبقی معها قیمه لأکثر الإجماعات التی نحصّلها ، بل لجمیعها بالنسبه إلی عصور الغیبه. وتفصیل ذلک أن نقول ببرهان السبر والتقسیم : إنّ المجمعین إمّا أن یکون رأیهم – الذی اتّفقوا علیه – بغیر مستند ودلیل ، أو عن مستند ودلیل. لا یصحّ الفرض الأوّل ؛ لأنّ ذلک مستحیل عاده فی حقّهم ، ولو جاز ذلک فی حقّهم فلا تبقی قیمه لآرائهم حتی یستکشف منها الحقّ. فیتعیّن الفرض الثانی ، وهو أن یکون لهم مدرک خفی علینا وظهر لهم.
ومدارک الأحکام منحصره عند الإمامیّه فی أربعه : الکتاب ، والسنّه ، والإجماع ، والدلیل العقلیّ. ولا یصحّ أن یکون مدرکهم ما عدا السنّه من هذه الأربعه.
أمّا الکتاب : فإنّما لا یصحّ أن یکون مدرکهم ؛ فلأجل أنّ القرآن الکریم بین أیدینا مقروء ومفهوم ، فلا یمکن فرض آیه منه خفیت علینا ، وظهرت لهم. ولو فرض أنّهم فهموا من آیه شیئا خفی علینا وجهه فإنّ فهمهم لیس حجّه علینا ، فإجماعهم لو استند إلی ذلک لا یکون موجبا للقطع بالحکم الواقعیّ ، أو موجبا لقیام الحجّه علینا. فلا ینفع مثل هذا الإجماع.
وأمّا الإجماع : فواضح أنّه لا یصحّ أن یکون مدرکا لهم ؛ لأنّ هذا الإجماع – الذی صار مدرکا للإجماع – ننقل الکلام إلیه أیضا ، فنسأل عن مدرکه ، فلا بدّ أن ینتهی إلی غیره من المدارک الأخری.
وأمّا الدلیل العقلیّ : فأوضح ؛ لأنّه لا تتصوّر هناک قضیّه عقلیّه یتوصّل بها إلی حکم شرعیّ کانت مستوره علینا ، وظهرت لهم ؛ ضروره أنّه لا بدّ فی القضیّه العقلیّه – التی یتوصّل بها إلی الحکم الشرعیّ – أن تتطابق علیها آراء جمیع العقلاء ، وإلاّ فلا یصحّ التوصّل بها إلی الحکم الشرعیّ. فلو أنّ المجمعین کانوا قد تمسّکوا بقضیّه عقلیّه لیست بهذه المثابه فلا تبقی قیمه لآرائهم حتی یستکشف منها الحقّ وموافقه الإمام ؛ لأنّهم یکونون کمن لا مدرک لهم.
فانحصر مدرکهم فی جمیع الأحوال فی «السنّه».
[شماره صفحه واقعی : 464]
ص: 965
والاستناد إلی السنّه یتصوّر علی وجهین :
1. أن یسمع المجمعون أو بعضهم الحکم من المعصوم مشافهه ، أو یرون فعله ، أو تقریره. وهذا بالنسبه إلی عصرنا لا سبیل فیه حتی إلی الظنّ به ، فضلا عن القطع ، وإن احتمل إمکان مشافهه بعض الأبدال من العلماء للإمام. بل الحال کذلک ، حتی بالنسبه إلی من هم فی عصر المعصومین ، أی إنّه لا یحصل القطع فیه لنا بمشافهتهم للمعصوم ؛ لاحتمال أنّهم استندوا إلی روایه وثقوا بها ، وإن کان احتمال المشافهه قریبا جدّا ، بل هی مظنونه.
علی أنّه لا مجال – بالنسبه إلینا – لتحصیل إجماع الفقهاء الموجودین فی تلک العصور ؛ إذ لیست آراؤهم مدوّنه ، وکلّ ما دوّنوه هی الأحادیث التی ذکروها فی أصولهم المعروفه بالأصول الأربعمائه.
2. أن یستند المجمعون إلی روایه عن المعصوم. ولا مجال فی هذا الإجماع لإفادته القطع بالحکم ، أو کشفه عن الحجّه الشرعیّه من جهه السند ، والدلاله معا.
أمّا : من جهه السند فلاحتمال أنّ المجمعین کانوا متّفقین علی اعتبار الخبر الموثّق ، أو الحسن ، فمن لا یری حجّیّتهما لا مجال له فی الاستناد إلی مثله. فمن أین یحصل لنا العلم بأنّهم استندوا إلی ما هو حجّه باتّفاق الجمیع؟
وأمّا : من جهه الدلاله فلاحتمال أن یکون ذلک الخبر المفروض – لو فرض أنّه حجّه من جهه السند – لیس نصّا فی الحکم ، ولا ینفع أن یکون ظاهرا عندهم فی الحکم ، فإنّ ظهور دلیل عند قوم لا یستلزم أن یکون ظاهرا لدی کلّ أحد ، وفهم قوم لیس حجّه علی غیرهم. ألا تری أنّ المتقدّمین اشتهر عندهم استفاده النجاسه من أخبار البئر ، واشتهر عند المتأخّرین عکس ذلک ، ابتداء من العلاّمه الحلّی؟ فلعلّ الخبر الذی کان مدرکا لهم لیس ظاهرا عندنا لو اطّلعنا علیه.
إذا عرفت ذلک ظهر لک أنّ الإجماع لا یستلزم القطع بقول المعصوم عدا الإجماع الدخولیّ وهو بالنسبه إلینا غیر عملیّ.
وأمّا : القول بأنّ قاعده اللطف تقتضی أن یکون الإمام موافقا لرأی المجمعین وإن استند المجمعون إلی خبر الواحد الذی ربما لا تثبت لنا حجّیّته من جهه السند أو الدلاله
[شماره صفحه واقعی : 465]
ص: 966
لو اطّلعنا علیه ؛ فإنّنا لم نتحقّق جریان هذه القاعده فی المقام ؛ وفاقا لما ذهب إلیه الشیخ الأعظم الأنصاریّ (1) وغیره ، (2) بالرغم من تعویل الشیخ الطوسیّ وأتباعه علیها ؛ (3) لأنّ السبب الذی یدعو إلی اختفاء الإمام ، واحتجاب نفعه – مع ما فیه (4) من تفویت لأعظم المصالح النوعیّه للبشر – هو نفسه قد یدعو إلی احتجاب حکم الله عند إجماع العلماء علی حکم مخالف للواقع ، لا سیّما إذا کان الإجماع من أهل عصر واحد. ولا یلزم من ذلک إخلال الإمام بالواجب علیه ، وهو تبلیغ الأحکام ؛ لأنّ الاحتجاب لیس من سببه.
وعلی هذا ، فمن أین یحصل لنا القطع بأنّه لا بدّ للإمام من إظهار الحقّ فی حال غیبته عند حصول إجماع مخالف للواقع؟
وللمشکّک أن یزید علی ذلک ، فیقول : لما ذا لا تقتضی هذه القاعده أن یظهر الإمام الحقّ ، حتی فی صوره الخلاف ، لا سیّما أنّ بعض المسائل الخلافیّه قد یقع فیها أکثر الناس فی مخالفه الواقع؟ بل لو أحصینا المسائل الخلافیّه فی الفقه – التی هی الأکثر من مسائله – لوجدنا أنّ کثیرا من الناس لا محاله واقعون فی مخالفه الواقع ، فلما ذا لا یجب علی الإمام هنا تبلیغ الأحکام ، لیقلّ الخلاف ، أو ینعدم ، وبه نجاه المؤمنین من الوقوع فی مخالفه الواقع؟
وإذا جاء الاحتمال لا یبقی مجال لاستلزام الإجماع القطع بقول المعصوم من جهه قاعده اللطف.
وأمّا : مسلک الحدس ، فإنّ عهده دعواه علی مدّعیها ، ولیس من السهل حصول القطع للإنسان فی ذلک ، إلاّ أن یبلغ الاتّفاق درجه یکون الحکم فیه من ضروریّات الدین ، أو المذهب ، أو قریبا من ذلک عند ما یحرز اتّفاق جمیع العلماء فی جمیع العصور بغیر استثناء ، فإنّ مثل هذا الاتّفاق یستلزم عاده موافقته لقول الإمام ، وإن کان مستند المجمعین خبر الواحد ، أو الأصل.
وکذلک یلحق بالحدس مسلک التقریر ونحوه ممّا هو من هذا القبیل.
[شماره صفحه واقعی : 466]
ص: 967
وعلی کلّ حال ، لم تبق لنا ثقه بالإجماع فیما بعد عصر الإمام فی استفاده قول الإمام علی سبیل القطع والیقین.
الإجماع المنقول
إنّ الإجماع – فی الاصطلاح – ینقسم إلی قسمین :
1. الإجماع المحصّل : والمقصود به الإجماع الذی یحصّله الفقیه بنفسه بتتبّع أقوال أهل الفتوی. وهو الذی تقدّم البحث عنه.
2. الإجماع المنقول : والمقصود به الإجماع الذی لم یحصّله الفقیه بنفسه ، وإنّما ینقله له من حصّله من الفقهاء ، سواء کان النقل له بواسطه ، أم بوسائط.
ثمّ النقل تاره یقع علی نحو التواتر ؛ وهذا حکمه حکم المحصّل من جهه الحجّیّه.
وأخری یقع علی نحو خبر الواحد. وإذا أطلق قول «الإجماع المنقول» فی لسان الأصولیین فالمراد منه هذا الأخیر.
وقد وقع الخلاف بینهم فی حجّیّته علی أقوال.
ولکنّ الذی یظهر أنّهم متّفقون علی حجّیّه نقل الإجماع الدخولیّ ، وهو الإجماع الذی یعلم فیه من حال الناقل أنّه تتّبع فتاوی من نقل اتّفاقهم حتی المعصوم ، فیدخل المعصوم فی جمله المجمعین. وینبغی أن یتّفقوا علی ذلک ؛ لأنّه لا یشترط فی حجّیّه خبر الواحد معرفه المعصوم تفصیلا حین سماع الناقل منه ، وهذا الناقل – حسب الفرض – قد نقل عن المعصوم بلا واسطه وإن لم یعرفه بالتفصیل. غیر أنّ الإجماع الدخولیّ ممّا یعلم عدم وقوع نقله ، لا سیّما فی العصور المتأخّره عن عصر الأئمّه ، بل لم یعهد من الناقلین للإجماع من ینقله علی هذا الوجه ویدّعی ذلک.
وعلیه ، فموضع الخلاف منحصر فی حجّیّه الإجماع المنقول ، غیر الإجماع الدخولیّ ، وهو – کما قلنا – علی أقوال :
1. إنّه حجّه مطلقا ؛ لأنّه خبر واحد. (1)
[شماره صفحه واقعی : 467]
ص: 968
2. إنّه لیس بحجّه مطلقا ؛ لأنّه لا یدخل فی أفراد خبر الواحد من جهه کونه حجّه. (1)
3. التفصیل بین نقل إجماع جمیع الفقهاء فی جمیع العصور الذی یعلم فیه من طریق الحدس قول المعصوم ، فیکون حجّه ، وبین غیره من الإجماعات المنقوله التی یستکشف منها بقاعده اللطف أو نحوها قول المعصوم ، فلا یکون حجّه. وإلی هذا التفصیل مال الشیخ الأعظم الأنصاریّ. (2)
وسرّ الخلاف فی المسأله یکمن فی أنّ أدلّه خبر الواحد – من جهه أنّها تدلّ علی وجوب التعبّد بالخبر – لا تشمل کلّ خبر عن أیّ شیء کان ، بل مختصّه بالخبر الحاکی عن حکم شرعیّ ، أو عن ذی أثر شرعیّ ، لیصحّ أن یتعبّدنا الشارع به ، وإلاّ فالمحکیّ بالخبر إذا لم یکن حکما شرعیّا ، أو ذا أثر شرعیّ لا معنی للتعبّد به ، فلا یکون مشمولا لأدلّه حجّیّه خبر الواحد.
ومن المعلوم أنّ الإجماع المنقول – غیر الإجماع الدخولیّ – إنّما المحکیّ به بالمطابقه نفس أقوال العلماء ، وأقوال العلماء فی أنفسها – بما هی أقوال علماء – لیست حکما شرعیّا ، ولا ذات أثر شرعیّ.
وعلیه ، فنقل أقوال العلماء من جهه کونها أقوال علماء لا یصحّ أن یکون مشمولا لأدلّه خبر الواحد. وإنّما یصحّ أن یکون مشمولا لها إذا کشف هذا النقل عن الحکم الصادر عن المعصوم ، لیصحّ التعبّد به.
إذا عرفت ذلک ، فنقول : إن ثبت لدینا أنّه یکفی فی صحّه التعبّد بالخبر کشفه – علی أیّ نحو کان من الکشف – عن الحکم الصادر من المعصوم ، ولو باعتبار الناقل ، نظرا إلی أنّه لا یعتبر فی حجّیّه الخبر حکایه نصّ ألفاظ المعصوم ؛ لأنّ المناط معرفه حکمه ، ولذا یجوز النقل بالمعنی ، فالإجماع (3) المنقول – الذی هو موضع البحث – یکون حجّه مطلقا ؛ لأنّه
[شماره صفحه واقعی : 468]
ص: 969
کاشف وحاک عن الحکم باعتقاد الناقل ، فیکون مشمولا لأدلّه حجّیّه الخبر.
وأمّا : إن ثبت لدینا أنّ المناط فی صحّه التعبّد بالخبر أن یکون حاکیا عن الحکم من طریق الحسّ – أی یجب أن یکون الناقل قد سمع بنفسه الحکم من المعصوم – ولذا لا تشمل أدلّه حجّیّه الخبر فتوی المجتهد ، وإن کان قاطعا بالحکم ، مع أنّ فتواه فی الحقیقه حکایه عن الحکم بحسب اجتهاده ، فالإجماع (1) المنقول – الذی هو موضع البحث – لیس بحجّه مطلقا.
وأمّا : لو ثبت أنّ الإخبار عن حدس اللازم للإخبار عن حسّ یصحّ التعبّد به ؛ لأنّ حکمه حکم الإخبار عن حسّ بلا فرق ، فإنّ التفصیل المتقدّم فی القول الثالث (2) یکون هو الأحقّ.
وإذا اتّضح لدینا سرّ الخلاف فی المسأله بقی علینا أن نفهم أیّ وجه من الوجوه المتقدّمه هو الأولی بالتصدیق ، والأحقّ بالاعتماد؟ فنقول :
أوّلا : إنّ أدلّه خبر الواحد جمیعها – من آیات ، وروایات ، وبناء عقلاء – أقصی دلالتها أنّها تدلّ علی وجوب تصدیق الثقه ، وتصویبه فی نقله لغرض التعبّد بما ینقل. ولکنّها لا تدلّ علی تصویبه فی اعتقاده.
بیان ذلک أنّ معنی تصدیق الثقه هو البناء علی واقعیّه نقله ، وواقعیّه النقل تستلزم واقعیّه المنقول ، بل واقعیه النقل عین واقعیه المنقول ، فالقطع بواقعیّه النقل لا محاله یستلزم القطع بواقعیّه المنقول ، وکذلک البناء علی واقعیّه النقل یستلزم البناء علی واقعیّه المنقول.
وعلیه ، فإذا کان المنقول حکما [شرعیّا] أو ذا أثر شرعیّ صحّ البناء علی الخبر والتعبّد به ، بالنظر إلی هذا المنقول.
أمّا : إذا کان المنقول اعتقاد الناقل – کما لو أخبر شخص عن اعتقاده بحکم – فغایه ما یقتضی البناء علی تصدیق نقله هو البناء علی واقعیّه اعتقاده الذی هو المنقول ، والاعتقاد فی نفسه لیس حکما [شرعیّا] ، ولا ذا أثر شرعیّ.
[شماره صفحه واقعی : 469]
ص: 970
أمّا : صحّه اعتقاده ومطابقته للواقع فذلک شیء آخر ، أجنبیّ عنه ؛ لأنّ واقعیّه الاعتقاد لا تستلزم واقعیّه المعتقد به ، یعنی أنّنا قد نصدّق المخبر عن اعتقاده فی أنّ هذا هو اعتقاده واقعا ، لکن لا یلزمنا أن نصدّق بأنّ ما اعتقده صحیح وله واقعیّه.
ومن هنا نقول : إنّه إذا أخبر شخص بأنه سمع الحکم من المعصوم صحّ أن نبنی علی واقعیّه نقله ؛ تصدیقا له بمقتضی أدلّه حجّیّه الخبر ؛ لأنّ ذلک یستلزم واقعیّه المنقول ، وهو الحکم ؛ إذ لم یمکن التفکیک بین واقعیّه النقل وواقعیّه المنقول. أمّا إذا أخبر عن اعتقاده بأنّ المعصوم حکم بکذا فلا یصحّ البناء علی واقعیّه اعتقاده تصدیقا له بمقتضی أدلّه حجّیه الخبر ؛ لأنّ البناء علی واقعیّه اعتقاده تصدیقا له لا یستلزم البناء علی واقعیّه معتقده ، فیجوز التفکیک بینهما.
فتحصّل أنّ أدلّه [حجّیّه] خبر الواحد إنّما تدلّ علی أنّ الثقه مصدّق ویجب تصویبه فی نقله ، ولا تدلّ علی تصویبه فی رأیه ، واعتقاده ، وحدسه. ولیس هناک أصل عقلائیّ یقول : إنّ الأصل فی الإنسان ، أو الثقه خاصّه أن یکون مصیبا فی رأیه ، وحدسه ، واعتقاده.
ثانیا : بعد أن ثبت أنّ أدلّه حجّیّه الخبر لا تدلّ علی تصویب الناقل فی رأیه وحدسه ، فنقول : لو أنّ ما أخبر به الناقل للإجماع یستلزم فی نظر المنقول إلیه الحکم الصادر من المعصوم ، وإن لم یکن فی نظر الناقل مستلزما لذلک ، فهل هذا أیضا غیر مشمول لأدلّه حجّیّه الخبر؟
الحقّ أنّه ینبغی أن یکون مشمولا لها ؛ لأنّ الأخذ به حینئذ لا یکون من جهه تصدیق الناقل فی رأیه ، وربّما کان الناقل لا یری الاستلزام ، بل لا یکون الأخذ به إلاّ من جهه تصدیقه فی نقله ؛ لأنّه لمّا کان المنقول – وهو الإجماع – یستلزم فی نظر المنقول إلیه الحکم الصادر من المعصوم ، فالأخذ به والبناء علی صحّه نقله یستلزم البناء علی صدور الحکم ، فیصحّ التعبّد به بلحاظ هذه الجهه ، بل إنّ الخبر عن فتاوی الفقهاء یکون فی نظر المنقول إلیه ملزوما للخبر عن رأی المعصوم. وحینئذ یکون هذا الخبر الثانی اللازم للخبر الأوّل هو المشمول لأدلّه حجّیّه الخبر ، لا سیّما إذا کان فی نظر الناقل أیضا مستلزما. ولا نحتاج بعدئذ إلی تصحیح شمولها للخبر الأوّل الملزوم بلحاظ استلزامه للحکم – یعنی
[شماره صفحه واقعی : 470]
ص: 971
أنّ الخبر عن الإجماع یکون دالاّ بالدلاله الالتزامیّه علی صدور الحکم من المعصوم ، فیکون من ناحیه المدلول الالتزامیّ – وهو الإخبار عن صدور الحکم – حجّه مشمولا لها ؛ لأنّ الدلاله الالتزامیّه غیر تابعه للدلاله المطابقیّه من ناحیه الحجّیّه ، وإن کانت تابعه لأدلّه حجیّه الخبر ، وإن لم یکن من جهه المدلول المطابقی مشمولا لها ثبوتا ؛ إذ لا دلاله التزامیه إلاّ مع فرض الدلاله المطابقیّه ، ولکن لا تلازم بینهما فی الحجّیّه.
وإذا اتّضح لک ما شرحناه یتّضح لک أنّ الأولی التفصیل فی الإجماع المنقول بین ما إذا کان کاشفا عن الحکم فی نظر المنقول إلیه ، لو کان هو المحصّل له ، فیکون حجّه ، وبین ما إذا کان کاشفا عن الحکم فی نظر الناقل فقط دون المنقول إلیه ، فلا یکون حجّه ؛ لما تقدّم أنّ أدلّه [حجّیّه] خبر الواحد لا تدلّ علی تصدیق الناقل فی نظره ورأیه.
ولعلّه إلی هذا التفصیل یرمی الشیخ الأعظم قدس سره فی تفصیله الذی أشرنا إلیه سابقا.
تمرینات «56»
1. اذکر أقوال العامّه فی معنی الإجماع.
2. ما معنی الإجماع عند الإمامیّه؟
3. ما الفرق بین الإجماع ، وتطابق آراء العقلاء؟
4. من أین انبثق للأصولیین القول بالإجماع؟
5. اذکر أقوال العامّه فی الإجماع المعتبر.
6. ما هو الإجماع المعتبر عند الإمامیّه؟
7. ما هی «طریقه الحسّ» فی استکشاف قول المعصوم من الإجماع؟
8. ما هی «طریقه قاعده اللطف»؟ ومن اختارها؟
9. ما هی «طریقه الحدس»؟ ومن ذهب إلیه؟
10. ما هی «طریقه التقریر»؟
11. هل یحصل القطع بقول المعصوم من الإجماع المحصّل بإحدی الطرائق المذکوره أم لا؟ اذکر تحقیق المطلب تفصیلا.
12. ما هو الإجماع المحصّل؟
13. ما هو الإجماع المنقول؟
14. اذکر الأقوال فی حجّیّه الإجماع المنقول. واذکر الراجح منها مستدلاّ.
[شماره صفحه واقعی : 471]
ص: 972
[شماره صفحه واقعی : 472]
ص: 973
الباب الرابع : الدلیل العقلیّ
اشاره
قد مضی فی الجزء الثانی البحث مستوفی عن الملازمات العقلیّه ، لتشخیص صغریات حجیّه [حکم] العقل (1) – أی لتعیین القضایا العقلیّه التی یتوصّل بها إلی الحکم الشرعیّ – وبیان ما هو الدلیل العقلیّ الذی یکون حجّه.
وقد حصرناها هناک فی قسمین رئیسین :
الأوّل : حکم العقل بالحسن والقبح ، وهو قسم المستقلاّت العقلیّه.
والثانی : حکمه بالملازمه بین حکم الشرع وحکم آخر ، وهو قسم غیر المستقلاّت العقلیّه.
ووعدنا هناک ببیان وجه حجّیّه الدلیل العقلیّ ، والآن قد حلّ الوفاء بالوعد ، ولکن قبل بیان وجه الحجّیّه لا بدّ من الکرّه (2) بأسلوب جدید إلی البحث عن تلک القضایا العقلیّه ؛ لغرض بیان الآراء فیها ، وبیان وجه حصرها ، وتعیینها فیما ذکرناه ، فنقول :
إنّ علماءنا الأصولیّین من المتقدّمین حصروا الأدلّه علی الأحکام الشرعیّه فی الأربعه المعروفه التی رابعها «الدلیل العقلی» ، (3) بینما أنّ بعض علماء أهل السنّه أضافوا إلی الأربعه المذکوره ؛ القیاس ، ونحوه علی اختلاف آرائهم (4). ومن هنا نعرف أنّ المراد من الدلیل
[شماره صفحه واقعی : 473]
ص: 974
العقلیّ ما لا یشمل مثل القیاس ، فمن ظنّ من الأخباریّین فی الأصولیّین أنّهم (1) یریدون منه ما یشمل القیاس [تشنیعا علیهم] ، (2) لیس [ظنّه] فی موضعه ، وهو ظنّ تأباه تصریحاتهم بعدم الاعتبار بالقیاس ، ونحوه.
ومع ذلک ، فإنّه لم یظهر لی بالضبط ما کان یقصد المتقدّمون من علمائنا بالدلیل العقلیّ ، حتی أنّ الکثیر منهم لم یذکره من الأدلّه ، أو لم یفسّره ، أو فسّره بما لا یصلح أن یکون دلیلا فی قبال الکتاب والسنّه.
وأقدم نصّ وجدته ما ذکره الشیخ المفید (المتوفّی سنه 413 ه. ق) فی رسالته الأصولیّه التی لخّصها الشیخ الکراجکیّ (3) ؛ فإنّه لم یذکر الدلیل العقلیّ من جمله أدلّه الأحکام ، وإنّما ذکر أنّ أصول الأحکام ثلاثه : الکتاب ، والسنّه النبویّه ، وأقوال الأئمّه علیهم السلام ، ثمّ ذکر أنّ الطرق الموصله إلی ما فی هذه الأصول ثلاثه : اللسان ، والأخبار ، وأوّلها العقل ، (4) وقال عنه : «وهو سبیل إلی معرفه حجّیّه القرآن ، ودلائل الأخبار». وهذا التصریح – کما تری – أجنبیّ عمّا نحن فی صدده.
ثمّ یأتی بعده تلمیذه الشیخ الطوسیّ (المتوفّی سنه 460 ه. ق) فی کتابه «العدّه» الذی هو أوّل کتاب مبسّط فی الأصول ، فلم یصرّح بالدلیل العقلیّ ، فضلا عن أن یشرحه ، أو یفرد له بحثا. وکلّ ما جاء فیه فی آخر فصل منه (5) أنّه – بعد أن قسّم المعلومات إلی ضروریّه ومکتسبه ، والمکتسبه إلی عقلیّ وسمعیّ – ذکر من جمله أمثله الضروریّ العلم بوجوب ردّ الودیعه ، وشکر المنعم ، وقبح الظلم والکذب ؛ ثمّ ذکر فی معرض (6) کلامه أنّ القتل والظلم معلوم بالعقل قبحهما ، ویرید من قبحهما تحریمهما. وذکر أیضا : فأمّا الأدلّه الموجبه للعلم ، فبالعقل یعلم کونها أدلّه ، ولا مدخل للشرع فی ذلک.
[شماره صفحه واقعی : 474]
ص: 975
وأوّل من وجدته من الأصولیّین یصرّح بالدلیل العقلیّ ، الشیخ ابن إدریس (المتوفّی 598 ه. ق) ، فقال فی السرائر : «فإذا فقدت الثلاثه – یعنی الکتاب ، والسنّه ، والإجماع – فالمعتمد عند المحقّقین التمسّک بدلیل العقل فیها» (1). ولکنّه لم یذکر المراد منه.
ثمّ یأتی المحقّق الحلیّ (المتوفّی 676 ه. ق) ، فیشرح المراد منه ، فیقول فی کتابه «المعتبر» (2) ما ملخّصه :
وأمّا الدلیل العقلیّ فقسمان :
(أحدهما) : ما یتوقّف فیه علی الخطاب ، وهو ثلاثه : لحن الخطاب ، وفحوی الخطاب ، ودلیل الخطاب.
وثانیهما : ما ینفرد العقل بالدلاله علیه.
ویحصره فی وجوه الحسن والقبح ، بما لا یخلو من المناقشه فی أمثلته.
ویزید علیه الشهید الأوّل (المتوفّی سنه 786 ه. ق) فی مقدّمه کتابه «الذکری» ، (3) فیجعل القسم الأوّل ما یشمل الأنواع الثلاثه التی ذکرها المحقّق ، وثلاثه أخری ، وهی مقدّمه الواجب ، ومسأله الضدّ ، وأصل الإباحه فی المنافع والحرمه فی المضارّ. ویجعل القسم الثانی ما یشمل ما ذکره المحقّق ، وأربعه أخری ، وهی : البراءه الأصلیّه ، وما لا دلیل علیه ، والأخذ بالأقلّ عند التردید بینه وبین الأکثر ، والاستصحاب.
وهکذا ینهج هذا النهج جماعه آخرون من المؤلّفین ، (4) فی حین أنّ الکتب الدراسیّه المتداوله ، مثل المعالم ، والرسائل ، والکفایه لم تبحث هذا الموضوع ، ولم تعرّف الدلیل العقلیّ ، ولم تذکر مصادیقه ، إلاّ إشاره عابره فی ثنایا الکلام.
ومن تصریحات المحقّق والشهید الأوّل یظهر أنّه لم تتجلّ فکره الدلیل العقلیّ فی تلک العصور ، فوسّعوا فی مفهومه إلی ما یشمل الظواهر اللفظیّه ، مثل لحن الخطاب – وهو
[شماره صفحه واقعی : 475]
ص: 976
أن تدلّ قرینه عقلیّه علی حذف لفظ – ، وفحوی الخطاب – ویعنون به مفهوم الموافقه – ، ودلیل الخطاب ، ویعنون به مفهوم المخالفه. وهذه کلّها تدخل فی حجّیّه الظهور ، ولا علاقه لها بدلیل العقل المقابل للکتاب والسنّه. وکذلک الاستصحاب ، فإنّه أصل عملیّ قائم برأسه ، کما بحثه (1) المتقدّمون (2) فی مقابل دلیل العقل.
والغریب فی الأمر أنّه حتی مثل المحقّق القمّیّ (المتوفّی سنه 1231 ه. ق) نسق علی مثل هذا التفسیر لدلیل العقل ، فأدخل فیه الظواهر ، مثل المفاهیم ، بینما هو نفسه عرّفه بأنّه «حکم عقلیّ یوصل به إلی الحکم الشرعیّ وینتقل من العلم بالحکم العقلیّ إلی العلم بالحکم الشرعیّ». (3)
وأحسن من رأیته قد بحث الموضوع بحثا مفیدا معاصره العلاّمه السیّد محسن الکاظمیّ فی کتابه «المحصول» ، وکذلک تلمیذه المحقّق صاحب الحاشیه علی «المعالم» الشیخ محمّد تقی الأصفهانیّ الذی نسج علی منواله (4) ، وإن کان فیما ذکره بعض الملاحظات ، لا مجال لذکرها ومناقشتها هنا.
وعلی کلّ حال ، فإنّ إدخال المفاهیم ، والاستصحاب ، ونحوهما (5) فی مصادیق الدلیل العقلیّ (6) لا یناسب جعله دلیلا فی مقابل الکتاب ، والسنّه ، ولا یناسب تعریفه ب- «أنّه ما ینتقل من العلم بالحکم العقلیّ إلی العلم بالحکم الشرعیّ».
وبسبب عدم وضوح المقصود من الدلیل العقلیّ أنحی (7) الأخباریّون باللائمه علی الأصولیّین ؛ إذ یأخذون بالعقل حجّه علی الحکم الشرعیّ. ولکنّهم أنفسهم (8) أیضا لم یتّضح
[شماره صفحه واقعی : 476]
ص: 977
مقصودهم فی التزهید (1) بالعقل ، وهل تراهم یحکّمون غیر عقولهم فی التزهید بالعقول؟
ویجلّی لنا عدم وضوح المقصود من الدلیل العقلیّ ما ذکره الشیخ المحدّث البحرانیّ فی حدائقه ، وهذا نصّ عبارته :
«المقام الثالث : فی دلیل العقل. وفسّره بعض بالبراءه الأصلیّه ، والاستصحاب.
وآخرون قصروه علی الثانی. وثالث فسّره بلحن الخطاب ، وفحوی الخطاب ، ودلیل الخطاب. ورابع بعد البراءه الأصلیّه والاستصحاب بالتلازم بین الحکمین ، المندرج فیه مقدّمه الواجب ، واستلزام الأمر بالشیء النهی عن ضدّه الخاصّ ، والدلاله الالتزامیّه» (2).
ثمّ تکلّم عن کلّ منها فی مطالب عدا التلازم بین الحکمین لم یتحدّث عنه. ولم یذکر من الأقوال حکم العقل فی مسأله الحسن والقبح ، بینما أنّ حکم العقل المقصود – الذی ینبغی أن یجعل دلیلا – هو خصوص التلازم بین الحکمین ، وحکم العقل فی الحسن والقبح. وما نقله من الأقوال لم یکن دقیقا ، کما سبق بیان بعضها.
وکیفما کان ، فالذی یصلح أن یکون مرادا من الدلیل العقلیّ المقابل للکتاب والسنّه هو «کلّ حکم للعقل یوجب القطع بالحکم الشرعیّ». وبعباره ثانیه هو «کلّ قضیّه عقلیّه یتوصّل بها إلی العلم القطعیّ بالحکم الشرعیّ». وقد صرّح بهذا المعنی جماعه من المحقّقین المتأخّرین. (3)
وهذا أمر طبیعیّ ؛ لأنّه إذا کان الدلیل العقلیّ مقابلا للکتاب والسنّه فلا بدّ ألاّ یعتبر حجّه إلاّ إذا کان موجبا للقطع الذی هو حجّه بذاته ؛ فلذلک لا یصحّ أن یکون شاملا للظنون وما لا یصلح للقطع بالحکم من المقدّمات العقلیّه.
ولکن هذا التحدید بهذا المقدار لا یزال مجملا ، وقد وقع خلط وخبط عظیمان فی فهم هذا الأمر ؛ ولأجل أن ترفع جمیع الشکوک ، والمغالطات ، والأوهام لا بدّ لنا من توضیح
[شماره صفحه واقعی : 477]
ص: 978
الأمر بشیء من البسط ، کوضع النقاط علی الحروف ، کما یقولون ، فنقول :
1. إنّه قد تقدّم (1) أنّ العقل ینقسم إلی عقل نظریّ ، وعقل عملیّ. وهذا التقسیم باعتبار ما یتعلّق به الإدراک.
فالمراد من «العقل النظریّ» إدراک ما ینبغی أن یعلم ، أی إدراک الأمور التی لها واقع.
والمراد من «العقل العملیّ» إدراک ما ینبغی أن یعمل ، أی حکمه بأنّ هذا الفعل ینبغی فعله ، أو لا ینبغی فعله.
2. إنّه ما المراد من العقل – الذی نقول : إنّه حجّه – من هذین القسمین؟
إن کان المراد «العقل النظریّ» فلا یمکن أن یستقلّ بإدراک الأحکام الشرعیّه ابتداء ، أی لا طریق للعقل أن یعلم – من دون الاستعانه بالملازمه – أنّ هذا الفعل حکمه کذا عند الشارع. والسرّ فی ذلک واضح ؛ لأنّ أحکام الله (تعالی) توقیفیّه ، فلا یمکن العلم بها إلاّ من طریق السماع من مبلّغ الأحکام ، المنصوب من قبله (تعالی) لتبلیغها ؛ ضروره أنّ أحکام الله (تعالی) لیست من القضایا الأوّلیّه ، ولیست ممّا تنالها المشاهده بالبصر ونحوه من الحواسّ الظاهره ، بل الباطنه ، ولیست أیضا ممّا تنالها التجربه والحدس. وإذا کانت کذلک فکیف یمکن العلم بها من غیر طریق السماع من مبلّغها؟! وشأنها فی ذلک شأن سائر المجعولات التی یضعها البشر ، کاللغات ، والخطوط ، والرموز ، ونحوها.
وکذلک ملاکات الأحکام کنفس الأحکام ، لا یمکن العلم بها إلاّ من طریق السماع من مبلّغ الأحکام ؛ لأنّه لیس عندنا قاعده مضبوطه نعرف بها أسرار أحکام الله (تعالی) وملاکاتها التی أنیطت بها الأحکام عنده (2) ، والظنّ لا یغنی من الحقّ شیئا.
وعلی هذا ، فمن نفی حجّیّه العقل ، وقال : «إنّ الأحکام سمعیّه لا تدرک بالعقول» فهو علی حقّ ؛ إذا أراد من ذلک ما أشرنا إلیه ، وهو نفی استقلال العقل النظریّ فی إدراک الأحکام وملاکاتها. ولعلّ بعض منکری الملازمه بین حکم العقل وحکم الشرع
[شماره صفحه واقعی : 478]
ص: 979
قصد هذا المعنی ، کصاحب الفصول (1) وجماعه من الأخباریّین ، ولکن خانه التعبیر عن مقصوده. (2) وإذا کان هذا مرادهم فهو أجنبیّ عمّا نحن بصدده من کون الدلیل العقلیّ حجه یتوصّل به إلی الحکم الشرعیّ.
إنّنا نقصد من الدلیل العقلیّ حکم العقل النظریّ بالملازمه بین الحکم الثابت شرعا أو عقلا وبین حکم شرعیّ آخر ، کحکمه بالملازمه فی مسأله الإجزاء ، ومقدّمه الواجب ، ونحوهما ، وکحکمه باستحاله التکلیف بلا بیان ، اللازم منه حکم الشارع بالبراءه ، وکحکمه بتقدیم الأهمّ فی مورد التزاحم بین الحکمین المستنتج منه فعلیّه حکم الأهمّ عند الله (تعالی) ، وکحکمه بوجوب مطابقه حکم الله (تعالی) لما حکم به العقلاء فی الآراء المحموده ؛ فإنّ هذه الملازمات وأمثالها أمور حقیقیّه واقعیّه یدرکها العقل النظریّ بالبداهه ، أو بالکسب ؛ لکونها من الأوّلیّات والفطریّات التی قیاساتها معها ؛ أو لکونها تنتهی إلیها ، فیعلم بها العقل علی سبیل الجزم.
وإذا قطع العقل بالملازمه – والمفروض أنّه قاطع بثبوت الملزوم – فإنّه لا بدّ أن یقطع بثبوت اللازم وهو – أی اللازم – حکم الشارع ، ومع حصول القطع ، فإنّ القطع حجّه یستحیل النهی عنه ، (3) بل به حجّیّه کلّ حجّه کما سبق بیانه. (4)
وعلیه ، فهذه الملازمات العقلیّه هی کبریات القضایا العقلیّه التی بضمّها إلی صغریاتها یتوصّل بها إلی الحکم الشرعیّ. ولا أظنّ أحدا – بعد التوجّه إلیها ، والالتفات إلی حقیقتها – یستطیع إنکارها إلاّ السوفسطائیّین الذین ینکرون الوثوق بکلّ معرفه ، حتی المحسوسات.
ولا أظنّ أنّ هذه القضایا العقلیّه هی مقصوده من أنکر حجّیّتها من الأخباریّین و
[شماره صفحه واقعی : 479]
ص: 980
غیرهم ، وإن أوهم بعض عباراتهم ذلک ؛ لعدم التمییز بین نقاط البحث.
وإذا عرفت ذلک تعرف أنّ الخلط فی المقصود من إدراک العقل النظریّ ، وعدم التمییز بین ما یدرکه من الأحکام ابتداء وما یدرکه منها بتوسّط الملازمه ، هو سبب المحنه فی هذا الاختلاف ، وسبب المغالطه التی وقع فیها بعضهم ؛ إذ نفی مطلقا إدراک العقل لحکم الشارع ، وحجّیّته ، قائلا : «إنّ أحکام الله توقیفیّه لا مسرح للعقول فیها» ، وغفل عن أنّ هذا التعلیل إنّما یصلح لنفی إدراکه للحکم ابتداء وبالاستقلال ، ولا یصلح لنفی إدراکه للملازمه المستتبع لعلمه بثبوت اللازم ، وهو الحکم.
3. هذا کلّه إذا أرید من العقل «العقل النظریّ».
وأمّا : لو أرید به «العقل العملیّ» فکذلک لا یمکن أن یستقلّ فی إدراک أنّ هذا ینبغی فعله عند الشارع أو لا ینبغی ، بل لا معنی لذلک ؛ لأنّ هذا الإدراک وظیفه العقل النظریّ ؛ باعتبار أنّ کون هذا الفعل ینبغی فعله عند الشارع بالخصوص أو لا ینبغی ، من الأمور الواقعیّه التی تدرک بالعقل النظریّ ، لا بالعقل العملیّ ، وإنّما کلّ ما للعقل العملیّ من وظیفه هو أن یستقلّ بإدراک أنّ هذا الفعل فی نفسه ممّا ینبغی فعله أو لا ینبغی ، مع قطع النظر عن نسبته إلی الشارع المقدّس ، أو إلی أیّ حاکم آخر ، یعنی أنّ العقل العملیّ یکون هو الحاکم فی الفعل ، لا حاکیا عن حاکم آخر.
وإذا حصل للعقل العملیّ هذا الإدراک جاء العقل النظریّ عقیبه ، فقد یحکم بالملازمه بین حکم العقل العملیّ وحکم الشارع ، وقد لا یحکم. ولا یحکم بالملازمه إلاّ فی خصوص مورد مسأله التحسین والتقبیح العقلیّین ، أی خصوص القضایا المشهورات التی تسمّی «الآراء المحموده» ، والتی تطابقت علیها آراء العقلاء کافّه بما هم عقلاء.
وحینئذ – بعد حکم العقل النظریّ بالملازمه – یستکشف حکم الشارع علی سبیل القطع ؛ لأنّه بضمّ المقدمّه العقلیّه المشهوره – التی هی من الآراء المحموده التی یدرکها العقل العملیّ – إلی المقدّمه التی تتضمّن الحکم بالملازمه التی یدرکها العقل النظریّ ، یحصل للعقل النظریّ العلم بأنّ الشارع له هذا الحکم ؛ لأنّه حینئذ یقطع باللازم – وهو الحکم – بعد فرض قطعه بثبوت الملزوم والملازمه.
[شماره صفحه واقعی : 480]
ص: 981
ومن هنا قلنا سابقا : إنّ المستقلاّت العقلیّه تنحصر فی مسأله واحده ، وهی مسأله التحسین والتقبیح العقلیّین ؛ لأنّه لا یشارک الشارع حکم العقل العملیّ إلاّ فیها ، أی إنّ العقل النظریّ لا یحکم بالملازمه إلاّ فی هذا المورد خاصّه. (1)
وجه حجّیّه [حکم] العقل
4. إذا عرفت ما شرحناه – وهو أنّ العقل النظریّ یقطع باللازم ، أعنی حکم الشارع ، بعد قطعه بثبوت الملزوم الذی هو حکم الشرع أو العقل ، وبعد فرض قطعه بالملازمه – ، نشرع فی بیان وجه حجّیّه [حکم] العقل ، فنقول :
لقد انتهی الأمر بنا فی البحث السابق إلی أنّ الدلیل العقلیّ ما أوجب القطع بحکم الشارع ، وإذا کان الأمر کذلک فلیس ما وراء القطع حجّه ؛ فإنّه تنتهی إلیه حجّیّه کلّ حجّه ؛ لأنّه – کما تقدّم – هو حجّه بذاته ، ولا یعقل سلخ الحجّیّه عنه. (2)
وهل تثبت الشریعه إلاّ بالعقل؟ وهل یثبت التوحید والنبوّه إلاّ بالعقل؟ وإذا سلخنا أنفسنا عن حکم العقل فکیف نصدّق برساله؟! وکیف نؤمن بشریعه؟! بل کیف نؤمن بأنفسنا واعتقاداتها؟! وهل العقل إلاّ ما عبد به الرّحمن؟ وهل یعبد الدیّان إلاّ به؟
إنّ التشکیک فی حکم العقل سفسطه لیس وراءها سفسطه. نعم ، کلّ ما یمکن الشکّ فیه هو [من] الصغریات – أعنی ثبوت الملازمات فی المستقلاّت العقلیّه ، أو فی غیر المستقلاّت العقلیّه -. ونحن إنّما نتکلّم فی حجّیّه [حکم] العقل لإثبات الحکم الشرعیّ بعد ثبوت تلک الملازمات. وقد شرحنا فی الجزء الثانی مواقع کثیره من تلک الملازمات ، فأثبتنا بعضها فی مثل المستقلاّت العقلیّه ، ونفینا بعضا آخر فی مثل مقدّمه الواجب ، ومسأله الضدّ.
أمّا : بعد ثبوت الملازمه وثبوت الملزوم فأیّ معنی للشکّ فی حجّیّه [حکم] العقل ،
[شماره صفحه واقعی : 481]
ص: 982
أو الشکّ فی ثبوت اللازم ، وهو حکم الشارع؟
ولکن ، مع کلّ هذا وقع الشکّ لبعض الأخباریّین فی هذا الموضوع ، (1) فلا بدّ من تجلیته (2) لکشف المغالطه ، فنقول :
قد أشرنا فی المقصد الثانی إلی هذا النزاع (3) ، وقلنا : إنّ مرجع هذا النزاع إلی ثلاث نواح ، وذلک حسب اختلاف عباراتهم :
الأولی : فی إمکان أن ینفی الشارع حجّیّه هذا القطع. وقد اتّضح لنا ذلک بما شرحناه فی حجّیّه القطع الذاتیّه من هذا الجزء ، فارجع إلیه (4) لتعرف استحاله النهی عن اتّباع القطع.
الثانیه : بعد فرض إمکان نفی الشارع حجّیّه القطع ، هل نهی الشارع عن الأخذ بحکم العقل؟ وقد ادّعی ذلک جمله من الأخباریّین الذین وصل إلینا کلامهم (5) ؛ مدّعین أنّ الحکم الشرعیّ لا یتنجّز ، ولا یجوز الأخذ به إلاّ إذا ثبت من طریق الکتاب ، والسنّه.
أقول : ومردّ هذه الدعوی فی الحقیقه إلی دعوی تقیید الأحکام الشرعیّه بالعلم بها من طریق الکتاب ، والسنّه. وهذا خیر ما یوجّه به کلامهم. ولکن قد سبق الکلام مفصّلا فی مسأله اشتراک الأحکام بین العالم والجاهل من هذا الجزء ، فقلنا : إنّه یستحیل تعلیق الأحکام علی العلم بها مطلقا ، فضلا عن تقییدها بالعلم الناشئ من سبب خاصّ ، وهذه الاستحاله ثابته ، حتی لو قلنا بإمکان نفی حجّیّه القطع ؛ لما قلناه من لزوم الخلف ، کما شرحناه هناک. (6)
[شماره صفحه واقعی : 482]
ص: 983
وأمّا : ما ورد عن آل البیت علیهم السلام من نحو قولهم : «إنّ دین الله لا یصاب بالعقول» (1) فقد ورد فی قباله مثل قولهم : «إنّ لله علی الناس حجّتین : حجّه ظاهره ، وحجّه باطنه ، فأمّا : الظاهره فالرسل ، والأنبیاء ، والأئمّه علیهم السلام ، وأمّا : الباطنه فالعقول». (2)
والحلّ لهذا التعارض الظاهریّ بین الطائفتین هو أنّ المقصود من الطائفه الأولی بیان عدم استقلال العقل فی إدراک الأحکام ومدارکها فی قبال الاعتماد علی القیاس ، والاستحسان ؛ لأنّها وارده فی هذا المقام ، أی إنّ الأحکام ومدارک الأحکام لا تصاب بالعقول بالاستقلال ، وهو حقّ ، کما شرحناه سابقا.
ومن المعلوم أنّ مقصود من یعتمد علی الاستحسان فی بعض صوره هو دعوی أنّ للعقل أن یدرک الأحکام مستقلاّ ، ویدرک ملاکاتها ، ومقصود من یعتمد علی القیاس هو دعوی أنّ للعقل أن یدرک ملاکات الأحکام فی المقیس علیه لاستنتاج الحکم فی المقیس.
وهذا معنی الاجتهاد بالرأی. وقد سبق (3) أنّ هذه الإدراکات لیست من وظیفه العقل النظریّ ، ولا العقل العملیّ ؛ لأنّ هذه أمور لا تصاب إلاّ من طریق السماع من مبلّغ الأحکام.
وعلیه ، فهذه الطائفه من الأخبار لا مانع من الأخذ بها علی ظواهرها ؛ لأنّها وارده فی مقام معارضه الاجتهاد بالرأی ، ولکنّها أجنبیّه عمّا نحن بصدده ، وعمّا نقوله فی القضایا العقلیّه التی یتوصّل بها إلی الحکم الشرعیّ ، کما أنّها أجنبیّه عن الطائفه الثانیه من الأخبار التی تثنی علی العقل ، وتنصّ علی أنّه حجّه الله الباطنه ؛ لأنّها تثنی علی العقل فیما هو من وظیفته أن یدرکه ، لا علی الظنون والأوهام ، ولا علی ادّعاءات إدراک ما لا یدرکه العقل بطبیعته.
الثالثه : بعد فرض عدم إمکان نفی الشارع حجّیّه القطع والنهی عنه یجب أن نتساءل عن معنی حکم الشارع علی طبق حکم العقل؟
والجواب الصحیح عن هذا السؤال عند هؤلاء أن یقال : إنّ معناه إدراک الشارع وعلمه
[شماره صفحه واقعی : 483]
ص: 984
بأنّ هذا الفعل ینبغی فعله أو ترکه لدی العقلاء. وهذا شیء آخر غیر أمره ونهیه. والنافع هو أن نستکشف أمره ونهیه ، فیحتاج إثبات أمره ونهیه إلی دلیل آخر سمعیّ ، ولا یکفی فیه ذلک الدلیل العقلیّ الذی أقصی ما یستنتج منه أنّ الشارع عالم بحکم العقلاء ، أو أنّه حکم بنفس ما حکم به العقلاء ، فلا یکون منه أمر مولویّ ، أو نهی مولویّ.
أقول : وهذه آخر مرحله لتوجیه مقاله منکری حجّیّه العقل ، وهو توجیه یختصّ بالمستقلاّت العقلیّه. ولهذا التوجیه صوره ظاهریّه یمکن أن تنطلی (1) علی المبتدئین أکثر من تلک التوجیهات فی المراحل السابقه. وهذا التوجیه ینطوی علی إحدی دعویین :
1. دعوی إنکار الملازمه بین حکم العقل وحکم الشرع ، وقد تقدّم تفنیدها (2) فی الجزء الثانی (3) ، فلا نعید.
2. الدعوی التی أشرنا إلیها هناک فی الجزء الثانی (4). وتوضیحها : أنّ ما تطابقت علیه آراء العقلاء هو استحقاق المدح والذمّ فقط ، والمدح والذمّ غیر الثواب والعقاب ، فاستحقاقهما لا یستلزم استحقاق الثواب والعقاب من قبل المولی. والذی ینفع فی استکشاف حکم الشارع هو الثانی ، ولا یکفی الأوّل.
ولو فرض أنّا صحّحنا الاستلزام للثواب والعقاب فإنّ ذلک لا یدرکه کلّ أحد. ولو فرض أنّه أدرکه کلّ أحد فإنّ ذلک لیس کافیا للدعوه إلی الفعل إلاّ عند الفذّ من الناس (5). وعلی أیّ تقدیر فرض ، فلا یستغنی أکثر الناس عن توجیه الأمر من المولی ، أو النهی منه فی مقام الدعوه إلی الفعل ، أو الزجر عنه.
وإذا کان نفس إدراک الحسن والقبح غیر کاف فی الدعوه – والمفروض [أنّه] لم یقم دلیل سمعیّ علی الحکم – فلا نستطیع أن نحکم بأنّ الشارع له أمر ونهی علی طبق حکم
[شماره صفحه واقعی : 484]
ص: 985
العقل قد اکتفی عن بیانه اعتمادا علی إدراک العقل ، لیکون حکم العقل کاشفا عن حکمه ؛ لاحتمال ألاّ یکون للشارع حکم مولویّ علی طبق حکم العقل حینئذ. و «إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال» ؛ لأنّ المدار علی القطع فی المقام.
والجواب : أنّه قد أشرنا فی الحاشیه (1) إلی ما یفنّد الشقّ الأوّل من هذه الدعوی الثانیه ؛ إذ قلنا : الحقّ أنّ معنی استحقاق المدح لیس إلاّ استحقاق الثواب ، ومعنی استحقاق الذمّ لیس إلاّ استحقاق العقاب ، لا أنّهما شیئان أحدهما یستلزم الآخر ؛ لأنّ حقیقه المدح والمقصود منه هو المجازاه بالخیر ، لا المدح باللسان ، وحقیقه الذمّ والمقصود منه هو المجازاه بالشرّ ، لا الذمّ باللسان. وهذا المعنی هو الذی یحکم به العقل ؛ ولذا قال المحقّقون من الفلاسفه : «إنّ مدح الشارع ثوابه ، وذمّه عقابه». (2) وأرادوا هذا المعنی.
بل بالنسبه إلی الله (تعالی) لا معنی لفرض استحقاق المدح والذمّ اللسانیّین عنده ، بل لیست مجازاته بالخیر إلاّ الثواب ، ولیست مجازاته بالشرّ إلاّ العقاب.
وأمّا الشقّ الثانی من هذه الدعوی : فالجواب عنه : أنّه لمّا کان المفروض أنّ المدح والذمّ من القضایا المشهورات التی تتطابق علیها آراء العقلاء کافّه فلا بدّ أن یفرض فیه أن یکون صالحا لدعوه کلّ واحد من الناس. ومن هنا نقول : إنّه مع هذا الفرض یستحیل توجیه دعوه مولویّه من الله (تعالی) ثانیا ؛ لاستحاله جعل الداعی مع فرض وجود ما یصلح للدعوه عند المکلّف إلاّ من باب التأکید ، ولفت النظر ؛ ولذا ذهبنا هناک إلی أنّ الأوامر الشرعیّه ، الوارده فی موارد حکم العقل – مثل وجوب الطاعه ونحوها – یستحیل فیها أن تکون أوامر تأسیسیّه – أی مولویّه – بل هی أوامر تأکیدیّه ، أی إرشادیّه.
وأمّا : أنّ هذا الإدراک لا یدعو إلاّ الفذّ (3) من الناس ، فقد یکون صحیحا ، ولکن لا یضرّ فی مقصودنا ؛ لأنّه لا نقصد من کون حکم العقل داعیا أنّه داع بالفعل لکلّ أحد ، بل إنّما نقصد – وهو النافع لنا – أنّه صالح للدعوه. وهذا شأن کلّ داع حتی الأوامر المولویّه ؛ فإنّه
[شماره صفحه واقعی : 485]
ص: 986
لا یترقّب منها إلاّ صلاحیّتها للدعوه ، لا فعلیّه الدعوه ؛ لأنّه لیس قوام کون الأمر أمرا من قبل الشارع ، أو من قبل غیره فعلیّه دعوته لجمیع المکلّفین ، بل الأمر فی حقیقته لیس هو إلاّ جعل ما یصلح أن یکون داعیا ، یعنی لیس المجعول فی الأمر فعلیّه الدعوه. وعلیه ، فلا یضرّ فی کونه صالحا للدعوه عدم امتثال أکثر الناس.
تمرینات «57»
1. ما هو الدلیل العقلی؟
2. ما المراد من العقل النظریّ والعقل العملیّ؟
3. ما المراد من العقل الذی نقول حکمه حجّه؟
4. ما الوجه فی حجّیّه حکم العقل؟
[شماره صفحه واقعی : 486]
ص: 987
الباب الخامس : حجّیّه الظواهر
تمهیدات
1. تقدّم فی الجزء الأوّل (1) : أنّ الغرض من المقصد الأوّل تشخیص ظواهر بعض الألفاظ من ناحیه عامّه. والغایه منه – کما ذکرنا – تنقیح صغریات أصاله الظهور. وطبعا إنّما یکون ذلک فی خصوص الموارد التی وقع فیها الخلاف بین الناس.
وقلنا : إنّنا سنبحث عن الکبری – وهی حجّیّه «أصاله الظهور» – فی المقصد الثالث. وقد حلّ بحمد الله (تعالی) موضع البحث عنها.
2. إنّ البحث عن حجّیّه الظواهر من توابع البحث عن الکتاب ، والسنّه ، أعنی أنّ الظواهر لیست دلیلا قائما بنفسه فی مقابل الکتاب ، والسنّه ، بل إنّما نحتاج إلی إثبات حجّیّتها لغرض الأخذ بالکتاب ، والسنّه ، (2) فهی من متمّمات حجیّتهما ؛ إذ من الواضح أنّه لا مجال للأخذ بهما من دون أن تکون ظواهرهما حجّه. والنصوص التی هی قطعیّه الدلاله أقلّ القلیل فیهما.
3. تقدّم أنّ الأصل حرمه العمل بالظنّ ما لم یدلّ دلیل قطعیّ علی حجّیّته ، (3) والظواهر من جمله الظنون ، فلا بدّ من التماس دلیل قطعیّ علی حجّیّتها لیصحّ التمسّک بظواهر الآیات ، والأخبار. وسیأتی بیان هذا الدلیل. (4)
[شماره صفحه واقعی : 487]
ص: 988
4. إنّ البحث عن الظهور یتمّ بمرحلتین :
الأولی : فی أنّ هذا اللفظ المخصوص ظاهر فی هذا المعنی المخصوص أم غیر ظاهر؟ والمقصد الأوّل کلّه متکفّل (1) بالبحث عن ظهور بعض الألفاظ التی وقع الخلاف فی ظهورها ، کالأوامر ، والنواهی ، والعموم ، والخصوص ، والإطلاق ، والتقیید. وهی فی الحقیقه من بعض صغریات أصاله الظهور.
الثانیه : فی أنّ اللفظ الذی قد أحرز ظهوره هل هو حجّه عند الشارع فی ذلک المعنی ، فیصحّ أن یحتجّ به المولی علی المکلّفین ، ویصحّ أن یحتجّ به المکلّفون؟
والبحث عن هذه المرحله الثانیه هو المقصد الذی عقد من أجله هذا الباب ، وهو الکبری التی إذا ضممناها إلی صغریاتها یتمّ لنا الأخذ بظواهر الآیات ، والروایات.
5. إنّ المرحله الأولی – وهی تشخیص صغریات أصاله الظهور – تقع بصوره عامّه فی موردین :
الأوّل : فی وضع اللفظ للمعنی المبحوث عنه ، فإنّه إذا أحرز وضعه له لا محاله یکون ظاهرا فیه ، نحو وضع صیغه «افعل» للوجوب ، والجمله الشرطیّه لما یستلزم المفهوم. إلی غیر ذلک.
الثانی : فی قیام قرینه عامّه أو خاصّه علی إراده المعنی من اللفظ. والحاجه إلی القرینه إمّا فی مورد إراده غیر ما وضع له اللفظ ، وإمّا فی مورد اشتراک اللفظ فی أکثر من معنی.
ومع فرض وجود القرینه لا محاله یکون اللفظ ظاهرا فیما قامت علیه القرینه ، سواء کانت القرینه متّصله ، أو منفصله.
وإذا اتّضحت هذه التمهیدات فینبغی أن نتحدّث عمّا یهمّ من کلّ من المرحلتین فی مباحث مفیده فی الباب.
طرق إثبات الظواهر
إذا وقع الشکّ فی الموردین السابقین فهناک طرق لمعرفه وضع الألفاظ ، ومعرفه القرائن العامّه :
[شماره صفحه واقعی : 488]
ص: 989
منها : أن یتتبّع الباحث بنفسه استعمالات العرب ، ویعمل رأیه واجتهاده إذا کان من أهل الخبره باللسان ، والمعرفه بالنکات البیانیّه. ونظیر ذلک ما استنبطناه من أنّ کلمه «الأمر» لفظ مشترک بین ما یفید معنی «الشیء» و «الطلب» (1). وذلک بدلاله اختلاف اشتقاق الکلمه بحسب المعنیین ، واختلاف الجمع فیها بحسبهما.
ومنها : أن یرجع إلی علامات الحقیقه والمجاز ، کالتبادر ، وأخواته. وقد تقدّم الکلام عن هذه العلامات (2).
ومنها : أن یرجع إلی أقوال علماء اللغه. وسیأتی بیان قیمه أقوالهم.
وهناک أصول اتّبعها بعض القدماء (3) لتعیین وضع الألفاظ أو ظهوراتها فی موارد تعارض أحوال اللفظ. والحقّ أنّه لا أصل لها مطلقا ؛ لأنّه لا دلیل علی اعتبارها. (4) وقد أشرنا إلی ذلک فیما تقدّم (5).
وهی مثل ما ذهبوا إلیه من أصاله عدم الاشتراک فی مورد الدوران بین الاشتراک وبین الحقیقه والمجاز ، ومثل أصاله الحقیقه لإثبات وضع اللفظ عند الدوران بین کونه حقیقه أو مجازا.
أمّا : أنّه لا دلیل علی اعتبارها ؛ فلأنّ حجّیّه مثل هذه الأصول لا بدّ من استنادها إلی بناء العقلاء. والمسلّم من بنائهم هو ثبوته فی الأصول التی تجری لإثبات مرادات المتکلّم ، دون ما یجری لتعیین وضع الألفاظ والقرائن. ولا دلیل آخر فی مثلها ، غیر بناء العقلاء.
حجّیّه قول اللغویّ
إنّ أقوال اللغویّین لا عبره بأکثرها فی مقام استکشاف وضع الألفاظ ؛ لأنّ أکثر المدوّنین
[شماره صفحه واقعی : 489]
ص: 990
للّغه همّهم أن یذکروا المعانی التی شاع استعمال اللفظ فیها ، من دون کثیر عنایه منهم بتمییز المعانی الحقیقیّه من المجازیّه إلاّ نادرا ، عدا الزمخشریّ فی کتابه «أساس اللغه» ، وعدا بعض المؤلّفات فی فقه اللغه.
وعلی تقدیر أن ینصّ اللغویون علی المعنی الحقیقیّ ، فإن أفاد نصّهم العلم بالوضع فهو ، وإلاّ فلا بدّ من التماس الدلیل علی حجّیّه الظنّ الناشئ من قولهم. وقیل فی الاستدلال علیه وجوه من الأدلّه ، لا بأس بذکرها وما عندنا فیها :
أوّلا : قیل : «الدلیل الإجماع». (1) وذلک ؛ لأنّه قائم علی الأخذ بقول اللغویّ ، بلا نکیر من أحد ، وإن کان اللغویّ واحدا.
أقول : وأنّی لنا بتحصیل هذا الإجماع العملیّ المدّعی بالنسبه إلی جمیع الفقهاء؟ وعلی تقدیر تحصیله ، فأنّی لنا من إثبات حجّیّه مثله؟ وقد تقدّم البحث مفصّلا عن منشأ حجّیّه الإجماع ، (2) ولیس هو ممّا یشمل هذا المقام بما هو حجّه ؛ لأنّ المعصوم لا یرجع إلی نصوص أهل اللغه ، حتی یستکشف من الإجماع موافقته فی هذه المسأله ، أی رجوعه إلی أهل اللغه عملا.
ثانیا : قیل : «الدلیل بناء العقلاء» (3) ؛ لأنّ من سیره العقلاء وبنائهم العملیّ الرجوع إلی أهل الخبره الموثوق بهم فی جمیع الأمور التی یحتاج فی معرفتها إلی خبره وإعمال الرأی والاجتهاد ، کالشئون الهندسیّه والطبّیّه ، ومنها : اللغات ودقائقها ، ومن المعلوم أنّ اللغویّ معدود من أهل الخبره فی فنّه. والشارع لم یثبت منه الردع عن هذه السیره العملیّه ،
[شماره صفحه واقعی : 490]
ص: 991
فیستکشف من ذلک موافقته لهم ، ورضاه بها.
أقول : إنّ بناء العقلاء إنّما یکون حجّه إذا کان یستکشف منه علی نحو الیقین موافقه الشارع وإمضاؤه لطریقتهم. وهذا بدیهیّ. ولکن نحن نناقش إطلاق المقدّمه المتقدّمه القائله : «إنّ موافقه الشارع لبناء العقلاء تستکشف من مجرّد عدم ثبوت ردعه عن طریقتهم» ، بل لا یحصل هذا الاستکشاف إلاّ بأحد شروط ثلاثه ، کلّها غیر متوفّره فی المقام :
1. ألاّ یکون مانع من کون الشارع متّحد المسلک مع العقلاء فی البناء والسیره ؛ فإنّه فی هذا الفرض لا بدّ أن یستکشف أنّه متّحد المسلک معهم بمجرّد عدم ثبوت ردعه ؛ لأنّه من العقلاء ، بل رئیسهم. ولو کان له مسلک ثان لبیّنه ، ولعرفناه ، ولیس هذا ممّا یخفی.
ومن هذا الباب الظواهر ، وخبر الواحد ؛ فإنّ الأخذ بالظواهر ، والاعتماد علیها فی التفهیم ممّا جرت علیه سیره العقلاء ، والشارع لا بدّ أن یکون متّحد المسلک معهم ؛ لأنّه لا مانع من ذلک بالنسبه إلیه ، وهو منهم بما هم عقلاء ولم یثبت منه ردع. وکذلک یقال فی خبر الواحد الثّقه ؛ فإنّه لا مانع من أن یکون الشارع متّحد المسلک مع العقلاء فی الاعتماد علیه فی تبلیغ الأحکام ، ولم یثبت منه الردع.
أمّا : الرجوع إلی أهل الخبره فلا معنی لفرض أن یکون الشارع متّحد المسلک مع العقلاء فی ذلک ؛ لأنّه لا معنی لفرض حاجته إلی أهل الخبره فی شأن من الشئون ، حتی یمکن فرض أن تکون له سیره عملیّه فی ذلک ، لا سیّما فی اللغه العربیّه.
2. إذا کان هناک مانع من أن یکون الشارع متّحد المسلک مع العقلاء ، فلا بدّ أن یثبت لدینا جریان السیره العملیّه ، حتّی فی الأمور الشرعیّه بمرأی ومسمع من الشارع ، فإذا لم یثبت حینئذ الردع منه یکون سکوته من قبیل التقریر لمسلک العقلاء. وهذا مثل الاستصحاب ، فإنّه لمّا کان مورده الشکّ فی الحاله السابقه فلا معنی لفرض اتّحاد الشارع فی المسلک مع العقلاء بالأخذ بالحاله السابقه ؛ إذ لا معنی لفرض شکّه فی بقاء حکمه ، ولکن لمّا کان الاستصحاب قد جرت السیره فیه ، حتی فی الأمور الشرعیّه ، ولم یثبت ردع الشارع عنه ، فإنّه یستکشف منه إمضاؤه لطریقتهم.
أمّا : الرجوع إلی أهل الخبره فی اللغه فلم یعلم جریان السیره العقلائیّه فی الأخذ بقول
[شماره صفحه واقعی : 491]
ص: 992
اللغویّ فی خصوص الأمور الشرعیّه ، حتی یستکشف من عدم ثبوت ردعه رضاه بهذه السیره فی الأمور الشرعیّه.
3. إذا انتفی الشرطان المتقدّمان فلا بدّ حینئذ من قیام دلیل خاصّ قطعیّ علی رضا الشارع وإمضائه للسیره العملیّه عند العقلاء. وفی مقامنا لیس عندنا هذا الدلیل ، بل الآیات الناهیه عن اتّباع الظنّ کافیه فی ثبوت الردع عن هذه السیره العملیّه.
ثالثا : قیل : «الدلیل حکم العقل» ؛ لأنّ العقل یحکم بوجوب رجوع الجاهل إلی العالم ، فلا بدّ أن یحکم الشارع بذلک أیضا ؛ إذ إنّ هذا الحکم العقلیّ من الآراء المحموده التی تطابقت علیها آراء العقلاء ، والشارع منهم ، بل رئیسهم. وبهذا الحکم العقلیّ أوجبنا رجوع العامیّ إلی المجتهد فی التقلید ، غایه الأمر أنّا اشترطنا فی المجتهد شروطا خاصّه ، کالعداله ، والذکوره ، لدلیل خاصّ. وهذا الدلیل الخاصّ غیر موجود فی الرجوع إلی قول اللغویّ ؛ لأنّه فی الشئون الفنّیّه لم یحکم العقل إلاّ برجوع الجاهل إلی العالم الموثوق به ، من دون اعتبار عداله ، أو نحوها ، کالرجوع إلی الأطبّاء والمهندسین. ولیس هناک دلیل خاصّ یشترط العداله ، أو نحوها فی اللغویّ ، کما ورد فی المجتهد.
أقول : وهذا الوجه أقرب الوجوه فی إثبات حجّیّه قول اللغویّ ، ولم أجد الآن ما یقدح به.
الظهور التصوریّ و التصدیقیّ
قیل : «إنّ الظهور علی قسمین : تصوّریّ ، وتصدیقیّ.
1. الظهور التصوّریّ الذی ینشأ من وضع اللفظ لمعنی مخصوص ، وهو عباره عن دلاله مفردات الکلام علی معانیها اللغویّه أو العرفیّه. وهو تابع للعلم بالوضع ، سواء کانت فی الکلام أو فی خارجه قرینه علی خلافه أو لم تکن.
2. الظهور التصدیقیّ الذی ینشأ من مجموع الکلام ، وهو عباره عن دلاله جمله الکلام علی ما یتضمّنه من المعنی ، فقد تکون دلاله الجمله مطابقه لدلاله المفردات ، وقد تکون مغایره لها ، کما إذا احتفّ الکلام بقرینه توجب صرف مفاد جمله الکلام عمّا یقتضیه مفاد
[شماره صفحه واقعی : 492]
ص: 993
المفردات. والظهور التصدیقیّ یتوقّف علی فراغ المتکلّم من کلامه ، فإنّ لکلّ متکلّم أن یلحق بکلامه ما شاء من القرائن ، فما دام متشاغلا بالکلام لا ینعقد لکلامه الظهور التصدیقیّ.
ویستتبع هذا الظهور التصدیقیّ ظهور ثان تصدیقیّ ، وهو الظهور بأنّ هذا هو مراد المتکلّم ، وهذا هو المعیّن لمراد المتکلّم فی نفس الأمر ، فیتوقّف علی عدم القرینه المتّصله ، والمنفصله ؛ لأنّ القرینه مطلقا تهدم هذا الظهور ، بخلاف الظهور التصدیقیّ الأوّل ؛ فإنّه لا تهدمه القرینه المنفصله». (1)
أقول : ونحن لا نتعقّل هذا التقسیم ، بل الظهور قسم واحد ، ولیس هو إلاّ دلاله اللفظ علی مراد المتکلّم. وهذه الدلاله هی التی نسمّیها «الدلاله التصدیقیّه» ، وهی أن یلزم من العلم بصدور اللفظ من المتکلّم العلم بمراده من اللفظ ، أو یلزم منه الظنّ بمراده. والأوّل یسمّی «النصّ» ، ویختصّ الثانی باسم «الظهور».
ولا معنی للقول بأنّ اللفظ ظاهر ظهورا تصوّریّا فی معناه الموضوع له ، وقد سبق فی الجزء الأوّل (2) بیان حقیقه الدلاله ، وأنّ ما یسمّونه بالدلاله التصوّریّه لیست بدلاله ، وإنّما کان ذلک منهم تسامحا فی التعبیر ، بل هی من باب تداعی المعانی ، فلا علم ولا ظنّ فیها بمراد المتکلّم ، فلا دلاله ، فلا ظهور ، وإنّما کان خطور. والفرق بعید بینهما.
وأمّا : تقسیم الظهور التصدیقیّ إلی قسمین فهو أیضا تسامح ؛ لأنّه لا یکون الظهور ظهورا إلاّ إذا کشف عن المراد الجدّیّ للمتکلّم ، إمّا علی نحو الیقین ، أو الظنّ ، فالقرینه المنفصله لا محاله تهدم الظهور مطلقا.
نعم ، قبل العلم بها یحصل للمخاطب قطع بدویّ ، أو ظنّ بدویّ ، یزولان عند العلم بها ، فیقال حینئذ : «قد انعقد للکلام ظهور علی خلاف ما تقتضیه القرینه المنفصله». وهذا کلام شائع عند الأصولیّین (3) ، وفی الحقیقه أنّ غرضهم من ذلک ، الظهور الابتدائیّ البدویّ الذی
[شماره صفحه واقعی : 493]
ص: 994
یزول عند العلم بالقرینه المنفصله ، لا أنّه هناک ظهوران : ظهور لا یزول بالقرینه المنفصله ، وظهور یزول بها. ولا بأس أن یسمّی هذا الظهور البدویّ «الظهور الذاتیّ». وتسمیته بالظهور مسامحه علی کلّ حال.
وعلی کلّ حال – سواء سمّیت الدلاله التصوّریّه ظهورا أم لم تسمّ ، وسواء سمّی الظنّ البدویّ ظهورا أم لم یسمّ – فإنّ موضع الکلام فی حجّیّه الظهور هو الظهور الکاشف عن مراد المتکلّم بما هو کاشف ، وإن کان کشفا نوعیّا.
وجه حجّیّه الظهور
اشاره
إنّ الدلیل علی حجّیّه الظاهر منحصر فی بناء العقلاء. والدلیل یتألّف من مقدّمتین قطعیّتین ، علی نحو ما تقدّم فی الدلیل علی حجّیّه خبر الواحد من طریق بناء العقلاء. وتفصیلهما هنا أن نقول :
المقدّمه الأولی : أنّه من المقطوع به الذی لا یعتریه الریب أنّ أهل المحاوره من العقلاء قد جرت سیرتهم العملیّه وتبانیهم فی محاوراتهم الکلامیّه علی اعتماد المتکلّم علی ظواهر کلامه فی تفهیم مقاصده ، ولا یفرضون علیه أن یأتی بکلام قطعیّ فی مطلوبه لا یحتمل الخلاف. وکذلک – تبعا لسیرتهم الأولی – تبانوا أیضا علی العمل بظواهر کلام المتکلّم والأخذ بها فی فهم مقاصده ، ولا یحتاجون فی ذلک إلی أن یکون کلامه نصّا فی مطلوبه لا یحتمل الخلاف.
فلذلک ، یکون الظاهر حجّه للمتکلّم علی السامع ، یحاسبه علیه ، ویحتجّ به علیه لو حمله علی خلاف الظاهر ، ویکون أیضا حجّه للسامع علی المتکلّم ، یحاسبه علیه ، ویحتجّ به علیه لو ادّعی خلاف الظاهر. ومن أجل هذا یؤخذ المرء بظاهر إقراره ، ویدان به (1) وإن لم یکن نصّا فی المراد.
المقدّمه الثانیه : أنّ من المقطوع به أیضا أنّ الشارع المقدّس لم یخرج فی محاوراته واستعماله للألفاظ عن مسلک أهل المحاوره من العقلاء فی تفهیم مقاصده ، بدلیل أنّ الشارع
[شماره صفحه واقعی : 494]
ص: 995
من العقلاء ، بل رئیسهم ، فهو متّحد المسلک معهم ، ولا مانع من اتّحاده معهم فی هذا المسلک ، ولم یثبت من قبله ما یخالفه.
وإذا ثبتت هاتان المقدّمتان القطعیّتان لا محاله یثبت – علی سبیل الجزم – أنّ الظاهر حجّه عند الشارع ، حجّه له علی المکلّفین ، وحجّه معذّره للمکلّفین.
هذا ، ولکن وقعت لبعض الناس شکوک فی عموم کلّ من المقدّمتین ، لا بدّ من التعرّض لها ، وکشف الحقیقه فیها.
أمّا المقدّمه الأولی : فقد وقعت عدّه أبحاث فیها :
1 – فی أنّ تبانی العقلاء علی حجّیّه الظاهر هل یشترط فیه حصول الظنّ الفعلیّ بالمراد؟
2 – فی أنّ تبانیهم هل یشترط فیه عدم الظنّ بخلاف الظاهر؟
3 – فی أنّ تبانیهم هل یشترط فیه جریان أصاله عدم القرینه؟
4 – فی أنّ تبانیهم هل هو مختصّ بمن قصد إفهامه فقط ، أو یعمّ غیرهم ، فیکون الظاهر حجّه مطلقا؟
وأمّا المقدّمه الثانیه : فقد وقع البحث فیها فی حجّیّه ظواهر الکتاب العزیز ، بل قیل : «إنّ الشارع ردع عن الأخذ بظواهر الکتاب ، فلم یکن متّحد المسلک فیه مع العقلاء» (1). وهذه المقاله منسوبه إلی الأخباریّین. (2) وعلیه ، فینبغی البحث عن کلّ واحد واحد من هذه الأمور ، فنقول :
أ. اشتراط الظنّ الفعلیّ بالوفاق
قیل : «لا بدّ فی حجّیّه الظاهر من حصول ظنّ فعلیّ بمراد المتکلّم ، وإلاّ فهو لیس بظاهر». (3) یعنی أنّ المقوّم لکون الکلام ظاهرا حصول الظنّ الفعلیّ للمخاطب بالمراد منه ،
[شماره صفحه واقعی : 495]
ص: 996
وإلاّ فلا یکون ظاهرا ، بل یکون مجملا.
أقول : من المعلوم أنّ الظهور صفه قائمه باللفظ ، وهو کونه بحاله یکون کاشفا عن مراد المتکلّم ، ودالاّ علیه ، والظنّ بما هو ظنّ أمر قائم بالسامع ، لا باللفظ ، فکیف یکون مقوّما لکون اللفظ ظاهرا؟! وإنّما أقصی ما یقال أنّه یستلزم الظنّ ، فمن هذه الجهه یتوهّم أنّ الظنّ یکون مقوّما لظهوره.
وفی الحقیقه أنّ المقوّم لکون الکلام ظاهرا عند أهل المحاوره هو کشفه الذاتیّ عن المراد ، أی کون الکلام من شأنه أن یثیر (1) الظنّ عند السامع بالمراد منه ، وإن لم یحصل ظنّ فعلیّ للسامع ؛ لأنّ ذلک هو الصفه القائمه بالکلام المقوّمه لکونه ظاهرا عند أهل المحاوره. والمدرک لحجّیّه الظاهر لیس إلاّ بناء العقلاء ، فهو المتّبع فی أصل الحجّیّه ، وخصوصیّاتها. ألا تری [أنّه] لا یصحّ للسامع أن یحتجّ بعدم حصول الظنّ الفعلیّ عنده من الظاهر إذا أراد مخالفته ، مهما کان السبب لعدم حصول ظنّه ، ما دام أنّ اللفظ بحاله من شأنه أن یثیر الظنّ لدی عامّه الناس؟
وهذا ما یسمّی بالظنّ النوعیّ ، فیکتفی به فی حجّیّه الظاهر ، کما یکتفی به فی حجّیّه خبر الواحد – کما تقدّم (2) – ، وإلاّ لو کان الظنّ الفعلیّ معتبرا فی حجّیّه الظهور لکان کلّ کلام فی آن واحد حجّه بالنسبه إلی شخص ، غیر حجّه بالنسبه إلی شخص آخر. وهذا ما لا یتوهّمه أحد. ومن البدیهیّ أنّه لا یصحّ ادّعاء أنّ الظاهر لکی یکون حجّه لا بدّ أن یستلزم الظنّ الفعلیّ عند جمیع الناس بغیر استثناء ، وإلاّ فلا یکون حجّه بالنسبه إلی کلّ أحد.
ب. اعتبار عدم الظنّ بالخلاف
قیل : «إن لم یعتبر الظنّ بالوفاق فعلی الأقلّ یعتبر ألاّ یحصل ظنّ بالخلاف». (3)
[شماره صفحه واقعی : 496]
ص: 997
قال الشیخ صاحب «الکفایه» فی ردّه : «والظاهر أنّ سیرتهم علی اتّباعها [أی : الظواهر] من غیر تقیید بإفادتها الظنّ فعلا ، ولا بعدم الظنّ کذلک علی خلافها قطعا ؛ ضروره أنّه لا مجال للاعتذار من مخالفتها بعدم إفادتها الظنّ بالوفاق ، ولا بوجود الظنّ بالخلاف». (1)
أقول : إن کان منشأ الظنّ بالخلاف أمرا یصحّ فی نظر العقلاء الاعتماد علیه فی التفهیم فإنّه لا ینبغی الشکّ فی أنّ مثل هذا الظنّ یضرّ فی حجّیّه الظهور ، بل – علی التحقیق – لا یبقی معه ظهور للکلام حتی یکون موضعا لبناء العقلاء ؛ لأنّ الظهور یکون حینئذ علی طبق ذلک الأمر المعتمد علیه فی التفهیم ، حتی لو فرض أنّ ذلک الأمر لیس بأماره معتبره عند الشارع ؛ لأنّ الملاک فی ذلک بناء العقلاء.
وأمّا : إذا کان منشأ الظنّ لیس ممّا یصحّ الاعتماد علیه فی التفهیم عند العقلاء فلا قیمه لهذا الظنّ من ناحیه بناء العقلاء علی اتّباع الظاهر ؛ لأنّ الظهور قائم فی خلافه ، ولا ینبغی الشکّ فی عدم تأثیر مثله فی تبانیهم علی حجّیّه الظهور. والظاهر أنّ مراد الشیخ صاحب «الکفایه» من «الظنّ بالخلاف» هذا القسم الثانی فقط ، لا ما یعمّ القسم الأوّل.
ولعلّ مراد القائل باعتبار عدم الظنّ بالخلاف هو القسم الأوّل فقط ، لا ما یعمّ القسم الثانی ، فیقع التصالح بین الطرفین.
ج. أصاله عدم القرینه
ذهب الشیخ الأعظم فی رسائله إلی أنّ الأصول الوجودیّه – مثل أصاله الحقیقه ، وأصاله العموم ، وأصاله الإطلاق ، ونحوها التی هی کلّها أنواع لأصاله الظهور – ترجع کلّها إلی أصاله عدم القرینه ، (2) بمعنی أنّ أصاله الحقیقه ترجع إلی أصاله عدم قرینه المجاز ، وأصاله العموم إلی أصاله عدم المخصّص … وهکذا.
والظاهر أنّ غرضه من الرجوع أنّ حجّیّه أصاله الظهور إنّما هی من جهه بناء العقلاء علی حجّیّه أصاله عدم القرینه.
[شماره صفحه واقعی : 497]
ص: 998
وذهب الشیخ صاحب «الکفایه» إلی العکس من ذلک (1) – أی : إنّه یری أنّ أصاله عدم القرینه هی التی ترجع إلی أصاله الظهور – یعنی أنّ العقلاء لیس لهم إلاّ بناء واحد ، وهو البناء علی أصاله الظهور ، وهو نفسه بناء علی أصاله عدم القرینه ، لا أنّه هناک بناءان عندهم : بناء علی أصاله عدم القرینه ، وبناء آخر علی أصاله الظهور ، والبناء الثانی بعد البناء الأوّل ، ومتوقّف علیه ، ولا أنّ البناء علی أصاله الظهور مرجع حجّیّته ومعناه إلی البناء علی أصاله عدم القرینه.
أقول : الحقّ أنّ الأمر لا کما أفاده الشیخ الأعظم ، ولا کما أفاده صاحب «الکفایه» ؛ فإنّه لیس هناک أصل عند العقلاء غیر أصاله الظهور یصحّ أن یقال له : «أصاله عدم القرینه» ؛ فضلا عن أن یکون هو المرجع لأصاله الظهور ، أو أنّ أصاله الظهور هی المرجع له.
بیان ذلک أنّه عند الحاجه إلی إجراء أصاله الظهور لا بدّ أن یحتمل أنّ المتکلّم الحکیم أراد خلاف ظاهر کلامه. وهذا الاحتمال لا یخرج عن إحدی صورتین ، لا ثالثه لهما :
الأولی : أن یحتمل إراده خلاف الظاهر ، مع العلم بعدم نصب قرینه من قبله ، لا متّصله ولا منفصله. وهذا الاحتمال ، إمّا من جهه احتمال الغفله عن نصب القرینه ، أو احتمال قصد الإیهام ، أو احتمال الخطأ ، أو احتمال قصد الهزل ، أو لغیر ذلک ؛ فإنّه فی هذه الموارد یلزم المتکلّم بظاهر کلامه ، فیکون حجّه علیه ، ویکون حجّه له أیضا علی الآخرین. ولا تسمع منه دعوی الغفله ، ونحوها ، وکذلک لا تسمع من الآخرین دعوی احتمالهم للغفله ، ونحوها. وهذا معنی أصاله الظهور عند العقلاء ، أی إنّ الظهور هو الحجّه عندهم – کالنصّ – بإلغاء کلّ تلک الاحتمالات.
ومن الواضح أنّه فی هذه الموارد لا موقع لأصاله عدم القرینه ، سالبه بانتفاء الموضوع ؛ لأنّه لا احتمال لوجودها ، حتی نحتاج إلی نفیها بالأصل. فلا موقع إذن فی هذه الصوره للقول برجوع أصاله الظهور إلی هذا الأصل ، ولا للقول برجوعه إلی أصاله الظهور.
الثانیه : أن یحتمل إراده خلاف الظاهر من جهه احتمال نصب قرینه خفیت علینا ؛ فإنّه فی هذه الصوره یکون موقع لتوهّم جریان أصاله عدم القرینه ، ولکن فی الحقیقه أنّ معنی بناء
[شماره صفحه واقعی : 498]
ص: 999
العقلاء علی أصاله الظهور – کما تقدّم – أنّهم یعتبرون الظهور حجّه – کالنصّ – بإلغاء احتمال الخلاف ، أیّ احتمال کان. ومن جمله الاحتمالات التی تلغی – إن وجدت – احتمال نصب القرینه ، وحکمه حکم احتمال الغفله ، ونحوها من جهه أنّه احتمال ملغی ومنفیّ لدی العقلاء.
وعلیه ، فالمنفیّ عند العقلاء هو الاحتمال ، لا أنّ المنفیّ وجود القرینه الواقعیّه ؛ لأنّ القرینه الواقعیّه غیر الواصله لا أثر لها فی نظر العقلاء ، ولا تضرّ فی الظهور ، حتی یحتاج إلی نفیها بالأصل ، بینما أنّ معنی أصاله عدم القرینه – لو کانت – البناء علی نفی وجود القرینه ، لا البناء علی نفی احتمالها ، والبناء علی نفی الاحتمال هو معنی البناء علی أصاله الظهور ، لیس شیئا آخر.
وإذا اتّضح ذلک یکون واضحا لدینا أنّه لیس للعقلاء فی هذه الصوره الثانیه أیضا أصل یقال له : «أصاله عدم القرینه» ، حتی یقال برجوعه إلی أصاله الظهور ، أو برجوعها إلیه ، سالبه بانتفاء الموضوع.
والخلاصه أنّه لیس لدی العقلاء إلاّ أصل واحد ، هو أصاله الظهور ، ولیس لهم إلاّ بناء واحد ، وهو البناء علی إلغاء کلّ احتمال ینافی الظهور – من نحو احتمال الغفله ، أو الخطأ ، أو تعمّد الإیهام ، أو نصب القرینه علی الخلاف ، أو غیر ذلک – فکلّ هذه الاحتمالات – إن وجدت – ملغاه فی نظر العقلاء ، ولیس معنی إلغائها إلاّ اعتبار الظهور حجّه کأنّه نصّ لا احتمال معه بالخلاف ، لا أنّه هناک لدی العقلاء أصول متعدّده وبناءات مترتّبه مترابطه ، کما ربّما یتوهّم ، حتی یکون بعضها متقدّما علی بعض ، أو بعضها یساند (1) بعضا.
نعم ، لا بأس بتسمیه إلغاء احتمال الغفله ب- «أصاله عدم الغفله» من باب المسامحه ، وکذلک تسمیه إلغاء احتمال القرینه بأصاله عدمها … وهکذا فی کلّ تلک الاحتمالات ، ولکن لیس ذلک إلاّ تعبیرا آخر عن أصاله الظهور. ولعلّ من یقول برجوع أصاله الظهور إلی أصاله عدم القرینه (2) ، أو بالعکس (3) أراد هذا المعنی من أصاله عدم القرینه. وحینئذ
[شماره صفحه واقعی : 499]
ص: 1000
لو کان هذا مرادهم ، لکان کلّ من القولین صحیحا ، ولکان مآلهما واحدا ، فلا خلاف.
د. حجّیّه الظهور بالنسبه إلی غیر المقصودین بالإفهام
ذهب المحقّق القمّیّ فی قوانینه (1) إلی عدم حجّیّه الظهور بالنسبه إلی من لم یقصد إفهامه بالکلام. ومثّل لغیر المقصودین بالإفهام بأهل زماننا وأمثالهم الذین لم یشافهوا بالکتاب العزیز ، وبالسنّه ؛ نظرا إلی أنّ الکتاب العزیز لیست خطاباته موجّهه لغیر المشافهین ، ولیس هو من قبیل تألیفات المصنّفین التی یقصد بها إفهام کلّ قارئ لها.
وأمّا : السنّه فبالنسبه إلی الأخبار الصادره عن المعصومین فی مقام الجواب عن سؤال السائلین لا یقصد منها إلاّ إفهام السائلین ، دون [من] سواهم.
أقول : إنّ هذا القول لا یستقیم ، وقد ناقشه کلّ من جاء بعده من المحقّقین ، (2) وخلاصه ما ینبغی مناقشته به أن یقال : إنّ هذا کلام مجمل غیر واضح ، فما الغرض من نفی حجّیّه الظهور بالنسبه إلی غیر المقصود إفهامه؟
1. إن کان الغرض أنّ الکلام لا ظهور ذاتیّا له بالنسبه إلی هذا الشخص فهو أمر یکذّبه الوجدان.
2. وإن کان الغرض – کما قیل (3) فی توجیه کلامه – دعوی أنّه لیس للعقلاء بناء علی إلغاء احتمال القرینه فی الظواهر بالنسبه إلی غیر المقصود بالإفهام ، فهی دعوی بلا دلیل ، بل المعروف فی بناء العقلاء عکس ذلک. قال الشیخ الأنصاریّ فی مقام ردّه : «إنّه لا فرق فی العمل بالظهور اللفظیّ ، وأصاله عدم الصارف عن الظاهر بین من قصد إفهامه ، ومن لم یقصد». (4)
3. وإن کان الغرض – کما قیل (5) فی توجیه کلامه أیضا – أنّه لمّا کان من الجائز عقلا أن
[شماره صفحه واقعی : 500]
ص: 1001
یعتمد المتکلّم علی قرینه غیر معهوده ولا معروفه إلاّ لدی من قصد إفهامه فهو احتمال لا ینفیه العقل ؛ لأنّه لا یقبح من الحکیم ، ولا یلزم نقض غرضه ، إذا نصب قرینه تخفی علی غیر المقصودین بالإفهام ، ومثل هذه القرینه الخفیّه – علی تقدیر وجودها – لا یتوقّع من غیر المقصود بالإفهام أن یعثر علیها بعد الفحص ، فهو (1) کلام صحیح فی نفسه ، إلاّ أنّه غیر مرتبط بما نحن فیه ، أی لا یضرّ بحجّیّه الظهور ببناء العقلاء.
وتوضیح ذلک أنّ الذی یقوّم حجّیّه الظهور هو نفی احتمال القرینه ببناء العقلاء ، لا نفی احتمالها بحکم العقل ، ولا ملازمه بینهما – أی إنّه إذا کان احتمال القرینه لا ینفیه العقل فلا یلزم منه عدم نفیه ببناء العقلاء النافع فی حجّیّه الظهور – ، بل الأمر أکثر من أن یقال : إنّه لا ملازمه بینهما ؛ فإنّ الظهور لا یکون ظهورا إلاّ إذا کان هناک احتمال للقرینه ، غیر منفیّ بحکم العقل ، وإلاّ لو کان احتمالها منفیّا بحکم العقل کان الکلام نصّا ، لا ظاهرا.
وعلی نحو العموم نقول : لا یکون الکلام ظاهرا لیس بنصّ قطعیّ فی المقصود إلاّ إذا کان مقترنا باحتمال عقلیّ ، أو احتمالات عقلیّه غیر مستحیله التحقّق ، مثل احتمال خطأ المتکلّم ، أو غفلته ، أو تعمّده للإیهام لحکمه ، أو نصبه لقرینه تخفی علی الغیر ، أو لا تخفی.
ثمّ لا یکون الظاهر حجّه إلاّ إذا کان البناء العملیّ من العقلاء علی إلغاء مثل هذه الاحتمالات ، أی عدم الاعتناء بها فی مقام العمل بالظاهر.
وعلیه ، فالنفی الادّعائیّ العملیّ للاحتمالات هو المقوّم لحجّیّه الظهور ، لا نفی الاحتمالات عقلا من جهه استحاله تحقّق المحتمل ؛ فإنّه إذا کانت الاحتمالات مستحیله التحقّق لا تکون محتملات ، ویکون الکلام حینئذ نصّا لا نحتاج فی الأخذ به إلی فرض بناء العقلاء علی إلغاء الاحتمالات.
وإذا اتّضح ذلک نستطیع أن نعرف أنّ هذا التوجیه المذکور للقول بالتفصیل فی حجّیّه الظهور لا وجه له ؛ فإنّه أکثر ما یثبت به أنّ نصب القرینه الخفیّه بالنسبه إلی من لم یقصد إفهامه أمر محتمل غیر مستحیل التحقّق ؛ لأنّه لا یقبح من الحکیم أن یصنع مثل ذلک ، فالقرینه محتمله عقلا. ولکن هذا لا یمنع من أن یکون البناء العملیّ من العقلاء علی إلغاء
[شماره صفحه واقعی : 501]
ص: 1002
مثل هذا الاحتمال ، سواء أمکن أن یعثر علی هذه القرینه بعد الفحص – لو کانت – أم لم یمکن.
4. ثمّ علی تقدیر تسلیم الفرق فی حجّیّه الظهور بین المقصودین بالإفهام ، وبین غیرهم ، فالشأن کلّ الشأن فی انطباق ذلک علی واقعنا بالنسبه إلی الکتاب العزیز ، والسنّه.
أمّا : الکتاب العزیز فإنّه من المعلوم لنا أنّ التکالیف التی یتضمّنها عامّه لجمیع المکلّفین ، ولا اختصاص لها بالمشافهین. وبمقتضی عمومها یجب ألاّ تقترن بقرائن تخفی علی غیر المشافهین. بل لا شکّ فی أنّ المشافهین لیسوا وحدهم المقصودین بالإفهام بخطابات القرآن الکریم.
وأمّا : السنّه فإنّ الأحادیث الحاکیه لها علی الأکثر تتضمّن تکالیف عامّه لجمیع المکلّفین ، أو المقصود بها إفهام الجمیع ، حتی غیر المشافهین ، وقلّما یقصد بها إفهام خصوص المشافهین فی بعض الجوابات علی أسئله خاصّه. وإذا قصد ذلک فإنّ التکلیف فیها لا بدّ أن یعمّ غیر السائل بقاعده الاشتراک. ومقتضی الأمانه فی النقل ، وعدم الخیانه من الراوی ، المفروض فیه ذلک أن ینبّه علی کلّ قرینه دخیله فی الظهور ، ومع عدم بیانها منه یحکم بعدمها.
ه. حجّیّه ظواهر الکتاب
نسب إلی جماعه من الأخباریّین القول بعدم حجّیّه ظواهر الکتاب العزیز (1) ، وأکّدوا : أنّه لا یجوز العمل بها من دون أن یرد بیان وتفسیر لها من طریق آل البیت علیهم السلام (2).
أقول : إنّ القائلین بحجّیّه ظواهر الکتاب :
1. لا یقصدون حجّیّه کلّ ما فی الکتاب ، وفیه آیات محکمات ، وأخر متشابهات. بل المتشابهات لا یجوز تفسیرها بالرأی. ولکنّ التمییز بین المحکم والمتشابه لیس بالأمر العسیر علی الباحث المتدبّر ؛ إذا کان هذا ما یمنع من الأخذ بالظواهر التی هی من نوع المحکم.
[شماره صفحه واقعی : 502]
ص: 1003
2. لا یقصدون – أیضا – بالعمل بالمحکم من آیاته جواز التسرّع بالعمل به من دون فحص کامل عن کلّ ما یصلح لصرفه عن الظهور فی الکتاب والسنّه من نحو الناسخ ، والمخصّص ، والمقیّد ، وقرینه المجاز …
3. لا یقصدون – أیضا – أنّه یصحّ لکلّ أحد أن یأخذ بظواهره وإن لم تکن له سابقه معرفه ، وعلم ، ودراسه لکلّ ما یتعلّق بمضمون آیاته. فالعامیّ وشبه العامیّ لیس له أن یدّعی فهم ظواهر الکتاب ، والأخذ بها.
وهذا أمر لا اختصاص له بالقرآن ، بل هذا شأن کلّ کلام یتضمّن المعارف العالیه والأمور العلمیّه ، وهو یتوخّی (1) الدقّه فی التعبیر. ألا تری أنّ لکلّ علم أهلا یرجع إلیهم فی فهم مقاصد کتب ذلک العلم ، وأنّ له أصحابا یؤخذ منهم آراء ما فیه من مؤلّفات؟ مع أنّ هذه الکتب والمؤلّفات لها ظواهر تجری علی قوانین الکلام ، وأصول اللغه ، وسنن أهل المحاوره ، هی حجّه علی المخاطبین بها ، وهی حجّه علی مؤلّفیها ، ولکن لا یکفی للعامیّ أن یرجع إلیها لیکون عالما بها ، أو یحتجّ بها ، أو یحتجّ بها علیه ، بغیر تلمذه علی أحد من أهلها ، ولو فعل ذلک هل تراه لا یؤنّب علی ذلک ، (2) ولا یلام؟ (3)
وکلّ ذلک لا یسقط ظواهرها عن کونها حجّه فی نفسها ، ولا یخرجها عن کونها ظواهر یصحّ الاحتجاج بها.
وعلی هذا ، فالقرآن الکریم – إذ نقول : إنّه حجّه علی العباد – فلیس معنی ذلک أنّ ظواهره کلّها هی حجّه بالنسبه إلی کلّ أحد ، حتی بالنسبه إلی من لم یتزوّد (4) بشیء من العلم ، والمعرفه (5).
وحینئذ نقول لمن ینکر حجّیّه ظواهر الکتاب : ما ذا تعنی من هذا الإنکار؟
1. إن کنت تعنی هذا المعنی الذی تقدم ذکره – وهو عدم جواز التسرّع بالأخذ بها من
[شماره صفحه واقعی : 503]
ص: 1004
دون فحص عمّا یصلح لصرفها عن ظواهرها ، وعدم جواز التسرّع بالأخذ بها من کلّ أحد – فهو کلام صحیح. وهو أمر طبیعیّ فی کلّ کلام عال رفیع ، وفی کلّ مؤلّف فی المعارف العالیه. ولکن قلنا : إنّه لیس معنی ذلک أنّ ظواهره مطلقا لیست بحجّه بالنسبه إلی کلّ أحد.
2. وإن کنت تعنی الجمود علی خصوص ما ورد من آل البیت علیهم السلام – علی وجه لا یجوز التعرّض لظواهر القرآن ، والأخذ بها مطلقا فیما لم یرد فیه بیان من قبلهم ، حتی بالنسبه إلی من یستطیع فهمه من العارفین بمواقع الکلام ، وأسالیبه ، ومقتضیات الأحوال ، مع الفحص عن کلّ ما یصلح للقرینه ، أو ما یصلح لنسخه – فإنّه (1) أمر لا یثبته ما ذکروه له من الأدلّه.
کیف؟ وقد ورد عنهم علیهم السلام إرجاع الناس إلی القرآن الکریم ، مثل ما ورد من الأمر بعرض الأخبار المتعارضه علیه (2) ، بل ورد عنهم ما هو أعظم من ذلک ، وهو عرض کلّ ما ورد عنهم علی القرآن الکریم (3) ، کما ورد عنهم الأمر بردّ الشروط المخالفه للکتاب فی أبواب العقود (4) ، ووردت عنهم أخبار خاصّه دالّه علی جواز التمسّک بظواهره ، نحو قوله علیه السلام لزراره لمّا قال له : من أین علمت أنّ المسح ببعض الرأس؟ فقال علیه السلام : «لمکان الباء» (5) ، ویقصد الباء من قوله (تعالی) : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ) (6). فعرّف زراره [أنّه] کیف یستفید الحکم من ظاهر الکتاب.
ثمّ إذا کان یجب الجمود علی ما ورد من أخبار بیت العصمه فإنّ معنی ذلک هو الأخذ بظواهر أقوالهم ، لا بظواهر الکتاب. وحینئذ ننقل الکلام إلی نفس أخبارهم ، حتی فیما یتعلّق منها بتفسیر الکتاب ، فنقول : هل یکفی لکلّ أحد أن یرجع إلی ظواهرها من دون تدبّر وبصیره ومعرفه ، ومن دون فحص عن القرائن ، واطّلاع علی کلّ ما دخل فی مضامینها؟
بل هذه الأخبار لا تقلّ من هذا الجهه عن ظواهر الکتاب ، بل الأمر فیها أعظم ؛ لأنّ سندها یحتاج إلی تصحیح ، وتنقیح ، وفحص ؛ ولأنّ جمله منها منقوله بالمعنی ، وما ینقل
[شماره صفحه واقعی : 504]
ص: 1005
بالمعنی لا یحرز فیه نصّ ألفاظ المعصوم ، وتعبیره ، ولا مراداته. ولا یحرز فی أکثرها أنّ النقل کان لنصّ الألفاظ.
وأمّا : ما ورد من النهی عن التفسیر بالرأی – مثل النبوی المشهور : «من فسّر القرآن برأیه فلیتبوّأ مقعده من النار» (1) – ، فالجواب عنه أنّ التفسیر غیر الأخذ بالظاهر ، والأخذ بالظاهر لا یسمّی تفسیرا ، علی أنّ مقتضی الجمع بینها وبین تلک الأخبار المجوّزه للأخذ بالکتاب والرجوع إلیه حمل التفسیر بالرأی – إذا سلّمنا أنّه یشمل الأخذ بالظاهر – علی معنی التسرّع بالأخذ به بالاجتهادات الشخصیّه ، من دون فحص ، ومن دون سابقه معرفه وتأمّل ودراسه ، کما یعطیه التعلیل فی بعضها ، بأنّ فیه ناسخا ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا. مع أنّه فی الکتاب العزیز من المقاصد العالیه ما لا ینالها إلاّ أهل الذکر ، وفیه ما یقصر عن الوصول إلی إدراکه أکثر الناس ، ولا یزال ینکشف له من الأسرار ما کان خافیا علی المفسّرین کلّما تقدّمت العلوم والمعارف ممّا یوجب الدهشه ، (2) ویحقّق إعجازه من هذه الناحیه.
والتحقیق أنّ فی الکتاب العزیز جهات کثیره من الظهور تختلف ظهورا وخفاء ، ولیست ظواهره من هذه الناحیه علی نسق واحد بالنسبه إلی أکثر الناس ، وکذلک کلّ کلام ، ولا یخرج الکلام بذلک عن کونه ظاهرا یصلح للاحتجاج به عند أهله ، بل قد تکون الآیه الواحده لها ظهور من جهه لا یخفی علی کلّ أحد ، وظهور آخر یحتاج إلی تأمّل وبصیره ، فیخفی علی کثیر من الناس.
ولنضرب لذلک مثلا ، قوله (تعالی) : (إِنَّا أَعْطَیْناکَ الْکَوْثَرَ) (3) ، فإنّ هذه الآیه الکریمه ظاهره فی أنّ الله (تعالی) قد أنعم علی نبیّه محمّد صلی الله علیه و آله بإعطائه الکوثر. وهذا الظهور بهذا المقدار لا شکّ فیه لکلّ أحد. ولکن لیس کلّ الناس فهموا المراد من «الکوثر». فقیل : «المراد به نهر فی الجنّه». وقیل : «المراد القرآن والنبوّه». وقیل : «المراد به ابنته
[شماره صفحه واقعی : 505]
ص: 1006
فاطمه علیها السلام». وقیل غیر ذلک. (1) ولکن من یدقّق فی السوره یجد أنّ فیها قرینه علی المراد منه ، وهی الآیه التی بعدها (إِنَّ شانِئَکَ هُوَ الْأَبْتَرُ). (2) و «الأبتر» : الذی لا عقب له ، فإنّه بمقتضی المقابله یفهم منها أنّ المراد الإنعام علیه بکثره العقب ، والذرّیّه. وکلمه «الکوثر» لا تأبی عن ذلک ، فإنّ «فوعل» تأتی للمبالغه ، فیراد بها المبالغه فی الکثره ، والکثره : نماء العدد. فیکون المعنی : إنّا أعطیناک الکثیر من الذرّیّه ، والنسل. وبعد هذه المقارنه ووضوح معنی الکوثر یکون للآیه ظهور یصحّ الاحتجاج به ، ولکنّه ظهور بعد التأمّل والتبصّر. وحینئذ ینکشف صحّه تفسیر کلمه «الکوثر» بفاطمه علیها السلام ؛ لانحصار ذرّیّته الکثیره من طریقها ، لا علی أن تکون الکلمه من أسمائها.
تمرینات «58»
1. ما هو محلّ البحث فی الباب الخامس؟
2. ما هی طرق إثبات الظواهر؟
3. لم لا یدلّ الإجماع وبناء العقلاء علی حجّیّه قول اللغویّ؟
4. ما هو الوجه الصحیح فی الاستدلال علی حجّیّه قول اللغویّ؟
5. ما هو رأی المحقّق النائینی فی الفرق بین الظهور التصوریّ والظهور التصدیقیّ؟ وما هو رأی المصنّف فیه؟
6. ما الوجه فی حجّیّه الظهور؟
7. هل یشترط فی تبانی العقلاء علی حجّیّه الظاهر حصول الظنّ الفعلی بمراد المتکلّم؟
8. هل یشترط فیه عدم الظنّ بخلاف الظاهر؟ أذکر ما قال المحقّق الخراسانیّ ، والمصنّف فی المقام.
9. هل اشترط فیه جریان أصاله عدم القرینه؟ اذکر قول الشیخ ، وقول المحقّق الخراسانیّ ، ومختار المصنّف.
10. ما هو رأی المحقّق القمّی فی حجّیّه الظهور؟ وما الجواب عنه؟
11. ما هو رأی الأخباریّین فی حجّیّه ظواهر الکتاب العزیز؟ وما الجواب عنه؟
12. ما الجواب عمّا ورد فی النهی عن التفسیر بالرأی؟
[شماره صفحه واقعی : 506]
ص: 1007
الباب السادس : الشهره
اشاره
إنّ الشهره لغه تتضمّن معنی ذیوع الشیء ووضوحه. ومنه قولهم : «شهر فلان سیفه» ، و «سیف مشهور».
وقد أطلقت «الشهره» باصطلاح أهل الحدیث علی کلّ خبر کثر راویه علی وجه لا یبلغ حدّ التواتر. والخبر یقال له حینئذ : «مشهور» ، کما قد یقال له : «مستفیض».
وکذلک یطلقون «الشهره» باصطلاح الفقهاء علی کلّ ما لا یبلغ درجه الإجماع من الأقوال فی المسأله الفقهیّه. فهی عندهم لکلّ قول کثر القائل به فی مقابل القول النادر. والقول یقال له : «مشهور» ، کما أنّ المفتین الکثیرین أنفسهم یقال لهم : «مشهور» ، فیقولون : «ذهب المشهور إلی کذا» ، و «قال المشهور بکذا» … وهکذا.
وعلی هذا ، فالشهره فی الاصطلاح علی قسمین :
1. الشهره فی الروایه : وهی – کما تقدّم – عباره عن شیوع نقل الخبر من عدّه رواه ، علی وجه لا یبلغ حدّ التواتر. ولا یشترط فی تسمیتها ب- «الشهره» أن یشتهر العمل بالخبر عند الفقهاء أیضا ، فقد یشتهر وقد لا یشتهر. وسیأتی فی مبحث التعادل والتراجیح (1) أنّ هذه الشهره من أسباب ترجیح الخبر علی ما یعارضه من الأخبار. فیکون الخبر المشهور حجّه من هذه الجهه.
2. الشهره فی الفتوی : وهی – کما تقدّم – عباره عن شیوع الفتوی عند الفقهاء بحکم شرعیّ ، وذلک بأن یکثر المفتون علی وجه لا تبلغ الکثره (2) درجه الإجماع الموجب للقطع
[شماره صفحه واقعی : 507]
ص: 1008
بقول المعصوم.
فالمقصود بالشهره – إذن – ذیوع الفتوی الموجب للاعتقاد بمطابقتها (1) للواقع من غیر أن یبلغ (2) درجه القطع.
وهذه الشهره فی الفتوی علی قسمین من جهه وقوع البحث عنها والنزاع فیها :
الأوّل : أن یعلم فیها أنّ مستندها خبر خاصّ موجود بین أیدینا. وتسمّی حینئذ «الشهره العملیّه». وسیأتی فی باب التعادل والتراجیح البحث عمّا إذا کانت هذه الشهره العملیّه موجبه لجبر الخبر الضعیف من جهه السند ، والبحث أیضا عمّا إذا کانت موجبه لجبر الخبر غیر الظاهر من جهه الدلاله. (3)
الثانی : ألاّ یعلم فیها أنّ مستندها أیّ شیء هو؟ فتکون شهره فی الفتوی مجرّده ، سواء کان هناک خبر علی طبق الشهره ولکن لم یستند إلیها المشهور ، أو لم یعلم استنادهم إلیه ، أم لم یکن خبر أصلا. وینبغی أن تسمّی هذه ب- «الشهره الفتوائیّه». وهی – أعنی الشهره الفتوائیّه – موضوع بحثنا هنا الذی لأجله عقدنا هذا الباب. فقد قیل (4) : «إنّ هذه الشهره حجّه علی الحکم الذی وقعت علیه الفتوی من جهه کونها شهره ، فتکون من الظنون الخاصّه ، کخبر الواحد». وقیل : «لا دلیل علی حجّیتها». (5)
وهذا الاختلاف بعد الاتّفاق علی أنّ فتوی مجتهد واحد أو أکثر ما لم تبلغ الشهره
[شماره صفحه واقعی : 508]
ص: 1009
لا تکون حجّه علی مجتهد آخر ، ولا یجوز التعویل علیها. وهذا معنی ما ذهبوا إلیه من عدم جواز التقلید ، أی بالنسبه إلی من یتمکّن من الاستنباط.
والحقّ أنّه لا دلیل علی حجّیّه الظنّ الناشئ من الشهره ، مهما بلغ من القوّه ، وإن کان من المسلّم به أنّ الخبر الذی عمل به المشهور حجّه ولو کان ضعیفا من ناحیه السند ، کما سیأتی بیانه فی محلّه. (1) وقد ذکروا لحجّیّه الشهره جمله من الأدلّه ، کلّها مردوده :
الدلیل الأوّل : أولویّتها من خبر العادل
قیل : «إنّ أدلّه حجّیّه خبر الواحد تدلّ علی حجّیّه الشهره بمفهوم الموافقه ؛ نظرا إلی أنّ الظنّ الحاصل من الشهره أقوی غالبا من الظنّ الحاصل من خبر الواحد ، حتی العادل ، فالشهره أولی بالحجّیّه من خبر العادل». (2)
والجواب أنّ هذا المفهوم إنّما یتمّ إذا أحرزنا علی نحو الیقین أنّ العلّه فی حجّیّه خبر العادل هی إفادته الظنّ ، لیکون ما هو أقوی ظنّا أولی بالحجّیّه. ولکن هذا غیر ثابت فی وجه حجّیّه خبر الواحد إذا لم یکن الثابت عدم اعتبار الظنّ الفعلیّ.
الدلیل الثانی : عموم تعلیل آیه النبأ
وقیل : «إنّ عموم التعلیل فی آیه النبأ (أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَهٍ) (3) یدلّ علی اعتبار مثل الشهره ؛ لأنّ الذی یفهم من التعلیل أنّ الإصابه من الجهاله هی المانعه من قبول خبر الفاسق بلا تبیّن ، فیدلّ علی أنّ کلّ ما یؤمن معه من الإصابه بجهاله فهو حجّه یجب الأخذ به. والشهره کذلک».
والجواب أنّ هذا لیس تمسّکا بعموم التعلیل – علی تقدیر تسلیم أنّ هذه الفقره من الآیه وارده مورد التعلیل ، وقد تقدّم بیان ذلک فی أدلّه حجّیّه خبر الواحد (4) – ، بل هذا
[شماره صفحه واقعی : 509]
ص: 1010
الاستدلال تمسّک بعموم نقیض التعلیل. ولا دلاله فی الآیه علی نقیض التعلیل بالضروره ؛ لأنّ هذه الآیه نظیره نهی الطبیب عن بعض الطعام لأنّه حامض – مثلا – ، فإنّ هذا التعلیل لا یدلّ علی أنّ کلّ ما هو لیس بحامض یجوز أو یجب أکله. وکذلک هنا ؛ فإنّ حرمه العمل بنبإ الفاسق بدون تبیّن – لأنّه یستلزم الإصابه بجهاله – لا تدلّ علی وجوب الأخذ بکلّ ما یؤمن فیه ذلک وما لا یستلزم الإصابه بجهاله.
وأمّا : دلالتها علی خصوص حجّیّه خبر الواحد العادل فقد استفدناها من طریق آخر ، وهو طریق مفهوم الشرط علی ما تقدّم شرحه ، (1) لا من طریق عموم نقیض التعلیل.
وبعباره أخری : إنّ أکثر ما تدلّ الآیه فی تعلیلها علی (2) أنّ الإصابه بجهاله مانعه عن تأثیر المقتضی لحجّیّه الخبر ، ولا تدلّ علی وجود المقتضی للحجّیّه فی کلّ شیء آخر ؛ حیث لا یوجد فیه المانع ، حتی تکون دالّه علی حجّیّه مثل الشهره المفقود فیها المانع. أو نقول : إنّ فقدان المانع عن الحجّیّه فی مثل الشهره لا یستلزم وجود المقتضی فیها للحجّیّه ، ولا تدلّ الآیه علی أنّ کلّ ما لیس فیه مانع فالمقتضی فیه موجود.
الدلیل الثالث : دلاله بعض الأخبار
قیل : «إنّ بعض الأخبار دالّه علی اعتبار الشهره ، مثل مرفوعه زراره : قال زراره : سألت الباقر علیه السلام ، فقلت : – جعلت فداک – یأتی عنکم الخبران ، أو الحدیثان المتعارضان ، فبأیّهما آخذ؟ قال علیه السلام «[یا زراره!] خذ بما اشتهر بین أصحابک ، ودع الشاذّ النادر». قلت یا سیّدی ، إنّهما معا مشهوران [مرویّان] ، مأثوران عنکم. قال علیه السلام : «خذ بما یقوله (3) أعدلهما …» إلی آخر الخبر (4) ، (5).
[شماره صفحه واقعی : 510]
ص: 1011
والاستدلال بهذه المرفوعه من وجهین :
الأوّل : أنّ المراد من الموصول فی قوله : «بما اشتهر» مطلق المشهور بما هو مشهور ، لا خصوص الخبر ، فیعمّ المشهور بالفتوی ؛ لأنّ الموصول من الأسماء المبهمه التی تحتاج إلی ما یعیّن مدلولها ، والمعیّن لمدلول الموصول هی الصله ، وهنا – وهی (1) قوله : «اشتهر» – تشمل کلّ شیء اشتهر ، حتی الفتوی.
الثانی : أنّه علی تقدیر أن یراد من الموصول خصوص الخبر ؛ فإنّ المفهوم من المرفوعه إناطه الحکم بالشهره ، فتدلّ علی أنّ الشهره بما هی شهره توجب اعتبار المشتهر ، فیدور الحکم معها حیثما دارت ، فالفتوی المشتهره أیضا معتبره ، کالخبر المشهور.
والجواب : أمّا عن الوجه الأوّل : فبأنّ الموصول کما یتعیّن المراد منه بالصله ، کذلک یتعیّن بالقرائن الأخری المحفوفه به. والذی یعیّنه هنا السؤال المتقدّم علیه ؛ إذ السؤال وقع عن نفس الخبر ، والجواب لا بدّ أن یطابق السؤال. وهذا نظیر ما لو سألت : أیّ إخوتک أحبّ إلیک؟ فأجبت : «من کان أکبر منّی» ، فإنّه لا ینبغی أن یتوهّم أحد أنّ الحکم فی هذا الجواب یعمّ کلّ من کان أکبر منک ، ولو کان من غیر إخوتک.
وأمّا عن الوجه الثانی : فبأنّه بعد وضوح إراده الخبر من الموصول (2) یکون الظاهر من الجمله تعلیق الحکم علی الشهره فی خصوص الخبر ، فیکون المناط فی الحکم شهره الخبر بما أنّها شهره الخبر ، لا الشهره بما هی ، وإن کانت منسوبه إلی شیء آخر.
وکذلک یقاس الحال فی مقبوله ابن حنظله ، (3) الآتیه فی باب التعادل والتراجیح. (4)
تنبیه
من المعروف عن المحقّقین من علمائنا أنّهم لا یجرءون علی مخالفه المشهور إلاّ مع
[شماره صفحه واقعی : 511]
ص: 1012
دلیل قویّ ، ومستند جلیّ یصرفهم عن المشهور ، بل ما زالوا یحرصون علی موافقه المشهور وتحصیل دلیل یوافقه ، ولو کان الدالّ علی غیره أولی بالأخذ ، وأقوی فی نفسه ، وما ذلک من جهه التقلید للأکثر ، ولا من جهه قولهم بحجّیّه الشهره ، وإنّما منشأ ذلک إکبار (1) المشهور من آراء العلماء ، لا سیّما إذا کانوا من أهل التحقیق والنظر.
وهذه طریقه جاریه فی سائر الفنون ؛ فإنّ مخالفه أکثر المحقّقین فی کلّ صناعه لا تسهل ، إلاّ مع حجّه واضحه ، وباعث قویّ ؛ لأنّ المنصف قد یشکّ فی صحّه رأیه مقابل المشهور ، فیجوّز علی نفسه الخطأ ، ویخشی أن یکون رأیه عن جهل مرکّب ، لا سیّما إذا کان قول المشهور هو الموافق للاحتیاط.
تمرینات «59»
1. ما معنی الشهره لغه؟
2. ما معنی الشهره فی اصطلاح أهل الحدیث ، واصطلاح الفقهاء؟
3. ما هی الشهره فی الروایه ، والشهره فی الفتوی؟ وأیّتهما کانت محلّ النزاع؟
4. اذکر الأقوال فی حجّیّه الشهره. واذکر الراجح منها عند المصنّف.
5. اذکر ادلّه القائلین بحجّیّه الشهره ، واذکر الجواب عنها.
6. هل مخالفه المشهور جائزه أم لا؟
[شماره صفحه واقعی : 512]
ص: 1013
الباب السابع : السیره
اشاره
المقصود من «السیره» – کما هو واضح – استمرار عاده الناس وتبانیهم العملیّ علی فعل شیء ، أو ترکه.
والمقصود بالناس إمّا جمیع العقلاء والعرف العامّ من کلّ ملّه ونحله ، فیعمّ المسلمین وغیرهم ؛ وتسمّی السیره حینئذ «السیره العقلائیّه». والتعبیر الشائع عند الأصولیّین المتأخّرین تسمیتها ب : «بناء العقلاء». وإمّا جمیع المسلمین بما هم مسلمون ، أو خصوص أهل نحله خاصّه منهم ، کالإمامیّه – مثلا – ؛ وتسمّی السیره حینئذ «سیره المتشرّعه» ، أو «السیره الشرعیّه» ، أو «السیره الإسلامیّه».
وینبغی التنبیه علی حجّیّه کلّ من هذین القسمین ؛ لاستکشاف الحکم الشرعیّ فیما جرت علیه السیره ، وعلی مدی دلاله السیره ، فنقول :
وهناک قلنا : إنّ بناء العقلاء لا یکون دلیلا إلاّ إذا کان یستکشف منه علی نحو الیقین موافقه الشارع وإمضاؤه لطریقه العقلاء ؛ لأنّ الیقین تنتهی إلیه حجّیّه کلّ حجّه.
وقلنا هناک : إنّ موافقه الشارع لا تستکشف علی نحو الیقین إلاّ بأحد شروط ثلاثه. ونذکر خلاصتها هنا بأسلوب آخر من البیان ، فنقول :
إنّ السیره إمّا أن ینتظر فیها أن یکون الشارع متّحد المسلک مع العقلاء ؛ إذ لا مانع من ذلک. وإمّا ألاّ ینتظر ذلک ؛ لوجود مانع من اتّحاده معهم فی المسلک ، کما فی الاستصحاب.
فإن کان الأوّل ، فإن ثبت من الشارع الردع عن العمل بها فلا حجّیّه فیها قطعا.
وإن لم یثبت الردع منه ، (1) فلا بدّ أن یعلم اتّحاده فی المسلک معهم ؛ لأنّه أحد العقلاء ، بل رئیسهم ، فلو لم یرتضها ولم یتّخذها مسلکا له کسائر العقلاء ، لبیّن ذلک ، ولردعهم عنها ، ولذکر لهم مسلکه الذی یتّخذه بدلا عنها ، لا سیّما فی الأمارات المعمول بها عند العقلاء ، کخبر الواحد الثقه ، والظواهر.
وإن کان الثانی فإمّا أن یعلم جریان سیره العقلاء فی العمل بها فی الأمور الشرعیّه ، کما فی الاستصحاب. وإمّا ألاّ یعلم ذلک ، کما فی الرجوع إلی أهل الخبره فی إثبات اللغات.
فإن کان الأوّل فنفس عدم ثبوت ردعه کاف فی استکشاف موافقته لهم ، لأنّ ذلک ممّا یعنیه ویهمّه ، فلو لم یرتضها – وهی بمرأی ومسمع منه – لردعهم عنها ، ولبلّغهم بالردع ، بأیّ نحو من أنحاء التبلیغ ، فبمجرّد عدم ثبوت الردع منه نعلم بموافقته ؛ ضروره أنّ الردع الواقعیّ غیر الواصل لا یعقل أن یکون ردعا فعلیّا ، وحجّه.
وبهذا نثبت حجّیّه مثل الاستصحاب ببناء العقلاء ؛ لأنّه لمّا کان ممّا بنی علی العمل به العقلاء بما فیهم المسلمون ، وقد أجروه فی الأمور الشرعیّه بمرأی ومسمع من الإمام ، والمفروض أنّه لم یکن هناک ما یحول دون إظهار الردع ، وتبلیغه من تقیّه ، ونحوها ، فلا بدّ أن یکون الشارع قد ارتضاه ؛ طریقه فی الأمور الشرعیّه.
وإن کان الثانی – أی لم یعلم ثبوت السیره فی الأمور الشرعیّه – فإنّه لا یکفی حینئذ فی
[شماره صفحه واقعی : 514]
ص: 1015
استکشاف موافقه الشارع عدم ثبوت الردع منه ؛ إذ لعلّه ردعهم عن إجرائها (1) فی الأمور الشرعیّه فلم یجروها ، أو لعلّهم لم یجروها فی الأمور الشرعیّه من عند أنفسهم فلم یکن من وظیفه الشارع أن یردع عنها فی غیر الأمور الشرعیّه ، لو کان لا یرتضیها فی الشرعیّات. وعلیه ، فلأجل استکشاف رضا الشارع وموافقته علی إجرائها فی الشرعیّات لا بدّ من إقامه دلیل خاصّ قطعیّ علی ذلک.
وبعض السیر من هذا القبیل قد ثبت عن الشارع إمضاؤه لها ، مثل الرجوع إلی أهل الخبره عند النزاع فی تقدیر قیم الأشیاء ومقادیرها ، نظیر القیمیّات المضمونه بالتلف ونحوه ، وتقدیر قدر الکفایه فی نفقه الأقارب ، ونحو ذلک.
أمّا : ما لم یثبت فیها دلیل خاصّ – کالسیره فی الرجوع إلی أهل الخبره فی اللغات – فلا عبره بها ، وإن حصل الظنّ منها ؛ لأنّ الظنّ لا یغنی من الحقّ شیئا. کما تقدّم ذلک هناک.
2. حجّیّه سیره المتشرّعه
إنّ السیره عند المتشرّعه من المسلمین علی فعل شیء أو ترکه هی فی الحقیقه من نوع الإجماع ، بل هی أرقی (2) أنواع الإجماع ؛ لأنّها إجماع عملیّ من العلماء ، وغیرهم. والإجماع فی الفتوی إجماع قولیّ ، ومن العلماء خاصّه.
والسیره علی نحوین : تاره یعلم فیها أنّها کانت جاریه فی عصور المعصومین علیهم السلام ، حتی یکون المعصوم أحد العاملین بها ، أو یکون مقرّرا لها ، وأخری لا یعلم ذلک ، أو یعلم حدوثها بعد عصورهم.
فإن کانت علی النحو الأوّل فلا شکّ فی أنّها حجّه قطعیّه علی موافقه الشارع ، فتکون بنفسها دلیلا علی الحکم ، کالإجماع القولیّ الموجب للحدس القطعیّ برأی المعصوم. وبهذا تختلف عن «سیره العقلاء» (3) ؛ فإنّها إنّما تکون حجّه إذا ثبت من دلیل آخر إمضاء الشارع
[شماره صفحه واقعی : 515]
ص: 1016
لها ، ولو من طریق عدم ثبوت الردع من قبله ، کما سبق.
وإن کانت علی النحو الثانی ، فلا نجد مجالا للاعتماد علیها فی استکشاف موافقه المعصوم علی نحو القطع والیقین ، کما قلنا فی الإجماع ، وهی نوع منه ، بل هی دون الإجماع القولیّ فی ذلک ، کما سیأتی وجهه. (1)
قال الشیخ الأعظم قدس سره فی کتاب البیع فی مبحث المعاطاه : «وأمّا : ثبوت السیره واستمرارها علی التوریث – یقصد توریث ما یباع معاطاه – فهی کسائر سیراتهم الناشئه من المسامحه ، وقلّه المبالاه فی الدین ممّا لا یحصی فی عباداتهم ، ومعاملاتهم ، کما لا یخفی». (2)
ومن الواضح أنّه یعنی من السیره هذا النحو الثانی. والسرّ فی عدم الاعتماد علی هذا النحو من السیره هو ما نعرف من أسلوب نشأه العادات عند البشر ، وتأثیر العادات علی عواطف الناس : أنّ بعض الناس المتنفّذین ، أو المغامرین قد یعمل شیئا ؛ استجابه لعاده غیر إسلامیّه ، أو لهوی فی نفسه ، أو لتأثیرات خارجیّه ، نحو تقلید الأغیار ، أو لبواعث انفعالات نفسیّه ، مثل حبّ التفوّق علی الخصوم ، أو إظهار عظمه شخصه ، أو دینه ، أو نحو ذلک. ویأتی آخر فیقلّد الأوّل فی عمله ، ویستمرّ العمل ، فیشیع بین الناس من دون أن یحصل من یردعهم عن ذلک ؛ لغفله ؛ أو لتسامح ؛ أو لخوف ؛ أو لغلبه العاملین فلا یصغون إلی من ینصحهم ؛ أو لغیر ذلک.
وإذا مضت علی العمل عهود طویله یتلقّاه الجیل بعد الجیل ، فیصبح سیره المسلمین ، وینسی تأریخ تلک العاده. وإذا استقرّت السیره یکون الخروج علیها خروجا علی العادات المستحکمه التی من شأنها أن تتکوّن لها قدسیّه واحترام لدی الجمهور ، فیعدّون مخالفتها من المنکرات القبیحه ، وحینئذ یتراءی أنّها عاده شرعیّه وسیره إسلامیّه ، وأنّ المخالف لها مخالف لقانون الإسلام ، وخارج علی الشرع.
ویشبه أن یکون من هذا الباب سیره تقبیل الید ، والقیام احتراما للقادم ، والاحتفاء (3)
[شماره صفحه واقعی : 516]
ص: 1017
بیوم النوروز ، وزخرفه (1) المساجد والمقابر … وما إلی ذلک من عادات اجتماعیّه حادثه.
وکلّ من یغترّ بهذه السیرات وأمثالها فإنّه لم یتوصّل إلی ما توصّل إلیه الشیخ الأنصاریّ الأعظم قدس سره من إدراک سرّ نشأه العادات عند الناس علی طول الزمن ، وأنّ لکلّ جیل من العادات فی السلوک ، والاجتماع ، والمعاملات ، والمظاهر ، والملابس ما قد یختلف کلّ الاختلاف عن عادات الجیل الآخر. هذا بالنسبه إلی شعب واحد ، وقطر واحد ؛ فضلا عن الشعوب ، والأقطار بعضها مع بعض. والتبدّل فی العادات غالبا یحدث بالتدریج فی زمن طویل قد لا یحسّ به من جری علی أیدیهم التبدیل.
ولأجل هذا لا نثق فی السیرات الموجوده فی عصورنا بأنّها کانت موجوده فی العصور الإسلامیّه الأولی. ومع الشکّ فی ذلک فأجدر بها ألاّ تکون حجّه ؛ لأنّ الشکّ فی حجّیّه الشیء کاف فی وهن حجّیّته ؛ إذ لا حجّه إلاّ بعلم.
3. مدی دلاله السیره
إنّ السیره عند ما تکون حجّه فأقصی ما تقتضیه أن تدلّ علی مشروعیّه الفعل وعدم حرمته فی صوره السیره علی الفعل ، أو تدلّ علی مشروعیّه الترک وعدم وجوب الفعل فی صوره السیره علی الترک.
أمّا : استفاده الوجوب من سیره الفعل ، والحرمه من سیره الترک فأمر لا تقتضیه نفس السیره ؛ بل کذلک الاستحباب ، والکراهه ؛ لأنّ العمل فی حدّ ذاته مجمل ، لا دلاله علی أکثر من مشروعیّه الفعل ، أو الترک.
نعم ، المداومه والاستمرار علی العمل من قبل جمیع الناس المتشرّعین قد یستظهر منها استحبابه ؛ لأنّه یدلّ ذلک علی استحسانه عندهم علی الأقلّ.
ولکن یمکن أن یقال : إنّ الاستحسان له ربما ینشأ من کونه أصبح عاده لهم ، والعادات من شأنها أن یکون فاعلها ممدوحا مرغوبا فیه لدی الجمهور ، وتارکها مذموما عندهم ،
[شماره صفحه واقعی : 517]
ص: 1018
فلا یوثق – إذن – فیما جرت علیه السیره بأنّ المدح للفاعل والذمّ للتارک کانا من ناحیه شرعیّه.
والغرض أنّ السیره بما هی سیره لا یستکشف منها وجوب الفعل ، ولا استحبابه فی سیره الفعل ، ولا یستکشف منها حرمه الفعل ، ولا کراهته فی سیره الترک.
نعم ، هناک بعض الأمور یکون لازم مشروعیّتها وجوبها ، وإلاّ لم تکن مشروعه. وذلک مثل الأماره ، کخبر الواحد ، والظواهر ؛ فإنّ السیره علی العمل بالأماره لمّا دلّت علی مشروعیّه العمل بها ، فإنّ لازمها أن یکون واجبا ؛ لأنّه لا یشرع العمل بها ، ولا یصلح إلاّ إذا کانت حجّه منصوبه من قبل الشارع لتبلیغ الأحکام واستکشافها. وإذا کانت حجّه وجب العمل بها قطعا لوجوب تحصیل الأحکام وتعلّمها ؛ فینتج من ذلک أنّه لا یمکن فرض مشروعیّه العمل بالأماره ، مع فرض عدم وجوبه.
تمرینات «19»
1. ما معنی السیره؟
2. ما الفرق بین السیره العقلائیّه ، والسیره الشرعیّه؟
3. هل بناء العقلاء بإطلاقه حجّه أم لا؟ وعلی الثانی بیّن موارد حجّیّته.
4. هل سیره المتشرّعه حجّه أم لا؟
5. بیّن مدی دلاله السیره.
[شماره صفحه واقعی : 518]
ص: 1019
الباب الثامن : القیاس
تمهید
إنّ القیاس – علی ما سیأتی تحدیده ، وبیان موضع البحث عنه – من الأمارات التی وقعت معرکه الآراء بین الفقهاء.
وعلماء الإمامیّه – تبعا لآل البیت علیهم السلام – أبطلوا العمل به (1). ومن الفرق الأخری أهل الظاهر – المعروفین ب- «الظاهریّه» أصحاب داود بن علی بن خلف ، إمام أهل الظاهر – وکذلک الحنابله لم یکونوا یقیمون له وزنا. (2)
وأوّل من توسّع فیه فی القرن الثانی أبو حنیفه (رأس القیاسیّین) ، وقد نشط فی عصره ، وأخذ به الشافعیّه ، والمالکیّه. ولقد بالغ به جماعه ، فقدّموه علی الإجماع ، بل غلا آخرون ، فردّوا الأحادیث بالقیاس ، وربما صار بعضهم یؤوّل الآیات بالقیاس.
ومن المعلوم عند آل البیت علیهم السلام أنّهم لا یجوّزون العمل به ، وقد شاع عنهم «إنّ دین الله لا یصاب بالعقول» (3) و «إنّ السنّه إذا قیست محق الدین». (4) ، بل شنّوا حربا
[شماره صفحه واقعی : 519]
ص: 1020
شعواء لا هواده (1) فیها علی أهل الرأی وقیاسهم ما وجدوا للکلام متّسعا. ومناظرات الإمام الصادق علیه السلام معهم معروفه ، لا سیّما مع أبی حنیفه ، وقد رواها حتی أهل السنّه ، إذ قال له – فیما رواه ابن حزم – : «اتّق الله ولا تقس ؛ فإنّا نقف غدا بین یدی الله ، فنقول : قال الله ، وقال رسوله ، وتقول أنت وأصحابک : سمعنا ورأینا». (2)
والذی یبدو أنّ المخالفین لآل البیت علیهم السلام – الذین سلکوا غیر طریقهم ، ولم یعجبهم أن یستقوا من منبع علومهم – أعوزهم العلم بأحکام الله ، وما جاء به الرسول صلی الله علیه و آله ، فالتجئوا إلی أن یصطنعوا (3) الرأی والاجتهادات الاستحسانیّه للفتیا والقضاء بین الناس ، بل حکموا الرأی والاجتهاد حتی فیما یخالف النصّ ، أو جعلوا ذلک عذرا مبرّرا لمخالفه النصّ ، کما فی قصّه تبریر الخلیفه الأوّل لفعله خالد بن الولید فی قتل مالک بن نویره ، وقد خلا بزوجته لیله قتله ، فقال عنه : «إنّه اجتهد فأخطأ!!؟» ، وذلک لمّا أراد الخلیفه عمر بن الخطّاب أن یقاد به ، ویقام علیه الحدّ. (4)
وکان الرأی والقیاس غیر واضح المعالم عند من کان یأخذ به من الصحابه والتابعین ، حتی بدأ البحث فیه لترکیزه وتوسعه الأخذ به فی القرن الثانی علی ید أبی حنیفه وأصحابه. (5) ثمّ بعد أن أخذت الدوله العبّاسیّه تساند أهل القیاس ، وبعد ظهور النقّاد له ، انبری جماعه من علمائهم لتحدید معالمه ، وتوسیع أبحاثه ، ووضع القیود ، والاستدراکات
[شماره صفحه واقعی : 520]
ص: 1021
له ، حتی صار فنّا قائما بنفسه.
ونحن یهمّنا منه البحث عن موضع الخلاف فیه ، وحجّیته ، فنقول :
1. تعریف القیاس
إنّ خیر التعریفات للقیاس – فی رأینا – أن یقال : «هو إثبات حکم فی محلّ بعلّه لثبوته فی محلّ آخر بتلک العلّه». والمحلّ الأوّل – وهو المقیس – یسمّی «فرعا». والمحلّ الثانی – وهو المقیس علیه – یسمّی «أصلا». والعلّه المشترکه تسمّی «جامعا».
وفی الحقیقه أنّ القیاس عملیّه من المستدلّ – أی القائس – ؛ لغرض استنتاج حکم شرعیّ لمحلّ لم یرد فیه نصّ بحکمه الشرعیّ ؛ إذ توجب هذه العملیّه عنده الاعتقاد یقینا أو ظنّا بحکم الشارع.
والعملیّه القیاسیّه هی نفس حمل الفرع علی الأصل فی الحکم الثابت للأصل شرعا ، فیعطی القائس حکما للفرع ، مثل حکم الأصل ، فإن کان الوجوب أعطی له الوجوب ، وإن کان الحرمه فالحرمه … وهکذا.
ومعنی هذا الإعطاء أن یحکم بأنّ الفرع ینبغی أن یکون محکوما عند الشارع بمثل حکم الأصل ؛ للعلّه المشترکه بینهما. وهذا الإعطاء ، أو الحکم هو الذی یوجب عنده الاعتقاد بأنّ للفرع مثل ما للأصل من الحکم عند الشارع ، ویکون هذا الإعطاء ، أو الحکم ، أو الإثبات ، أو الحمل – ما شئت فعبّر – دلیلا عنده علی حکم الله فی الفرع.
وعلیه ، ف- «الدلیل» : هو الإثبات الذی هو نفس عملیّه الحمل ، وإعطاء الحکم للفرع من قبل القائس. و «نتیجه الدلیل» هو الحکم بأنّ الشارع قد حکم فعلا علی هذا الفرع بمثل حکم الأصل.
فتکون هذه العملیّه من القائس دلیلا علی حکم الشارع ؛ لأنّها توجب اعتقاده الیقینیّ أو الظنیّ بأنّ الشارع له هذا الحکم.
وبهذا التقریر یندفع الاعتراض علی مثل هذا التعریف ، بأنّ الدلیل – وهو الإثبات – نفسه نتیجه الدلیل ، بینما أنّه یجب أن یکون الدلیل مغایرا للمستدلّ علیه.
[شماره صفحه واقعی : 521]
ص: 1022
وجه الدفع أنّه اتّضح بذلک البیان أنّ الإثبات فی الحقیقه – وهو عملیّه الحمل – عمل القائس وحکمه – لا حکم الشارع – ، وهو الدلیل. وأمّا : المستدلّ علیه فهو حکم الشارع علی الفرع ، وإنّما حصل للقائس هذا الاستدلال ، لحصول الاعتقاد له بحکم الشارع من تلک العملیّه القیاسیّه التی أجراها.
ومن هنا یظهر أنّ هذا التعریف أفضل التعریفات ، وأبعدها عن المناقشات.
وأمّا : تعریفه بالمساواه بین الفرع والأصل فی العلّه (1) ، أو نحو ذلک ، (2) فإنّه تعریف بمورد القیاس ، ولیست المساواه قیاسا.
وعلی کلّ حال ، فلا یستحقّ الموضوع الإطاله ، بعد أن کان المقصود من القیاس واضحا.
2. أرکان القیاس
بما تقدّم من البیان یتّضح أنّ للقیاس أربعه أرکان :
1. «الأصل» وهو المقیس علیه المعلوم ثبوت الحکم له شرعا.
2. «الفرع» وهو المقیس المطلوب إثبات الحکم له شرعا.
3. «العلّه» وهی الجهه المشترکه بین الأصل والفرع التی اقتضت ثبوت الحکم. وتسمّی : «جامعا».
4. «الحکم» وهو نوع الحکم الذی ثبت للأصل ، ویراد إثباته للفرع.
وقد وقعت أبحاث عن کلّ من هذه الأرکان ممّا لا یهمّنا التعرّض لها (3) ، إلاّ فیما یتعلّق بأصل حجّیّته وما یرتبط بذلک. وبهذا الکفایه.
[شماره صفحه واقعی : 522]
ص: 1023
3. حجّیّه القیاس
اشاره
إنّ حجّیّه کلّ أماره تناط بالعلم – وقد سبق بیان ذلک فی هذا الجزء أکثر من مرّه (1) – ، فالقیاس – کباقی الأمارات – لا یکون حجّه إلاّ فی صورتین ، لا ثالثه لهما :
1. أن یکون بنفسه موجبا للعلم بالحکم الشرعیّ. (2)
2. أن یقوم دلیل قاطع علی حجّیّته ، إذا لم یکن بنفسه موجبا للعلم. (3)
وحینئذ لا بدّ من بحث موضوع حجّیّه القیاس عن الناحیتین ، فنقول :
أ. هل القیاس یوجب العلم؟
إنّ القیاس نوع من «التمثیل» المصطلح علیه فی المنطق. (4) وقلنا هناک : «إنّ التمثیل من الأدلّه التی لا تفید إلاّ الاحتمال ؛ لأنّه لا یلزم من تشابه شیئین فی أمر ، بل فی عدّه أمور أن یتشابها من جمیع الوجوه والخصوصیّات». (5)
نعم ، إذا قویت وجوه الشبه بین الأصل والفرع ، وتعدّدت ، یقوی فی النفس الاحتمال ، حتی یکون ظنّا ، ویقرب من الیقین. والقیافه (6) من هذا الباب. ولکن کلّ ذلک لا یغنی من الحقّ شیئا.
غیر أنّه إذا علمنا – بطریق من الطرق – أنّ جهه المشابهه علّه تامّه لثبوت الحکم فی الأصل عند الشارع ، ثمّ علمنا أیضا بأنّ هذه العلّه التامّه موجوده بخصوصیّاتها فی الفرع ؛ فإنّه لا محاله یحصل لنا – علی نحو الیقین – استنباط أنّ مثل هذا الحکم ثابت فی الفرع ، کثبوته فی الأصل ؛ لاستحاله تخلّف المعلول عن علّته التامّه. ویکون من القیاس المنطقی
[شماره صفحه واقعی : 523]
ص: 1024
البرهانی الذی یفید الیقین.
ولکنّ الشأن کلّ الشأن فی حصول الطریق لنا إلی العلم بأنّ الجامع علّه تامّه للحکم الشرعیّ. وقد سبق (1) أنّ ملاکات الأحکام لا مسرح للعقول (2) ، أو لا مجال للنظر العقلیّ فیها ، فلا تعلم إلاّ من طریق السماع من مبلّغ الأحکام الذی نصبه الله (تعالی) مبلّغا ، وهادیا.
والغرض من «کون الملاکات لا مسرح للعقول فیها» أنّ أصل تعلیل الحکم بالملاک لا یعرف إلاّ من طریق السماع ؛ لأنّه أمر توقیفیّ.
أمّا : نفس وجود الملاک فی ذاته فقد یعرف من طریق الحسّ ، ونحوه ، لکن لا بما هو علّه وملاک ، کالإسکار ؛ فإنّ کونه علّه للتحریم فی الخمر لا یمکن معرفته من غیر طریق التبلیغ بالأدلّه السمعیّه.
أمّا : وجود الإسکار فی الخمر ، وغیره من المسکرات ، فأمر یعرف بالوجدان ، ولکن لا ربط لذلک بمعرفه کونه هو الملاک فی التحریم ؛ فإنّه لیس هذا من الوجدانیّات.
وعلی کلّ حال ، فإنّ السرّ فی أنّ الأحکام وملاکاتها لا مسرح للعقول فی معرفتها واضح ؛ لأنّها أمور توقیفیّه من وضع الشارع ، کاللغات ، والعلامات ، والإشارات التی لا تعرف إلاّ من قبل واضعیها ، ولا تدرک بالنظر العقلیّ إلاّ من طریق الملازمات العقلیّه القطعیّه التی تکلّمنا عنها فیما تقدّم فی بحث الملازمات العقلیّه فی المقصد الثانی ، (3) وفی دلیل العقل من هذا الجزء ، (4) والقیاس لا یشکّل ملازمه عقلیّه بین حکم المقیس علیه ، وحکم المقیس.
نعم ، إذا ورد نصّ من قبل الشارع فی بیان علّه الحکم فی المقیس علیه ، فإنّه یصحّ الاکتفاء به فی تعدیه الحکم إلی المقیس بشرطین : الأوّل : أن نعلم بأنّ العلّه المنصوصه
[شماره صفحه واقعی : 524]
ص: 1025
تامّه یدور معها الحکم أینما دارت. والثانی : أن نعلم بوجودها فی المقیس.
والخلاصه أنّ القیاس فی نفسه لا یفید العلم بالحکم ؛ لأنّه لا یتکفّل ثبوت الملازمه بین حکم المقیس علیه وحکم المقیس. ویستثنی منه منصوص العلّه بالشرطین اللذین تقدّما. وفی الحقیقه أنّ منصوص العلّه لیس من نوع القیاس ، کما سیأتی بیانه (1). وکذلک قیاس الأولویّه.
ولأجل أن یتّضح الموضوع أکثر ، نقول : إنّ الاحتمالات الموجوده فی کلّ قیاس خمسه (2) ، ومع هذه الاحتمالات لا تحصل الملازمه بین حکم الأصل وحکم الفرع ، ولا یمکن رفع هذه الاحتمالات إلاّ بورود النصّ من الشارع ، والاحتمالات هی [کما تأتی] :
1. احتمال أن یکون الحکم فی الأصل معلّلا عند الله (تعالی) بعلّه أخری غیر ما ظنّه القائس ، بل یحتمل (3) علی مذهب هؤلاء ألاّ یکون الحکم معلّلا عند الله (تعالی) بشیء أصلا ؛ لأنّهم لا یرون الأحکام الشرعیّه معلّله بالمصالح والمفاسد وهذا من مفارقات آرائهم ، فإنّهم إذا کانوا لا یرون تبعیّه الأحکام للمصالح والمفاسد ، فکیف یؤکّدون تعلیل الحکم الشرعیّ فی المقیس علیه بالعلّه التی یظنّونها؟! بل کیف یحصل لهم الظنّ بالتعلیل؟!
2. احتمال أنّ هناک وصفا آخر ینضمّ إلی ما ظنّه القائس علّه ، بأن یکون المجموع منهما هو العلّه للحکم ، لو فرض أنّ القائس أصاب فی أصل التعلیل.
3. احتمال أن یکون القائس قد أضاف شیئا أجنبیّا إلی العلّه الحقیقیّه لم یکن له دخل فی الحکم فی المقیس علیه.
4. احتمال أن یکون ما ظنّه القائس علّه – إن کان مصیبا فی ظنّه – لیس هو الوصف المجرّد ، بل بما هو مضاف إلی موضوعه – أعنی «الأصل» – لخصوصیّه فیه.
مثال ذلک ، لو علم بأنّ الجهل بالثمن علّه موجبه شرعا فی فساد البیع ، وأراد أن یقیس علی البیع عقد النکاح إذا کان المهر فیه مجهولا ؛ فإنّه یحتمل أن یکون الجهل بالعوض ، الموجب لفساد البیع هو الجهل بخصوص العوض فی البیع ، لا مطلق الجهل بالعوض من
[شماره صفحه واقعی : 525]
ص: 1026
حیث هو جهل بالعوض ، لیسری الحکم إلی کلّ معاوضه ، حتی فی مثل الصلح المعاوضی ، والنکاح باعتبار أنّه یتضمّن معنی المعاوضه عن البضع.
5. احتمال أن تکون العلّه الحقیقیّه لحکم المقیس علیه غیر موجوده ، أو غیر متوفّره بخصوصیّاتها فی المقیس.
وکلّ هذه الاحتمالات لا بدّ من دفعها ، لیحصل لنا العلم بالنتیجه ، ولا یدفعها إلاّ الأدلّه السمعیّه الوارده عن الشارع.
وقیل : «من الممکن تحصیل العلم بالعلّه بطریق برهان السبر والتقسیم». (1) وبرهان السبر والتقسیم عباره عن عدّ جمیع الاحتمالات الممکنه ، ثمّ یقام الدلیل علی نفی واحد واحد ، حتی ینحصر الأمر فی واحد منها ، فیتعیّن ، فیقال مثلا : حرمه الربا فی البرّ : إمّا أن تکون معلّله بالطعم ، أو بالقوت ، أو بالکیل. والکلّ باطل ما عدا الکیل. فیتعیّن التعلیل به.
أقول : من شرط برهان السبر والتقسیم لیکون برهانا حقیقیّا ، أن تحصر المحتملات حصرا عقلیّا من طریق القسمه الثنائیّه التی تتردّد بین النفی والإثبات. (2)
وما یذکر – من الاحتمالات فی تعلیل الحکم الشرعیّ – لا تعدو أن تکون احتمالات استطاع القائس أن یحتملها ولم یحتمل غیرها ، لا أنّها مبنیّه علی الحصر العقلیّ المردّد بین النفی والإثبات.
وإذا کان الأمر کذلک فکلّ ما یفرضه من الاحتمالات یجوز أن یکون وراءها احتمالات لم یتصوّرها أصلا. ومن الاحتمالات أن تکون العلّه اجتماع محتملین ، أو أکثر ممّا احتمله القائس. ومن الاحتمالات أن یکون ملاک الحکم شیئا آخر ، خارجا عن أوصاف المقیس علیه لا یمکن أن یهتدی إلیه القائس ، مثل التعلیل فی قوله (تعالی) : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِینَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَیْهِمْ طَیِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (3) ؛ فإنّ الظاهر من الآیه أنّ العلّه فی
[شماره صفحه واقعی : 526]
ص: 1027
تحریم الطیّبات عصیانهم ، لا أوصاف تلک الأشیاء.
بل من الاحتمالات عند هذا القائس – الذی لا یری تبعیّه الأحکام للمصالح والمفاسد – أنّ الحکم لا ملاک ولا علّه له ، فکیف یمکن أن یدّعی حصر العلل فیما احتمله ، وقد لا تکون له علّه؟!
وعلی کلّ حال ، فلا یمکن أن یستنتج من مثل السبر والتقسیم هنا أکثر من الاحتمال. وإذا تنزّلنا فأکثر ما یحصل منه الظنّ. فرجع الأمر بالأخیر إلی الظنّ ، و (إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً). (1)
وفی الحقیقه أنّ القائلین بالقیاس لا یدّعون إفادته العلم ، بل أقصی ما یتوقّعونه إفادته للظنّ ، غیر أنّهم یرون أنّ مثل هذا الظنّ حجّه. وفی البحث الآتی نبحث عن أدلّه حجّیته.
ب. الدلیل علی حجّیّه القیاس الظنّیّ
بعد أن ثبت أنّ القیاس فی حدّ ذاته لا یفید العلم ، بقی علینا أن نبحث عن الأدلّه علی حجّیّه الظنّ الحاصل منه ؛ لیکون من الظنون الخاصّه المستثناه من عموم الآیات الناهیه عن اتّباع الظنّ ، کما صنعنا فی خبر الواحد ، والظواهر ، فنقول :
أمّا نحن – الإمامیّه – ففی غنی عن هذا البحث ؛ لأنّه ثبت لدینا علی سبیل القطع من طریق آل البیت علیهم السلام عدم اعتبار هذا الظنّ الحاصل من القیاس ، فقد تواتر عنهم النهی عن الأخذ بالقیاس ، وأنّ دین الله لا یصاب بالعقول ، فلا الأحکام فی أنفسها تصیبها العقول ، ولا ملاکاتها وعللها.
علی أنّه یکفینا فی إبطال القیاس أن نبطل ما تمسّکوا به لإثبات حجّیّته من الأدلّه ، لنرجع إلی عمومات النهی عن اتّباع الظنّ وما وراء العلم.
أمّا : غیرنا – من أهل السنّه الذین ذهبوا إلی حجّیّته – فقد تمسّکوا بالأدلّه الأربعه : الکتاب ، والسنّه ، والإجماع ، والعقل. ولا بأس أن نشیر إلی نماذج من استدلالاتهم ؛ لنری أنّ ما تمسّکوا به لا یصلح لإثبات مقصودهم ، فنقول :
[شماره صفحه واقعی : 527]
ص: 1028
الدلیل من الآیات القرآنیّه
منها : قوله (تعالی) : (فَاعْتَبِرُوا یا أُولِی الْأَبْصارِ) (1) ، بناء علی تفسیر الاعتبار بالعبور والمجاوزه ، والقیاس عبور ومجاوزه من الأصل إلی الفرع. (2)
وفیه (3) : أنّ الاعتبار هو الاتّعاظ لغه ، وهو الأنسب بمعنی الآیه الوارده فی الذین کفروا من أهل الکتاب ، إذ قذف الله (تعالی) فی قلوبهم الرعب ، یخربون بیوتهم بأیدیهم وأیدی المؤمنین. وأین هی من القیاس الذی نحن فیه؟
وقال ابن حزم فی کتابه «إبطال القیاس» : «ومن المحال أن یقول لنا : فاعتبروا یا أولی الأبصار ، ویرید القیاس ، ثمّ لا یبیّن لنا فی القرآن ولا فی الحدیث : أیّ شیء نقیس؟ ولا متی نقیس؟ ولا علی أیّ شیء نقیس؟ ولو وجدنا ذلک لوجب أن نقیس ما أمرنا بقیاسه حیث أمرنا ، وحرم علینا أن نقیس ما لا نصّ فیه جمله ، ولا نتعدّی حدوده». (4)
ومنها : قوله (تعالی) : (قالَ مَنْ یُحْیِ الْعِظامَ وَهِیَ رَمِیمٌ قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّهٍ) (5) ، باعتبار أنّ الآیه تدلّ علی مساواه النظیر للنظیر ، بل هی استدلال بالقیاس لإفحام من ینکر إحیاء العظام وهی رمیم. ولو لا أنّ القیاس حجّه لما صحّ الاستدلال فیها (6).
[شماره صفحه واقعی : 528]
ص: 1029
وفیه : أنّ الآیه لا تدلّ علی هذه المساواه بین النظیرین ، کنظیرین فی أیّه جهه کانت ، کما أنّها لیست استدلالا بالقیاس ، وإنّما جاءت لرفع استغراب المنکرین للبعث ؛ إذ یتخیّلون العجز عن إحیاء الرمیم ، فأرادت الآیه أن تثبت الملازمه بین القدره علی إنشاء العظام ، وإیجادها لأوّل مرّه ، بلا سابق وجود ، وبین القدره علی إحیائها من جدید ، بل القدره علی الثانی أولی ، وإذا ثبتت الملازمه والمفروض أنّ الملزوم – وهو القدره علی إنشائها أوّل مرّه – موجود مسلّم ، فلا بدّ أن یثبت اللازم – وهو القدره علی إحیائها ، وهی رمیم -. وأین هذا من القیاس؟
ولو صحّ أن یراد من الآیه القیاس فهو نوع من قیاس الأولویّه المقطوعه ، وأین هذا من قیاس المساواه المطلوب إثبات حجّیّته ، وهو الذی یبتنی علی ظنّ المساواه فی العلّه؟
وقد استدلّوا بآیات أخر ، مثل قوله (تعالی) : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) (1) ، (یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (2). والتشبّث بمثل هذه الآیات لا یعدو أن یکون من باب تشبّث الغریق بالطحلب (3) ، کما یقولون.
الدلیل من السنّه
رووا عن النبیّ صلی الله علیه و آله أحادیث لتصحیح القیاس ، لا تنهض حجّه لهم. ولا بأس أن نذکر بعضها کنموذج عنها ، فنقول :
[شماره صفحه واقعی : 529]
ص: 1030
منها : الحدیث المأثور عن معاذ أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله بعثه قاضیا إلی الیمن ، وقال له فیما قال : «بما ذا تقضی إذا لم تجد فی کتاب الله ، ولا فی سنّه رسول الله؟» قال معاذ : أجتهد رأیی ، ولا آلوا ، فقال صلی الله علیه و آله : «الحمد لله الذی وفّق رسول رسول الله لما یرضی رسول الله». (1)
قالوا : قد أقرّ النبیّ الاجتهاد بالرأی. واجتهاد الرأی لا بدّ من ردّه إلی أصل ، وإلاّ کان رأیا مرسلا ، والرأی المرسل غیر معتبر. فانحصر الأمر بالقیاس.
والجواب : أنّ الحدیث مرسل لا حجّیه فیه ؛ لأنّ راویه هو الحارث بن عمرو ابن أخی المغیره بن شعبه ، رواه عن أناس من أهل حمص.
ثمّ الحارث هذا نفسه مجهول لا یدری أحد من هو؟ ولا یعرف له غیر هذا الحدیث.
ثمّ إنّ الحدیث معارض بحدیث آخر فی نفس الواقعه ؛ إذ جاء فیه : «لا تقضینّ ، ولا تفضّلنّ إلاّ بما تعلم. وإن أشکل علیک أمر فقف حتی تتبیّنه ، أو تکتب إلیّ». فأجدر بذلک الحدیث أن یکون موضوعا علی الحارث ، أو منه.
مضافا إلی أنّه لا حصر فیما ذکروا ، فقد یراد من الاجتهاد بالرأی استفراغ الوسع فی الفحص عن الحکم ، ولو بالرجوع إلی العمومات ، أو الأصول. ولعلّه یشیر إلی ذلک قوله : «ولا آلو».
ومنها : حدیث الخثعمیّه التی سألت رسول الله صلی الله علیه و آله عن قضاء الحجّ عن أبیها الذی فاتته فریضه الحجّ : أینفعه ذلک؟ فقال صلی الله علیه و آله لها : «أرأیت لو کان علی أبیک دین فقضیته أکان ینفعه ذلک؟» قالت : نعم. قال : «فدین الله أحقّ بالقضاء» (2).
قالوا : فألحق الرسول دین الله بدین الآدمیّ فی وجوب القضاء ، وهو عین القیاس. (3)
والجواب : أنّه لا معنی للقول بأنّ الرسول صلی الله علیه و آله أجری القیاس فی حکمه بقضاء الحجّ ، وهو المشرّع المتلقّی الأحکام من الله (تعالی) بالوحی ، فهل کان لا یعلم بحکم قضاء الحجّ ،
[شماره صفحه واقعی : 530]
ص: 1031
فاحتاج [إلی] أن یستدلّ علیه بالقیاس؟ ما لکم کیف تحکمون؟!
وإنّما المقصود من الحدیث – علی تقدیر صحّته – تنبیه الخثعمیّه علی تطبیق العامّ علی ما سألت عنه ، وهو – أعنی العامّ – وجوب قضاء کلّ دین ؛ إذ خفی علیها أنّ الحجّ ممّا یعدّ من الدیون التی یجب قضاؤها عن المیّت ، وهو أولی بالقضاء ؛ لأنّه دین الله (تعالی).
ولا شکّ فی أنّ تطبیق العامّ علی مصادیقه المعلومه لا یحتاج إلی تشریع جدید ، غیر تشریع نفس العامّ ؛ لأنّ الانطباق قهریّ. ولیس هو من نوع القیاس.
ولا ینقضی العجب ممّن یذهب إلی عدم وجوب قضاء الحجّ ، ولا الصوم ، کالحنفیّه (1) ، ویقول : «دین الناس أحقّ بالقضاء» ، ثمّ یستدلّ بهذا الحدیث علی حجّیّه القیاس!
ومنها : حدیث بیع الرطب بالتمر ، فإنّ رسول الله صلی الله علیه و آله سأل : «أینقص الرطب إذا یبس؟» فلمّا أجیب ب- «نعم» ، قال : «فلا ، إذن». (2)
والجواب أنّ هذا الحدیث – علی تقدیر صحّته – یشبه حدیث الخثعمیّه ؛ فإنّ المقصود منه التنبیه علی تطبیق العامّ علی أحد مصادیقه الخفیّه ، ولیس هو من القیاس فی شیء.
وکذلک یقال فی أکثر الأحادیث المرویّه فی الباب. (3)
علی أنّها بجملتها معارضه بأحادیث أخر ، یفهم منها النهی عن الأخذ بالرأی ، من دون الرجوع إلی الکتاب ، والسنّه. (4)
الدلیل من الإجماع
والإجماع هو أهمّ دلیل عندهم ، وعلیه معوّلهم فی هذه المسأله. والغرض منه إجماع الصحابه.
[شماره صفحه واقعی : 531]
ص: 1032
ویجب الاعتراف بأنّ بعض الصحابه استعملوا الاجتهاد بالرأی ، وأکثروا – بل حتی فیما خالف النصّ – تصرّفا فی الشریعه باجتهاداتهم. والإنصاف أنّ ذلک لا ینبغی أن ینکر من طریقتهم ، ولکن – کما سبق أن أوضحناه – لم تکن الاجتهادات واضحه المعالم عندهم ، من کونها علی نحو القیاس ، أو الاستحسان ، أو المصالح المرسله ، ولم یعرف عنهم علی أیّ أساس کانت اجتهاداتهم ، أکانت تأویلا للنصوص ، أو جهلا بها ، أو استهانه بها؟ ربما کان بعض هذا أو کلّه من بعضهم.
وفی الحقیقه إنّما تطوّر البحث عن الاجتهاد بالرأی فی تنویعه ، وخصائصه فی القرن الثانی والثالث – کما سبق بیانه (1) – فمیّزوا بین القیاس ، والاستحسان ، والمصالح المرسله.
ومن الاجتهادات قول عمر بن الخطّاب : «متعتان کانتا علی عهد رسول الله أنا محرّمهما ، ومعاقب علیهما» (2). ومنها : جمعه الناس لصلاه التراویح. (3) ومنها : إلغاؤه فی الأذان «حیّ علی خیر العمل» (4).
فهل کان ذلک من القیاس أو من الاستحسان المحض؟
لا ینبغی أن یشکّ أنّ مثل هذه الاجتهادات لیس من القیاس فی شیء. وکذلک کثیر من الاجتهادات عندهم.
وعلیه ، فابن حزم علی حقّ إذا کان یقصد إنکار أن یکون القیاس سابقا معروفا بحدوده فی اجتهادات الصحابه ، حینما قال فی کتابه «إبطال القیاس» : «ثمّ حدث القیاس فی القرن الثانی ، فقال به بعضهم ، وأنکره سائرهم وتبرّءوا منه». (5) ، وقال فی کتابه «الإحکام» : «إنّه بدعه حدث فی القرن الثانی ، ثمّ فشا ، وظهر فی القرن الثالث». (6) أمّا : إذا أراد إنکار أصل الاجتهادات بالرأی من بعض الصحابه – وهو لا یرید ذلک قطعا – فهو إنکار لأمر ضروریّ
[شماره صفحه واقعی : 532]
ص: 1033
متواتر عنهم.
وقد ذکر الغزالیّ فی کتابه «المستصفی» (1) کثیرا من مواضع اجتهادات الصحابه برأیهم ، ولکن لم یستطع أن یثبت أنّها علی نحو القیاس ، إلاّ لأنّه لم یر وجها لتصحیحها إلاّ بالقیاس ، وتعلیل النصّ. ولیس هو منه إلاّ من باب حسن الظنّ ، لا أکثر. وأکثرها لا یصحّ تطبیقها علی القیاس.
وعلی کلّ حال ، فالشأن کلّ الشأن فی تحقّق إجماع الأمّه ، والصحابه علی الأخذ بالقیاس ، ونحن نمنعه أشدّ المنع.
أمّا أوّلا : فلما قلناه قریبا : إنّه لم یثبت أنّ اجتهاداتهم کانت من نوع القیاس ، بل فی بعضها ثبت عکس ذلک ، کاجتهادات عمر بن الخطّاب المتقدّمه ، ومثلها اجتهاد عثمان فی حرق المصاحف ، ونحو ذلک.
وأمّا ثانیا : فإنّ استعمال بعضهم للرأی – سواء کان مبنیّا علی القیاس أو علی غیره – لا یکشف عن موافقه الجمیع ، کما قال ابن حزم – فأنصف – : «أین وجدتم هذا الإجماع؟ وقد علمتم أنّ الصحابه ألوف لا تحفظ الفتیا عنهم فی أشخاص المسائل إلاّ عن مائه ونیّف وثلاثین نفسا : منهم : سبعه مکثرون ، وثلاثه عشر نفسا متوسّطون ، والباقون مقلّون جدّا ، تروی عنهم المسأله والمسألتان ، حاشا المسائل التی تیقّن إجماعهم علیها ، کالصلوات ، وصوم رمضان. (2) ، فأین الإجماع علی القول بالرأی؟». (3)
والغرض الذی نرمی إلیه أنّه لا ینکر ثبوت الاجتهاد بالرأی عند جمله من الصحابه کأبی بکر ، وعمر ، وعثمان ، وزید بن ثابت ، بل ربما من غیرهم. وإنّما الذی ینکر أن یکون ذلک بمجرّده محقّقا لإجماع الأمّه ، أو الصحابه. واتّفاق الثلاثه أو العشره بل العشرین لیس إجماعا مهما کانوا.
نعم ، أقصی ما یقال فی هذا الصدد : أنّ الباقین سکتوا ، وسکوتهم إقرار ، فیتحقّق الإجماع.
[شماره صفحه واقعی : 533]
ص: 1034
ولکن یجاب عن ذلک بأنّ السکوت لا نسلّم أنّه یحقّق الإجماع ؛ لأنّه لا یدلّ علی الإقرار إلاّ من المعصوم بشروط الإقرار. والسرّ فی ذلک أنّ السکوت فی حدّ ذاته مجمل ، فیه عند غیر المعصوم أکثر من وجه واحد واحتمال ؛ إذ قد ینشأ من الخوف ، أو الجبن ، أو الخجل ، أو المداهنه ، أو عدم العنایه ببیان الحقّ ، أو الجهل بالحکم الشرعیّ ، أو وجهه ، أو عدم وصول نبأ الفتیا إلیهم … إلی ما شاء الله من هذه الاحتمالات التی لا دافع لها بالنسبه إلی غیر المعصوم. وقد یجتمع فی شخص واحد أکثر من سبب واحد للسکوت عن الحقّ. ومن الاحتمالات أیضا أن یکون قد أنکر بعض الناس ، ولکن لم یصل نبأ الإنکار إلینا. ودواعی إخفاء الإنکار وخفائه کثیره لا تحدّ ولا تحصر.
وأمّا ثالثا : فإنّ سکوت الباقین غیر مسلّم ، ویکفی لإبطال الإجماع إنکار شخص واحد ، له شأن فی الفتیا ؛ إذ لا یتحقّق معه اتّفاق الجمیع ، فکیف إذا کان المنکرون أکثر من واحد ، وقد ثبت تخطئه القول بالرأی عن ابن عبّاس (1) ، وابن مسعود (2) ، وأضرابهما (3) ، بل روی ذلک حتی عن عمر بن الخطّاب : «إیّاکم وأصحاب الرأی ، فإنّهم أعداء السّنن ، أعیتهم الأحادیث أن یحفظوها ، فقالوا بالرأی ، فضلّوا ، وأضلّوا» (4). وإن کنت أظنّ أنّ هذه الروایه موضوعه علیه ؛ لثبوت أنّه فی مقدّمه أصحاب أهل الرأی ، مع أنّ أسلوب بیان الروایه بعید عن النسبه إلیه ، وإلی عصره.
وعلی کلّ حال ، فلا شیء أبلغ فی الإنکار من المجاهره بالخلاف ، والفتوی بالضدّ ، وهذا قد کان من جماعه ، کما قلنا ، بل زاد بعضهم ، کابن عبّاس ، وابن مسعود أن انتهی إلی ذکر المباهله ، والتخویف من الله (تعالی) ، وهل شیء أبلغ فی الإنکار من هذا؟ فأین الإجماع؟
[شماره صفحه واقعی : 534]
ص: 1035
ونحن یکفینا إنکار علیّ بن أبی طالب علیه السلام ، وهو المعصوم الذی یدور معه الحقّ کیفما دار ، کما فی الحدیث النبویّ المعروف. (1) وإنکاره معلوم من طریقته. وقد رووا عنه قوله علیه السلام : «لو کان الدین بالرأی لکان المسح علی باطن الخفّ أولی من ظاهره» (2). وهو یرید بذلک إبطال القول بجواز المسح علی الخفّ الذی لا مدرک له إلاّ القیاس ، أو الاستحسان.
الدلیل من العقل
لم یذکر أکثر الباحثین عن القیاس دلیلا عقلیّا علی حجیّته ، غیر أنّ جمله منهم (3) ذکر له وجوها أحسنها – فیما أحسب – ما سنذکره ، مع أنّه من أوهن الاستدلالات.
الدلیل : أنّا نعلم قطعا بأنّ الحوادث لا نهایه لها. ونعلم قطعا أنّه لم یرد النصّ فی جمیع الحوادث ؛ لتناهی النصوص ، ویستحیل أن یستوعب المتناهی ما لا یتناهی ؛ إذن ، فیعلم أنّه لا بدّ من مرجع لاستنباط الأحکام ، لتلافی النواقص من الحوادث ، ولیس هو إلاّ القیاس. (4)
والجواب : صحیح أنّ الحوادث الجزئیّه غیر متناهیه ، ولکن لا یجب فی کلّ حادثه جزئیّه أن یرد نصّ من الشارع بخصوصها ، بل یکفی أن تدخل فی أحد العمومات. والأمور العامّه محدوده متناهیه ، لا یمتنع ضبطها ، ولا یمتنع استیعاب النصوص لها. علی أنّ فیه مناقشات أخری ، لا حاجه بذکرها.
4. منصوص العلّه ، و قیاس الأولویّه
اشاره
ذهب بعض علمائنا – کالعلاّمه الحلیّ قدس سره (5) – إلی أنّه یستثنی من القیاس الباطل ما کان
[شماره صفحه واقعی : 535]
ص: 1036
منصوص العلّه ، وقیاس الأولویّه ؛ فإنّ القیاس فیهما حجّه. وبعض قال : «لا ، إنّ الدلیل الدالّ علی حرمه الأخذ بالقیاس شامل للقسمین ، ولیس هناک ما یوجب استثناءهما». (1)
والصحیح أن یقال : إنّ منصوص العلّه وقیاس الأولویّه هما حجّتان ، ولکن لا استثناء من القیاس ؛ لأنّهما فی الحقیقه لیسا من نوع القیاس ، بل هما من نوع الظواهر ، فحجّیّتهما من باب حجّیّه الظهور. (2) وهذا ما یحتاج إلی البیان ، فنقول :
منصوص العلّه
أمّا منصوص العلّه : فإن فهم من النصّ علی العلّه أنّ العلّه عامّه علی وجه لا اختصاص لها بالمعلّل – الذی هو کالأصل فی القیاس – فلا شکّ فی أنّ الحکم یکون عامّا شاملا للفرع ، مثل ما لو قال : «حرم الخمر ؛ لأنّه مسکر» ، فیفهم منه حرمه النبیذ ؛ لأنّه مسکر أیضا. وأمّا : إذا لم یفهم منه ذلک فلا وجه لتعدیه الحکم إلی الفرع إلاّ بنوع من القیاس الباطل ، مثل ما لو قیل : «هذا العنب حلو ؛ لأنّ لونه أسود» ؛ فإنّه لا یفهم منه أنّ کلّ ما لونه أسود حلو ، بل العنب الأسود خاصّه حلو.
وفی الحقیقه أنّه بظهور النصّ فی کون العلّه عامّه ینقلب موضوع الحکم من کونه خاصّا بالمعلّل إلی کون موضوعه کلّ ما فیه العلّه ، فیکون الموضوع عامّا یشمل المعلّل (الأصل) وغیره ، ویکون المعلّل من قبیل المثال للقاعده العامّه ، لا أنّ موضوع الحکم هو خصوص المعلّل (الأصل) ونستنبط منه الحکم فی الفرع من جهه العلّه المشترکه ، حتی یکون المدرک مجرّد الحمل والقیاس ، کما فی الصوره الثانیه ، أی التی لم یفهم فیها عموم العلّه.
ولأجل هذا نقول : إنّ الأخذ بالحکم فی الفرع فی الصوره الأولی یکون من باب الأخذ
[شماره صفحه واقعی : 536]
ص: 1037
بظاهر العموم ، ولیس هو من القیاس فی شیء ، لیکون القول بحجّیّه التعلیل استثناء من عمومات النهی عن القیاس. مثال ذلک قوله علیه السلام – فی صحیحه ابن بزیع – : «ماء البئر واسع لا یفسده شیء … ؛ لأنّ له مادّه» ، (1) فإنّ المفهوم منه – أی الظاهر منه – أنّ کلّ ماء له مادّه واسع لا یفسده شیء ، وأمّا : ماء البئر فإنّما هو أحد مصادیق الموضوع العامّ للقاعده ، فیشمل الموضوع بعمومه کلاّ من ماء البئر ، وماء الحمّام ، وماء العیون ، وماء حنفیّه الإساله (2) … وغیرها ، فالأخذ بهذا الحکم وتطبیقه علی هذه الأمور غیر ماء البئر لیس أخذا بالقیاس ، بل هو أخذ بظهور العموم ، والظهور حجّه.
هذا ، وفی عین الوقت لمّا کنّا لا نستظهر من هذه الروایه شمول العلّه (لأنّ له مادّه) لکلّ ما له مادّه وإن لم یکن ماء مطلقا ، فإنّ الحکم – وهو الاعتصام من التنجّس – لا نعدّیه إلی الماء المضاف الذی له مادّه إلاّ بالقیاس ، وهو لیس بحجّه.
ومن هنا یتّضح الفرق بین الأخذ بالعموم فی منصوص العلّه ، والأخذ بالقیاس ، فلا بدّ من التفرقه بینهما فی کلّ علّه منصوصه ، لئلاّ یقع الخلط بینهما. ومن أجل هذا الخلط بینهما یکثر العثار (3) فی تعرّف الموضوع للحکم.
وبهذا البیان والتفریق بین الصورتین یمکن التوفیق بین المتنازعین فی حجّیّه منصوص العلّه ، فمن یراه حجّه یراه فیما إذا کان له ظهور فی عموم العلّه ، ومن لا یری حجّیّته یراه فیما إذا کان الأخذ به أخذا به علی نهج القیاس.
والخلاصه أنّ المدار فی منصوص العلّه أن یکون له ظهور فی عموم الموضوع لغیر ما له الحکم – أی المعلّل الأصل – ؛ فإنّه عموم من جمله الظواهر التی هی حجّه. ولا بدّ حینئذ أن تکون حجّیّته علی مقدار ما له من الظهور فی العموم ، فإذا أردنا تعدیته إلی غیر ما یشمله ظهور العموم ، فإنّ التعدیه لا محاله تکون من نوع الحمل والقیاس الذی لا دلیل
[شماره صفحه واقعی : 537]
ص: 1038
علیه ، بل قام الدلیل علی بطلانه.
قیاس الأولویّه
أمّا قیاس الأولویّه : فهو نفسه الذی یسمّی «مفهوم الموافقه» الذی تقدّمت الإشاره إلیه (1) ، وقلنا هناک : إنّه یسمّی «فحوی الخطاب» ، کمثال الآیه الکریمه (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (2) الدالّه بالأولویّه علی النهی عن الشتم ، والضرب ، ونحوهما.
وتقدّم فی هذا الجزء (3) أنّ هذا من الظواهر ، فهو حجّه من أجل کونه ظاهرا من اللفظ ، لا من أجل کونه قیاسا ، (4) حتی یکون استثناء من عموم النهی عن القیاس ، وإن أشبه القیاس ، ولذلک سمّی ب- «قیاس الأولویّه» ، و «القیاس الجلیّ».
ومن هنا لا یفرض مفهوم الموافقه إلاّ حیث یکون للّفظ ظهور بتعدّی الحکم إلی ما هو أولی فی علّه الحکم ، کآیه التأفیف المتقدّمه.
ومنه : دلاله الإذن بسکنی الدار علی جواز التصرّف بمرافقها بطریق أولی ، ویقال لمثل هذا فی عرف الفقهاء : «إذن الفحوی».
ومنه : الآیه الکریمه (فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّهٍ خَیْراً یَرَهُ) (5) الدالّه بالأولویّه علی ثبوت الجزاء علی عمل الخیر الکثیر.
وبالجمله ، إنّما نأخذ بقیاس الأولویّه إذا کان یفهم ذلک من فحوی الخطاب ؛ إذ یکون للکلام ظهور بالفحوی فی ثبوت الحکم فیما هو أولی فی علّه الحکم ، فیکون حجّه من باب الظواهر. ومن أجل هذا عدّوه من المفاهیم ، وسمّوه «مفهوم الموافقه».
[شماره صفحه واقعی : 538]
ص: 1039
أمّا : إذا لم یکن ذلک مفهوما من فحوی الخطاب ، فلا یسمّی ذلک مفهوما بالاصطلاح ، ولا یکفی مجرّد الأولویّه وحدها فی تعدیه الحکم ؛ إذ یکون من القیاس الباطل.
ویشهد لذلک ما ورد من النهی عن مثله فی صحیحه أبان بن تغلب عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام ، قال أبان :
قلت له : ما تقول فی رجل قطع إصبعا من أصابع المرأه؟ کم فیها؟ قال : «عشر من الإبل». قلت : قطع اثنتین (1)؟ قال : «عشرون». قلت : قطع ثلاثا؟ قال : «ثلاثون». قلت : قطع أربعا؟ قال : «عشرون».
قلت : سبحان الله! یقطع ثلاثا فیکون علیه ثلاثون ، ویقطع أربعا فیکون علیه عشرون!؟ إنّ هذا کان یبلغنا ونحن بالعراق ، فنبرأ ممّن قاله ، ونقول : الذی جاء به شیطان.
فقال : «مهلا یا أبان! هذا حکم رسول الله صلی الله علیه و آله : إنّ المرأه تعاقل (2) الرجل إلی ثلث الدیه ، فإذا بلغت الثلث ، رجعت إلی النصف. یا أبان! إنّک أخذتنی بالقیاس ، والسنّه إذا قیست محق الدین». (3)
فهنا فی هذا المثال لم یکن فی المسأله خطاب یفهم منه فی الفحوی من جهه الأولویّه تعدیه الحکم إلی غیر ما تضمّنه الخطاب ، حتی یکون من باب مفهوم الموافقه. وإنّما الذی وقع من أبان قیاس مجرّد لم یکن مستنده فیه إلاّ جهه الأولویّه ؛ إذ تصوّر – بمقتضی القاعده العقلیّه الحسابیّه – أنّ الدیه تتضاعف بالنسبه بتضاعف قطع الأصابع ، فإذا کان فی قطع الثلاث ثلاثون من الإبل فلا بدّ أن یکون فی قطع الأربع أربعون ؛ لأنّ قطع الأربع قطع للثلاثه وزیاده. ولکن أبان کان لا یدری أنّ المرأه دیتها نصف دیه الرجل شرعا فیما یبلغ ثلث الدیه فما زاد ، وهی مائه من الإبل.
والخلاصه : أنّا نقول ببطلان قیاس الأولویّه إذا کان الأخذ به لمجرّد الأولویّه ، أمّا إذا کان مفهوما من التخاطب بالفحوی من جهه الأولویّه فهو حجّه من باب الظواهر ، فلا یکون
[شماره صفحه واقعی : 539]
ص: 1040
قیاسا مستثنی من القیاس الباطل.
تنبیه : الاستحسان و المصالح المرسله و سدّ الذرائع
بقی من الأدلّه المعتبره عند جمله من علماء السنّه «الاستحسان» ، (1) و «المصالح المرسله» (2) ، و «سدّ الذرائع». (3)
وهی – إن لم ترجع إلی ظواهر الأدلّه السمعیّه ، أو الملازمات العقلیّه – لا دلیل علی حجّیّتها ، بل هی أظهر أفراد الظنّ المنهیّ عنه. وهی دون القیاس من ناحیه الاعتبار.
[شماره صفحه واقعی : 540]
ص: 1041
ولو أردنا إخراجها من عمومات حرمه العمل بالظنّ لا یبقی عندنا ما یصلح لانطباق هذه العمومات علیه ممّا یستحقّ الذکر ، فیبقی النهی عن الظنّ بلا موضوع ، ومن البدیهیّ عدم جواز تخصیص الأکثر ؛ علی أنّه قد أوضحنا – فیما سبق فی الدلیل العقلیّ (1) – أنّ الأحکام وملاکاتها لا یستقلّ العقل بإدراکها ابتداء ، – أی لیس من الممکن للعقول أن تنالها ابتداء من دون السماع من مبلّغ الأحکام ، إلاّ بالملازمه العقلیّه -. وشأنها فی ذلک شأن جمیع المجعولات ، کاللغات ، والإشارات ، والعلامات ، ونحوها ؛ فإنّه لا معنی للقول بأنّها تعلم من طریق عقلیّ مجرّد ، سواء کان من طریق بدیهیّ ، أم نظریّ.
ولو صحّ للعقل هذا الأمر لما کان هناک حاجه لبعثه الرسل ، ونصب الأئمّه ؛ إذ یکون – حینئذ – کلّ ذی عقل متمکّنا بنفسه من معرفه أحکام الله (تعالی) ، ویصبح کلّ مجتهد نبیّا ، أو إماما. ومن هنا تعرف السرّ فی إصرار أصحاب الرأی علی قولهم بأنّ کلّ مجتهد مصیب ، وقد اعترف الإمام الغزالیّ بأنّه لا یمکن إثبات حجّیّه القیاس إلاّ بتصویب کلّ مجتهد ، وزاد علی ذلک قوله ب- «أنّ المجتهد وإن خالف النصّ فهو مصیب ، وأنّ الخطأ غیر ممکن فی حقّه». (2)
ومن أجل ما ذکرناه من عدم إمکان إثبات حجّیّه مثل هذه الأدلّه رأینا الاکتفاء بذلک عن شرح هذه الأدلّه ، ومرادهم منها ، ومناقشه أدلّتهم. ونحیل الطلاّب علی محاضرات «مدخل الفقه المقارن» (3) التی ألقاها أستاذ المادّه فی کلّیّه الفقه ، الأخ السید محمّد تقیّ الحکیم ؛ فإنّ فیها الکفایه.
[شماره صفحه واقعی : 541]
ص: 1042
تمرینات «20»
التمرین الأوّل :
1. اذکر الأقوال فی اعتبار القیاس. واذکر تطوّره التأریخیّ؟
2. ما هو تعریف القیاس؟
3. ما هی أرکان القیاس؟
4. هل القیاس یوجب العلم؟
5. ما الجواب عن الاستدلال ببرهان السبر والتقسیم علی أنّ القیاس یوجب العلم بالحکم؟
6. بیّن تقریب الاستدلال بقوله (تعالی) : (فاعتبروا یا أولی الأبصار) علی حجّیّه القیاس الظنّی. واذکر ما یرد علیه.
7. بیّن تقریب الاستدلال بقوله (تعالی) : (قال من یحیی العظام …) علی اعتبار الظنّ الحاصل من القیاس. واذکر ما فیه.
8. ما الجواب عن الاستدلال بالحدیث المأثور عن معاذ علی حجّیّه القیاس؟
9. هل حدیث الخثعمیّه یدّل علی حجّیّه القیاس؟
10. ما الجواب عن الاستدلال بحدیث بیع الرطب بالتمر علی حجّیّه القیاس؟
11. ما الجواب عن استدلال القائلین بحجّیّه القیاس بالإجماع؟
12. اذکر الدلیل العقلی الذی قد یقام علی اعتبار القیاس. واذکر الجواب عنه.
13. ما هو تعریف منصوص العلّه؟ وهل هو حجّه من باب القیاس؟
14. ما هو تعریف قیاس الأولویّه؟ وهل هو حجّه من باب القیاس؟
15. هل یدلّ دلیل علی حجّیّه الاستحسان ، وسدّ الذرائع ، والمصالح المرسله؟
التمرین الثانی :
1. ما هو تعریف القیاس عند ابن الحاجب ، وابن الهمام؟
2. اذکر تعریفین آخرین للقیاس ، غیر ما ذکر فی المتن.
3. بیّن تقریب الاستدلال بقوله (تعالی) : (فجزاء مثل ما قتل من النعم) علی حجّیّه القیاس ، واذکر الجواب عنه.
4. بیّن تقریب الاستدلال بقوله (تعالی) : (یأمر بالعدل والاحسان) علی حجّیّه القیاس. واذکر الجواب عنه.
5. اذکر آیتین – غیر ما فی المتن – من الآیات التی یستدلّ بها علی حجیّه القیاس. واذکر الجواب عنهما.
6. هل تصحّ نسبه القول باستثناء منصوص العلّه ، وقیاس الأولویّه من القیاس الباطل إلی العلاّمه الحلّی؟
7. ما معنی الاستحسان؟ ومن یذهب إلی اعتباره؟
8. ما هو تعریف سدّ الذرائع؟ وما القائل بحجّیّته؟
9. ما هو تعریف المصالح المرسله؟ ومن یذهب إلی اعتبارها؟
[شماره صفحه واقعی : 542]
ص: 1043
الباب التاسع : التعادل و التراجیح
تمهید
عنون الأصولیّون من القدیم هذه المسأله بعنوانها المذکور. (1)
ومرادهم من کلمه «التعادل» تکافؤ الدلیلین المتعارضین فی کلّ شیء یقتضی ترجیح أحدهما علی الآخر.
ومرادهم من کلمه «التراجیح» : جمع «ترجیح» علی خلاف القیاس فی جمع المصدر ؛ إذ جمعه ترجیحات. والمقصود منه المصدر بمعنی الفاعل ، أی المرجّح.
وإنّما جاءوا به علی صیغه الجمع ، دون «التعادل» (2) ؛ لأنّ المرجّحات بین الدلیلین المتعارضین متعدّده ، والتعادل لا یکون إلاّ فی فرض واحد ، وهو فرض فقدان کلّ المرجّحات. (3)
[شماره صفحه واقعی : 543]
ص: 1044
والغرض من هذا البحث بیان أحکام التعادل بین الدلیلین المتعارضین ، وبیان أحکام المرجّحات لأحدهما علی الآخر.
ومن هنا نعرف أنّ الأنسب أن تعنون المسأله بعنوان «التعارض بین الأدلّه» (1) ؛ لأنّ التعادل والترجیح بین الأدلّه إنّما یفرض فی مورد التعارض بینهما ، غیر أنّه لمّا کان همّ الأصولیّین فی البحث وغایتهم منه معرفه کیفیّه العمل بالأدلّه المتعارضه عند تعادلها ، وترجیحها ، عنونوها بما ذکرناه.
وهذه المسأله – کما ذکرناه سابقا (2) – ألیق شیء بها مباحث الحجّه ؛ لأنّ نتیجتها تحصیل الحجّه علی الحکم الشرعیّ عند التعارض بین الأدلّه.
وقبل الشروع فی بیان أحکام التعارض ینبغی فی المقدّمه بیان أمور یحتاج إلیها ، مثل حقیقه التعارض ، وشروطه ، وقیاسه بالتزاحم ؛ والحکومه والورود ، ومثل القواعد العامّه فی الباب ، فنقول :
[المقدّمه]
1. حقیقه التعارض
التعارض : مصدر من باب «التفاعل» الذی یقتضی فاعلین ، ولا یقع إلاّ من جانبین ، فیقال : تعارض الدلیلان. ولا تقول : «تعارض الدلیل» وتسکت (3). وعلیه ، فلا بدّ من فرض
[شماره صفحه واقعی : 544]
ص: 1045
دلیلین ، کلّ منهما یعارض الآخر.
ومعنی المعارضه أنّ کلاّ منهما – إذا تمّت مقوّمات حجّیّته – یبطل الآخر ، ویکذّبه. والتکاذب ، إمّا أن یکون فی جمیع مدلولاتهما ، ونواحی الدلاله فیهما ، وإمّا فی بعض النواحی علی وجه لا یصحّ فرض بقاء حجّیّه کلّ منهما مع فرض بقاء حجّیّه الآخر ، ولا یصحّ العمل بهما معا.
فمرجع التعارض فی الحقیقه إلی التکاذب بین الدلیلین فی ناحیه ما ، أی إنّ کلاّ منهما یکذّب الآخر ، ولا یجتمعان علی الصدق.
هذا هو المعنی الاصطلاحی للتعارض. وهو مأخوذ من «عارضه» ، أی جانبه وعدل عنه. (1)
2. شروط التعارض
ولا یتحقّق هذا المعنی من التعارض إلاّ بشروط سبعه هی مقوّمات التعارض ، نذکرها لتتّضح حقیقه التعارض ، ومواقعه :
1. ألاّ یکون أحد الدلیلین ، أو کلّ منهما قطعیّا ؛ لأنّه لو کان أحدهما قطعیّا فإنّه یعلم منه کذب الآخر ، والمعلوم کذبه لا یعارض غیره. وأمّا : القطع بالمتنافیین ففی نفسه أمر مستحیل لا یقع.
2. ألاّ یکون الظنّ الفعلیّ معتبرا فی حجّیّتهما معا ؛ لاستحاله حصول الظنّ الفعلیّ بالمتکاذبین ، کاستحاله القطع بهما. نعم ، یجوز أن یعتبر فی أحدهما المعیّن الظنّ الفعلیّ ، دون الآخر.
[شماره صفحه واقعی : 545]
ص: 1046
3. أن یتنافی مدلولاهما – ولو عرضا وفی بعض النواحی – لیحصل التکاذب بینهما ، سواء کان التنافی فی مدلولهما المطابقیّ ، أو التضمّنیّ ، أو الالتزامیّ.
والجامع فی ذلک أن یؤدّیا إلی ما لا یمکن تشریعه ، ویمتنع جعله فی نفس الأمر ، ولو کان هذا الامتناع لأمر خارج عن نفس مدلولهما ، کما فی تعارض دلیل وجوب صلاه الجمعه مع دلیل وجوب صلاه الظهر یوم الجمعه ؛ فإنّ الدلیلین فی نفسهما لا تکاذب بینهما ؛ إذ لا یمتنع اجتماع وجوب صلاتین فی وقت واحد ، ولکن لمّا علم من دلیل خارج أنّه لا تجب إلاّ صلاه واحده فی الوقت الواحد فإنّهما یتکاذبان حینئذ بضمیمه هذا الدلیل الثالث الخارج عنهما.
وعلی هذا ، فیمکن تحدید الضابط للتعارض بأن یقال : «الضابط فی التعارض : امتناع اجتماع مدلولیهما فی الوعاء المناسب لهما ، إمّا من ناحیه تکوینیّه ، أو من ناحیه تشریعیّه».
أو یقال بعباره جامعه : «الضابط فی التعارض ، تکاذب الدلیلین علی وجه یمتنع اجتماع صدق أحدهما مع صدق الآخر».
ومن هنا یعلم أنّ التعارض لیس وصفا للمدلولین – کما قیل – (1) ، بل المدلولان یوصفان بأنّهما متنافیان ، لا متعارضان. وإنّما التعارض وصف للدلیلین بما هما دلیلان علی أمرین متنافیین لا یجتمعان ؛ لأنّ امتناع صدق الدلیلین معا ، وتکاذبهما إنّما ینشأ من تنافی المدلولین ؛ ولأجل هذا قال صاحب الکفایه : «التعارض هو تنافی الدلیلین أو الأدلّه بحسب الدلاله ومقام الإثبات». (2) فحصر التعارض فی مقام الإثبات ، ومرحله الدلاله.
4. أن یکون کلّ من الدلیلین واجدا لشرائط الحجّیّه ، بمعنی أنّ کلاّ منهما – لو خلّی ونفسه ، ولم یحصل ما یعارضه – لکان حجّه یجب العمل بموجبه ، وإن کان أحدهما – لا علی التعیین – بمجرّد التعارض یسقط عن الحجّیّه بالفعل.
والسرّ فی ذلک واضح ؛ فإنّه لو کان أحدهما غیر واجد لشرائط الحجّیّه فی نفسه
[شماره صفحه واقعی : 546]
ص: 1047
لا یصلح أن یکون مکذّبا لما هو حجّه ، وإن کان منافیا له فی مدلوله فلا یکون معارضا له ، لما قلنا من أنّ التعارض وصف للدالّین بما هما دالاّن فی مقام الإثبات ، وإذ لا إثبات فیما هو غیر حجّه فلا یکذّب ما فیه الإثبات ؛ إذن ، لا تعارض بین الحجّه واللاحجّه ، کما لا تعارض بین اللاحجّتین.
ومن هنا یتّضح أنّه لو کان هناک خبر – مثلا – غیر واجد لشرائط الحجّیّه ، واشتبه بما هو واجد لها ، فإنّ الخبرین لا یدخلان فی باب التعارض ، فلا تجری علیهما أحکامه وقواعده ، وإن کان من جهه العلم بکذب أحدهما حالهما حال المتعارضین. نعم ، فی مثل هذین الخبرین تجری قواعد العلم الإجمالیّ.
5. ألاّ یکون الدلیلان متزاحمین ؛ فإنّ للتعارض قواعد غیر قواعد التزاحم علی ما یأتی ، (1) وإن کان المتعارضان یشترکان مع المتزاحمین فی جهه واحده ، وهی امتناع اجتماع الحکمین فی التحقّق فی موردهما ، ولکنّ الفرق فی جهه الامتناع ، فإنّه فی التعارض من جهه التشریع ، فیتکاذب الدلیلان ، وفی التزاحم من جهه الامتثال ، فلا یتکاذبان. ولا بدّ من إفراد بحث مستقلّ فی بیان الفرق ، کما سیأتی. (2)
6. ألاّ یکون أحد الدلیلین حاکما علی الآخر.
7. ألاّ یکون أحدهما واردا علی الآخر.
وسیأتی أنّ الحکومه والورود یرفعان التعارض والتکاذب بین الدلیلین. (3) ولا بدّ من إفراد بحث عنهما أیضا ، فإنّه أمر أساسیّ فی تحقیق التعارض وفهمه.
3. الفرق بین التعارض و التزاحم
تقدّم (4) بیان الحقّ الذی ینبغی أن یعوّل علیه فی سرّ التفرقه بین بابی التعارض والتزاحم ، ثمّ بینهما ، وبین باب اجتماع الأمر والنهی.
[شماره صفحه واقعی : 547]
ص: 1048
وخلاصته أنّ التعارض – فی خصوص مورد العامّین من وجه – إنّما یحصل حیث تکون لکلّ منهما دلاله التزامیّه علی نفی حکم الآخر فی مورد الاجتماع بینهما ، فیتکاذبان من هذه الجهه. وأمّا : إذا لم یکن للعامّین من وجه مثل هذه الدلاله الالتزامیّه فلا تعارض بینهما ، إذ لا تکاذب بینهما فی مقام الجعل والتشریع.
وحینئذ – أی حینما یفقدان تلک الدلاله الالتزامیّه – لو امتنع علی المکلّف أن یجمع بینهما فی الامتثال لأیّ سبب من الأسباب ، فإنّ الأمر فی مقام الامتثال یدور بینهما ، بأن یمتثل إمّا هذا أو ذاک. وهنا یقع التزاحم بین الحکمین ، وطبعا إنّما یفرض ذلک فیما إذا کان الحکمان إلزامیّین.
ومن أجل هذا قلنا – فی الشرط الخامس من شروط التعارض – : «إنّ امتناع اجتماع الحکمین فی التحقّق إذا کان فی مقام التشریع دخل الدلیلان فی باب التعارض ؛ لأنّهما حینئذ یتکاذبان. أمّا إذا کان الامتناع فی مقام الامتثال دخلا فی باب التزاحم ؛ إذ لا تکاذب حینئذ بین الدلیلین».
وهذا هو الفرق الحقیقیّ بین باب التعارض وباب التزاحم فی أیّ مورد یفرض ؛ وینبغی ألاّ یغیب عن بال الطالب أنّه حینما ذکرنا العامّین من وجه فقط فی مقام التفرقه بین البابین – کما تقدّم فی الجزء الثانی (1) – لم نذکره لأجل اختصاص البابین بالعامّین من وجه ، بل لأنّ العامّین من وجه موضع شبهه عدم التفرقه بین البابین ثمّ بینهما وبین باب اجتماع الأمر والنهی. وقد سبق تفصیل ذلک هناک ، فراجع.
وعلیه ، فالضابط فی التفرقه بین البابین – کما أشرنا إلیه أکثر من مرّه – هو أنّ الدلیلین یکونان متعارضین إذا تکاذبا فی مقام التشریع ، ویکونان متزاحمین إذا امتنع الجمع بینهما فی مقام الامتثال مع عدم التکاذب فی مقام التشریع.
وفی تعارض الأدلّه قواعد للترجیح ستأتی ، وقد عقد هذا الباب لأجلها ، وینحصر الترجیح فیها بقوّه السند أو الدلاله.
وأمّا : التزاحم فله قواعد أخری تتّصل بالحکم نفسه ، ولا ترتبط بالسند أو الدلاله.
[شماره صفحه واقعی : 548]
ص: 1049
ولا ینبغی أن یخلو کتابنا من الإشاره إلیها. وهذه خیر مناسبه لذکرها ، فنقول :
4. تعادل و تراجیح المتزاحمین
لا شکّ فی أنّه إذا تعادل المتزاحمان فی جمیع جهات الترجیح الآتیه فإنّ الحکم فیهما هو التخییر. وهذا أمر محلّ اتّفاق وإن وقع الخلاف فی تعادل المتعارضین أنّه یقتضی التساقط ، أو التخییر علی ما سیأتی. (1)
وفی الحقیقه أنّ هذا التخییر إنّما یحکم به العقل ، والمراد به العقل العملیّ.
بیان ذلک أنّه بعد فرض عدم إمکان الجمع فی الامتثال بین الحکمین المتزاحمین ، وعدم جواز ترکهما معا ، ولا مرجّح لأحدهما علی الآخر ، حسب الفرض ، ویستحیل الترجیح بلا مرجّح ، فلا مناص من أن یترک الأمر إلی اختیار المکلّف نفسه ؛ إذ یستحیل بقاء التکلیف الفعلیّ فی کلّ منهما ، ولا موجب لسقوط التکلیف فیهما معا. وهذا الحکم العقلیّ ممّا تطابقت علیه آراء